نزار الجليدي يكتب/ بين العقوبات والتحالفات: الرياض وطهران في قلب التحوّل - صوت الضفتين

نزار الجليدي يكتب/ بين العقوبات والتحالفات: الرياض وطهران في قلب التحوّل

نزار الجليدي
نزار الجليدي

في نيويورك، أعادت أوروبا تفعيل آلية العقوبات الأممية ضد إيران، في خطوة هي الأولى منذ أكثر من عشر سنوات. لكن خلف هذا “النجاح الإجرائي“، أظهرت طهران قدرة مدروسة على الصمود: استدعت سفراءها من باريس وبرلين ولندن، وتحمّلت انهيار الريال، لكنها احتفظت بأوراقها النووية والعسكرية. واللافت أن المستفيدين الحقيقيين يبدون في مكان آخر — في بكين وموسكو.

الأيام الأخيرة من أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة كشفت عن صدع متزايد. فالدول الثلاث الأوروبية (فرنسا، ألمانيا، بريطانيا) فعّلت نظام “سناب باك” للعقوبات بمبرر “غياب الشفافية” في البرنامج النووي الإيراني. وفي طهران جاءت الردود سريعاً: استدعاء الدبلوماسيين، تراجع غير مسبوق للعملة في السوق السوداء، وخطاب سياسي صارم. الرئيس الايراني مسعود بزشكيان شدّد قائلاً: “لو كان الهدف هو معالجة المخاوف بشأن الملف النووي لفعلنا ذلك بسهولة. لكن طالما أن إسرائيل والولايات المتحدة تستخدمان الضغط لقلب النظام، فلن يكون هناك أي اتفاق”.

الأوروبيون قدّموا خطوتهم على أنها “انتصار قانوني“. ففي رسالة رسمية، برّرت باريس ولندن وبرلين اللجوء إلى الآلية الأممية بما وصفته “إخلالاً جوهرياً” من جانب طهران بالتزاماتها. غير أن النتيجة على الأرض لم تعكس صورة دولة منهارة أو محاصرة.
صحيح أن الريال الإيراني سجّل مستوى تاريخياً متدنياً — أكثر من 1.1 مليون ريال مقابل الدولار — وأن العقوبات المعاد فرضها تستهدف قطاعات استراتيجية: النووي، المصارف، النقل البحري، الجيش. لكن إيران ردّت من دون التنازل عن خطوطها الحمراء. بزشكيان كرّر من على منبر الأمم المتحدة: “إيران لن تبني سلاحاً نووياً“. وفي الوقت نفسه، أكّدت الوكالة الدولية للطاقة الذرية استئناف عمليات تفتيش جزئية في مواقع حساسة، ما يمنح طهران غطاءً دبلوماسياً أساسياً من دون أن تتخلى عن استقلال قرارها.
أما روسيا والصين فاعتبرتا القرار الأوروبي “باطلاً ولاغياً“. نائب المندوب الروسي ديمتري بوليانسكي شدّد على “عدم شرعية” إجراء أُطلق من دون توافق، فيما وعدت بكين بالاستمرار في شراء النفط الإيراني رغم التهديد بعقوبات ثانوية. في المقابل، أظهر دونالد ترامب غموضاً محسوباً: مبعوثه ستيف ويتكوف اعتبر أن “سناب باك هو العلاج المناسب للوضع“، لكنه أضاف: “نحن على تواصل، ونحن نتحدث مع إيران“.
وسط هذه المواقف المتباينة، تقدّم إيران نفسها لا كدولة معزولة بل كفاعل يمتص الصدمات ويحافظ على زمام المبادرة. باختيارها البقاء في معاهدة حظر الانتشار النووي رغم الضغوط، ترسل طهران إشارة استراتيجية: الصمود، تجنّب أي ذريعة للحرب، والإبقاء على أدوات النفوذ الإقليمي كاملة.

