السياحة الشاطئية التونسية: هل هي حقاً قاطرة اقتصاد أم مجرد وهم مكلف؟ - صوت الضفتين

السياحة الشاطئية التونسية: هل هي حقاً قاطرة اقتصاد أم مجرد وهم مكلف؟

بقلم محمد امين الجربي

​تُبشّرنا الأرقام الرسمية سنوياً بملايين السياح الذين يتدفقون على شواطئ تونس، وتُقدَّم لنا السياحة الشاطئية كحل سحري ومحرك أساسي للاقتصاد. لكن، هل تساءلنا يوماً عن الثمن الحقيقي وراء هذه الواجهة البراقة؟ هل هذه الملايين تترجم فعلاً إلى تنمية مستدامة، أم أننا ندور في حلقة مفرغة من نموذج سياحي هش، يستنزف مواردنا الطبيعية والبشرية مقابل فتات اقتصادي؟

​I. اقتصاد “الخمسة بالمائة”: مساهمة هزيلة لا تبرر الكلفة

​يُروَّج للقطاع السياحي كرافعة اقتصادية، لكن مساهمته الفعلية في الناتج المحلي الإجمالي بالكاد تتجاوز عتبة الـ 5%. فقد وصل الناتج المحلي الإجمالي المباشر من السياحة إلى 4.9% في عام 2023. هذه نسبة تبدو مثيرة للسخرية حين نقارنها بالضغوط الهائلة التي يفرضها هذا القطاع، خاصةً نموذجه الشاطئي المهيمن. هذا الفشل في تحقيق قيمة مضافة حقيقية ليس صدفة، بل هو نتيجة مباشرة لخيارات كارثية:
​فخ “الكل مشمول” الرخيص: إنفاق السائح المتدني وواقع السياحة الشاطئية
​الإصرار على استهداف سياحة جماهيرية منخفضة التكلفة، تجذب زواراً يقضون عطلتهم محبوسين داخل أسوار النزل، يستهلكون منتجات مدعومة، ولا يتركون أثراً يذكر في الاقتصاد المحلي الحقيقي. هو نموذج يخدم أصحاب الفنادق الكبرى، ولكنه يقتل فرص الصناعات التقليدية والمطاعم والنقل المحلي. إن الحديث عن أعداد الوافدين وحده لا يعكس الصورة الكاملة للواقع الاقتصادي للسياحة. فمتوسط إنفاق السائح في تونس لا يتجاوز 738 ديناراً تونسياً (حوالي 228 دولاراً أمريكياً)، وهو أقل بكثير مقارنة بدول منافسة مثل المغرب (720 دولاراً) ومصر (883.5 دولاراً). هذا الإنفاق المتدني يؤكد أن السياحة الشاطئية الحالية، رغم أعدادها الكبيرة، لا تساهم بفعالية في ضخ العملة الصعبة في شرايين الاقتصاد الوطني، بل تظل محصورة في جيوب الفنادق الكبرى التي تستفيد من دعم حكومي سخي. ويعود هذا إلى سيطرة وكلاء السفر الأجانب على سوق العطلات الشاملة (all-inclusive)، حيث يمارسون ضغوطاً هائلة على أصحاب الفنادق التونسيين لإبقاء الأسعار منخفضة مقابل الحصول على أعداد أكبر من السياح.
​دعم حكومي أعمى: استنزاف للموارد دون عائد حقيقي
​تستفيد هذه المؤسسات الفندقية من دعم سخي في الطاقة والمياه والمواد الأساسية، وكأنها قطاع استراتيجي حيوي، بينما مردودها الصافي للدولة والمجتمع يبقى محل تساؤل كبير. دعم يثقل كاهل الميزانية ويُحوَّل من قطاعات أولى بالتنمية. على سبيل المثال، بعد الهجوم الإرهابي في سوسة عام 2015، أقدمت الحكومة التونسية على تقديم دعم مباشر لأصحاب الفنادق من خلال منحهم تمديداً لفواتير الغاز والماء والكهرباء، في محاولة للحفاظ على استمرارية القطاع المتضرر. هذا الدعم، وإن كان يهدف إلى مساعدة الفنادق على الصمود، فإنه لم يمنع عشرات المؤسسات من الإغلاق، مما كشف عن أن الدعم الحكومي لم يكن حلاً مستداماً للقطاع الهش.
​تجاهل متعمد لكنوز تونس: لماذا الإصرار على الشاطئ فقط؟
​لماذا الإصرار على الشاطئ فقط بينما تمتلك تونس ثروة أثرية وثقافية وبيئية وصحراوية هائلة مهملة؟ ثمانية مواقع تراث عالمي تنتظر الاستثمار، مثل قرطاج ومدرج الجم الأثري ، ومناطق داخلية بأكملها يمكن أن تتحول إلى وجهات سياحية بديلة ذات قيمة مضافة عالية، قادرة على جذب سياح ينفقون أكثر ويبحثون عن تجارب حقيقية.