الرياض وطهران: تقارب خافت لكنه استراتيجي

إلى جانب العقوبات، يتشكل مسار آخر أكثر هدوءاً: اليد الممدودة من حزب الله الّبناني نحو المملكة العربية السعودية، بتشجيع مباشر من طهران. نائب الأمين العام للحزب، نعيم قاسم، وجّه نداء غير معتاد: “فتح صفحة جديدة مع السعودية“، من أجل “تجاوز الخلافات الماضية” والتفرغ لمواجهة إسرائيل. وبحسب مصادر متعددة، لم يكن هذا النداء عفوياً، بل جاء بدفع من علي لاريجاني، مستشار المرشد الأعلى الإيراني، عقب زيارة سرية إلى الرياض.
هذه الدبلوماسية الموازية تعكس براغماتية إيرانية واضحة. فطهران تدرك أن نفوذها في لبنان تراجع بعد خسائر الحزب في حرب الصيف الماضي. الحساب بسيط: بدلاً من ترك حليفها يغرق في عزلة متزايدة، تشجّعه على القيام بخطوة انفتاح تجاه خصمه التاريخي. الرياض، المتمسكة بمبدئها الثابت – أن الدولة وحدها تحتكر السلاح – لم تُبد تجاوباً. لكن مجرد وجود هذه المحاولة يكشف عن تحول في المقاربة: إيران تسعى إلى تفكيك بعض الجبهات لتثبيت جبهات أخرى.
في الخلفية، تبدو موسكو وبكين في موقع المستفيد. روسيا، الغارقة في عزلتها الغربية، تبحث عن توسيع نادي “المعاقَبين الصامدين“. أما الصين فترى في محور سعودي–إيراني صمام أمان للطاقة العالمية: اثنان من كبار مصدّري النفط يتحدثان اليوم بلغة منسّقة على الأقل. شي جين بينغ، الذي رعى اتفاق التقارب بين الرياض وطهران عام 2023، يستطيع أن يفاخر بإنجاز دبلوماسي ينتقص أكثر من النفوذ الأمريكي في المنطقة.
أما الأوروبيون، فيظهرون كأكبر الخاسرين في هذه المعادلة – وفي كل المعادلات، فعلياً. صحيح أن الترويكا الأوروبية (فرنسا، ألمانيا، بريطانيا) انتزعت انتصاراً إجرائياً في مجلس الأمن، لكنها تزداد عزلة داخل معسكر غربي نفسه لم يعد متماسكاً. فواشنطن، رغم فرضها عقوبات على شركات صينية مرتبطة بالنفط الإيراني، تدرك أن اعتماد العالم على الطاقة يجعل هذه الإجراءات محدودة التأثير.

اللعبة الأمريكية، المخاطر الإيرانية وإعادة تشكيل “الهلال السني”

يقع التناقض الأمريكي في قلب المشهد الحالي. فواشنطن تعلن رسمياً موقفاً متشدداً: “هذا القرار يرسّخ معادلة زائفة وخطيرة بين إسرائيل وحماس. لا يمكن أن تكون هناك مساواة بينهما، نقطة إلى السطر“، قالت المندوبة الأمريكية في الأمم المتحدة وهي تبرر الفيتو ضد وقف إطلاق النار في غزة. وفي السياق ذاته ذكّرت أن “الرئيس ترامب أوضح أن على حماس إطلاق سراح 48 رهينة فوراً“. هذا الخطاب ينسجم مع منطق الدعم الأمريكي المطلق للكيان الصهيوني، لكنه يعقّد حسابات الرياض، إذ إن كل خطوة سعودية تجاه طهران تُرصد بدقة في واشنطن، ولا شيء يشير إلى أن البيت الأبيض يريد إفشال تقارب قد يستخدمه كورقة ضغط في مواجهة الصين.
أما إيران، فهي تمسك العصا من الوسط. تقبل بعودة العقوبات، التي وصفها الرئيس مسعود بزشكيان بأنها “ذريعة سطحية لإشعال المنطقة“، لكنها ترفض الانزلاق نحو خيار نووي عسكري: “إيران لن تسعى أبداً للحصول على السلاح الذري“، كرر بزشكيان. ومع ذلك، لا يمنع هذا الخطاب الدفاعي طهران من التلويح بقدرتها على الإيذاء. فقد استغل الحرس الثوري الإيراني إحياء ذكرى في بيروت ليؤكد أن “المقاومة الفاعلة والذكية تبقى الطريق الوحيد لمواجهة التوسع الإسرائيلي”. بمعنى آخر: العقوبات الاقتصادية لن تُخضع نظاماً صمد لأكثر من أربعة عقود من الحصار والعزلة.
في هذا السياق، تبرز إعادة تشكيل الهلال السني كعامل ثقيل الوزن. السعودية وتركيا حاولتا خلال السنوات الأخيرة بناء تحالف غير رسمي لموازنة النفوذ الإيراني الشيعي. لكن التطورات الإقليمية أضعفت هذه المعادلة. فأنقرة، المنشغلة بطموحاتها في المتوسط والقوقاز، باتت تنظر إلى طهران كشريك تكتيكي أكثر منه عدواً دائماً. أما الرياض، فهي مضطرة للموازنة بين دورها كركيزة في العالم العربي وبين الحاجة إلى حوار مع إيران لضبط حدودها وتأمين مشاريعها الاقتصادية، وفي مقدمتها “رؤية 2030″.
في الواقع، تنجح إيران في لعب رهان محفوف بالمخاطر: التسلل إلى هذا الهلال السني من دون محاولة تفجيره، بل عبر تقديم نفسها كقوة لا غنى عنها في أي هيكلية إقليمية. ما كان يبدو مستحيلاً قبل خمس سنوات — أن تجتمع الرياض وأنقرة وطهران حول نقاش نظام إقليمي واحد — أصبح اليوم معطىً قائماً. بالنسبة لبكين وموسكو، يشكل ذلك مكسباً صافياً: الصين تضمن ممرها الطاقي، وروسيا تعزز مرتكزاتها السياسية في الخليج والمتوسط. أما الأوروبيون، فهم مرة أخرى أكبر الخاسرين، يراقبون كمجرد متفرجين نشوء محور جديد تتضاءل فيه مكانة صوتهم يوماً بعد يوم.

المصالح الأمريكية خلف “سناب باك”

إذا كانت واشنطن قد سمحت بهامش تقارب حذر بين الرياض وطهران، فذلك يعود جزئياً إلى امتلاكها أوراقاً أخرى تبقيها صاحبة اليد العليا في المشهد الإقليمي. اللجوء إلى آلية “سناب باك”، التي تعيد تفعيل العقوبات الأممية ضد إيران، يعكس هذه المقاربة. كما يوضح تقرير صادر عن معهد واشنطن: “قد يكون لهذا الإجراء أثر سياسي يفوق كثيراً أثره الاقتصادي — فالمصالح الأمريكية تُخدم بشكل أفضل عبر تغذية هواجس طهران أكثر من محاولة فرض تطبيق صارم للعقوبات”.
وراء هذه الاستراتيجية تكمن هاجسان مزدوجان. الأول: طمأنة إسرائيل ودول الخليج إلى متانة المظلة الأمنية الأمريكية. بنيامين نتنياهو أعاد التذكير بذلك مؤخراً حين دعا المجتمع الدولي إلى “عدم تأجيل السناب باك“، ملمحاً إلى أن بلاده قد تعاود استهداف المنشآت النووية الإيرانية. الثاني: رغبة واشنطن في تفادي أن يُفهم التهدئة السعودية–الإيرانية كدليل على تراجع نفوذها لصالح الروس أو الصينيين. وفي تقرير لمعهد الشرق الأوسط، شددت الولايات المتحدة على ضرورة “حماية الحلفاء الإقليميين من التهديدات الإيرانية” مع التصدي لتصاعد نفوذ القوى المنافسة.
المصلحة الأمريكية هنا اقتصادية أيضاً. عبر استهداف شبكات النقل البحري الإيرانية وطرق الالتفاف على العقوبات، تسعى واشنطن إلى تقليص عائدات النفط الإيرانية وإضعاف قدرة طهران على تمويل حلفائها الإقليميين. وكما لخّص ستيف ويتكوف، المبعوث الأمريكي للشرق الأوسط: “السناب باك هو العلاج المناسب للوضع”. كلمة “علاج” كاشفة: المقصود ليس إنهاء المرض، بل إبقاء إيران في حالة هشاشة واعتماد، حتى ولو حمل ذلك تناقضات مع خطاب الانفتاح على الحوار.
غير أن هذا الحساب ينطوي على مخاطر. فالمبالغة في الضغط قد تدفع طهران إلى رفع مستوى التخصيب أو التلويح بالانسحاب من بعض بنود معاهدة حظر الانتشار النووي. ومن الآثار الجانبية أيضاً احتمال دفع الرياض، الحريصة على ألا تبدو أسيرة الأجندة الأمريكية، إلى تسريع تنويع شراكاتها باتجاه الصين أو روسيا. بذلك، قد تتحول الأداة التي تعرضها واشنطن كوسيلة استقرار إلى عامل يفاقم الانقسامات في منطقة تفتقر أصلاً إلى التوازنات الراسخة.