​II. تدمير ممنهج للبيئة: الساحل يدفع الفاتورة

​إن التوسع العمراني السياحي الجشع، وغياب أي رادع بيئي حقيقي، حوّل أجزاء واسعة من ساحلنا إلى خراب بيئي. الكلفة باهظة وتتجلى بوضوح في:
​نهب الموارد المائية: السياحة الشاطئية وتهديد الأمن المائي
​كيف يُعقل أن يلتهم قطاع السياحة الشاطئي وحده ملايين الأمتار المكعبة من مياهنا الشحيحة سنوياً؟ ففي عام 2016، استهلك قطاع السياحة 11.8 مليون متر مكعب من المياه ، في بلد يعاني من إجهاد مائي مزمن ويهدده شبح العطش. ويُظهر مثال جزيرة جربة أن السياحة كانت مسؤولة عن 25% من إجمالي استهلاك المياه في الجزيرة عام 2017 ، مما يؤكد أن القطاع يمثل استنزافاً مباشراً لمورد حيوي على حساب المواطن والفلاحة.
​بحر ملوث وشواطئ تحتضر: تدهور بيئي يهدد الجاذبية السياحية
​الصرف الصحي المتخلف، والتسريب المتعمد للمياه العادمة، وتلال النفايات التي تخلفها أفواج السياح، كلها حولت بحرنا إلى مصب للملوثات. تُظهر تقارير بيئية أن وكالة الصرف الصحي الوطنية (ONAS) تُتهم بتصريف المياه العادمة غير المعالجة في البحر، خاصة في مناطق مثل المنستير، بسبب تجاوز حجم النفايات قدرة المحطات. كما تتسبب المصانع، خاصة في قابس، في تلوث البحر بمواد كيميائية مثل الفوسفوجيبسوم، مما يؤثر على الحياة البحرية والثروة السمكية ويهدد صحة الإنسان. إن هذا التلوث قد أدى بالفعل إلى انتشار بكتيريا ضارة وتسبب في أمراض جلدية وكشف عن وجود بكتيريا مقاومة للمضادات الحيوية في المياه الساحلية. كما أن التدهور البيئي قد أدى إلى تراجع اقتصادي في مناطق كانت تعتمد على السياحة، مما دفع بالعديد من الصيادين إلى تغيير مهنتهم أو اللجوء إلى أنشطة غير قانونية.
​الساحل يتآكل ويختفي: خطر يهدد البنية التحتية السياحية
​الزحف الإسمنتي على الكثبان الرملية، وتغير المناخ، عوامل تتضافر لتسرّع من عملية انجراف الشواطئ بمعدلات مخيفة. تشير البيانات إلى أن أكثر من 35% من الشواطئ التونسية تعاني من التآكل، وأن معدل التآكل يصل إلى 0.70 متر سنوياً في بعض المناطق. إن التكلفة الاقتصادية لهذا التآكل قد تصل إلى 2.3 مليار دولار بين عامي 2030 و2050. إنها كارثة بيئية واقتصادية مكتملة الأركان.