إيران واستراتيجية المخاطرة المحسوبة

أمام عودة العقوبات الأممية والضغط الإسرائيلي–الأمريكي، تراهن طهران على استراتيجية ذات حدّين: إظهار قدرتها على الصمود مع فتح مسارات تكتيكية مدروسة. الرئيس مسعود بزشكيان شدّد قائلاً: “لا يمكن لأي اتفاق أن يرى النور ما دامت إسرائيل والولايات المتحدة تستعملان الضغط كأداة لقلب النظام”. هذا الخطاب، البعيد عن كونه دفاعياً بحتاً، يستهدف إقناع الشركاء المحتملين بأن الجمهورية الإسلامية فاعل عاقل، متمسّك بسيادته، لكنه لا يسعى إلى قطيعة لا رجعة فيها.
فعلياً، تمارس إيران لعبة دقيقة. فهي تقبل بعودة جزئية لتفتيش الوكالة الدولية للطاقة الذرية، لكنها ترفض أي تنازلات إضافية، مفضّلة نقل الضغط إلى خصومها. الفكرة هي الحفاظ على “منطقة رمادية“: تعاون كافٍ لتجنّب إدانة جماعية، وتشدد كافٍ لإظهار الاستقلالية.
هذا الحساب يمتد أيضاً إلى الساحة الإقليمية. من خلال تشجيع حزب الله على مد اليد إلى السعودية، تختبر إيران صلابة الخطوط الحمراء الأمريكية، وتدفع الرياض إلى الموازنة بين أجندة التهدئة وبين التزاماتها العسكريّة إلى جانب واشنطن. وكما نقلت صحيفة “الأخبار” اللبنانية عن مصدر قريب من الحزب: “نعيم قاسم لم يكن ليطلق دعوته لولا إشارة مباشرة من طهران”.
على المدى القصير، تدرك طهران أنها لن تتمكّن من منع إعادة فرض العقوبات. لكنها تأمل تحويل هذه القيود إلى ورقة قوة عبر تقديم نفسها كضحية لنظام دولي منحاز، وتعزيز روابطها مع موسكو وبكين اللتين تدينان علناً “السناب باك“. أمّا على المدى المتوسط، فهي تراهن على دور أكبر: أن تطرح نفسها كبديل موثوق لنظام يهيمن عليه الغرب، حتى وإن أثار ذلك المزيد من الريبة الأوروبية.
هذه الاستراتيجية القائمة على المخاطرة المحسوبة ليست بلا أخطار. فقد تدفع إسرائيل إلى تكثيف ضرباتها، أو تمنح واشنطن ذريعة لتشديد منظومتها العقابية. لكن من منظور طهران، هذا هو الثمن المطلوب لتجنّب صورة الدولة الضعيفة — وللاستمرار في نسج خيوط توازن إقليمي جديد، بخطوات هادئة ولكن ثابتة.

الطاقة ومسارات التجارة: التحوّل الحقيقي

بعيداً عن الملف النووي والتنافس العسكري، فإن التقارب الهادئ بين الرياض وطهران يعيد رسم الخريطة الطاقية العالمية. فالبلدان معاً يسيطران على ما يقارب 30% من الاحتياطات المؤكدة من النفط، وعلى قدرات تصديرية تظل حيوية بالنسبة لآسيا وأوروبا، وحتى – ولو بدرجة أقل – للولايات المتحدة. وإذا ما تعمّقت التنسيقات بين السعودية، القاطرة التقليدية لـ”أوبك+“، وإيران التي طالما همّشتها العقوبات، فإن توازن الأسواق النفطية برمّته سيكون على المحك.
الأوروبيون، الذين أضعفهم فقدان الغاز الروسي، سيجدون أنفسهم أكثر ارتهاناً لخليج بات أقرب إلى موسكو وبكين منه إلى واشنطن أو بروكسل. ما يسمّى “السناب باك” الأوروبي، الذي يفترض أن يعزل إيران، قد يسرّع في الواقع هذا التحوّل، بدفع الرياض إلى توسيع هامش مناوراتها مع الصين وروسيا. بكين، بصفتها أكبر مستورد للخام في العالم، سترسّخ بذلك استراتيجيتها بعيدة المدى لتأمين الطاقة، فيما تستفيد موسكو من تنسيق أشد داخل “كارتال نفطي” فعلي.
أما البعد التجاري فلا يقل خطورة. فمضيق هرمز، الذي يعبر منه خمس النفط العالمي، يبقى تحت النفوذ المباشر لإيران، بينما تعزز السعودية قبضتها على البحر الأحمر ومضيق باب المندب، المعبر الحيوي بين المحيط الهندي والبحر المتوسط. وإذا ما نسّق البلدان سياساتهما البحرية، فسيمتلكان معاً مفتاح المسارات الطاقية – والتجارية عموماً – بين آسيا وأفريقيا وأوروبا، في وقت تهتز فيه بالفعل سلامة الممرات البحرية بفعل المجازر الإسرائيلية في غزة والتوترات في البحر الأحمر. الرسالة واضحة: محور الرياض–طهران قادر على تجاوز الانقسامات الدينية والأيديولوجية ليصبح ورقة ضغط جيوستراتيجية عالمية.
هذا التحوّل في مركز الثقل نحو أوراسيا والمحيط الهندي ليس مجرّد سيناريو نظري. بل يعكس نشوء عالم جديد، حيث القرارات الطاقية والتجارية لم تعد تمر حصراً عبر واشنطن أو لندن أو بروكسل، بل عبر مثلث تعاون يربط الرياض بطهران وبكين، مع موسكو في الخلفية.

شارك المقال

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

French