​III. تنمية زائفة: من يقطف ثمار السياحة حقاً؟

​تُباع لنا أسطورة أن السياحة تخلق الثروة للجميع، لكن الواقع على الأرض يكشف حقيقة مختلفة تماماً:
​مصادرة الشواطئ: حرمان المواطن من حقه الطبيعي
​أصبح الوصول إلى البحر امتيازاً في العديد من المناطق، حيث تستولي النزل والمؤسسات السياحية على الملك العمومي البحري، وتحرم التونسيين من حقهم الطبيعي في التمتع بشواطئ بلادهم. إن هذا النموذج السياحي “المغلق” لا يقتصر على حرمان المواطنين من حقهم في الفضاء العام، بل يمتد إلى إقصائهم من الاستفادة الاقتصادية المباشرة من هذا القطاع.
​فتات للمجتمع المحلي: وظائف موسمية دون تنمية حقيقية
​تذهب الأرباح الطائلة للشركات الكبرى والمستثمرين، بينما يقتات السكان المحليون على وظائف موسمية مذلة بأجور زهيدة وظروف عمل قاسية. هذا الوضع يخلق حالة من الإحباط واليأس، ويدفع بالعديد من الشباب إلى البحث عن فرص في الخارج عبر طرق غير نظامية. إن هذا النموذج لا يوفر وظائف مستدامة أو مهارات قابلة للتطوير، مما يفاقم من مشكلة البطالة بين الشباب.
​البنية التحتية تحت الضغط: عبء على المجتمعات المحلية
​تتحمل المجتمعات المحلية وحدها عبء الضغط الهائل على الطرقات والمياه والكهرباء والنظافة خلال أشهر الصيف، دون أن تحصل على استثمارات كافية لمواجهة هذا الضغط أو لتحسين الخدمات الأساسية لسكانها.
​التونسي محروم في بلاده: سياحة باهظة للوطن ورخيصة للأجنبي
​يتمثل أحد أبرز تناقضات هذا النموذج السياحي في أن المواطن التونسي يجد صعوبة كبيرة في قضاء عطلة في بلاده مقارنة بالسائح الأجنبي. فبينما يسيطر وكلاء السفر الأجانب على سوق العطلات الشاملة (all-inclusive) ويحصلون على أسعار مخفضة للغاية مقابل حجز أعداد كبيرة من الغرف ، يُقدم للفنادق التونسية عروضاً بأسعار باهظة خلال فترات الذروة. هذا الواقع يؤكد أن القطاع يخدم بشكل أساسي المصالح الأجنبية على حساب المواطن، الذي أصبح يشعر بالغربة في شواطئ بلاده التي من المفترض أن تكون وجهته الأولى.
​IV. هشاشة السياحة الشاطئية: صدمات متتالية ونموذج تنموي هش
​إن السياحة الشاطئية، بطبيعتها، سريعة التأثر بالصدمات الخارجية، سواء كانت سياسية أو أمنية أو صحية. وقد شهدت تونس على مر السنين أمثلة صارخة على هذه الهشاشة، مما كشف عن ضعف النموذج التنموي القائم على هذا النوع من السياحة:
​عملية جربة 2002: في 11 أبريل 2002، تعرض كنيس الغريبة بجزيرة جربة لهجوم إرهابي أودى بحياة 21 شخصاً، معظمهم من السياح الألمان والفرنسيين. كانت هذه العملية بمثابة صدمة عنيفة للقطاع السياحي التونسي، وتسببت في تراجع كبير في أعداد السياح الوافدين.
​عملية الإمبريال بسوسة 2015: في 26 يونيو 2015، شهد فندق إمبريال مرحبا بمدينة سوسة هجوماً إرهابياً دموياً أسفر عن مقتل 38 سائحاً أجنبياً، معظمهم بريطانيون. كانت تداعيات هذه العملية كارثية على السياحة التونسية، حيث أدت إلى إلغاء واسع للحجوزات وسحب شركات السياحة الكبرى لرحلاتها إلى تونس. اضطرت عشرات الفنادق إلى الإغلاق، وتكبد القطاع خسائر اقتصادية فادحة تجاوزت مليار دينار تونسي، مع تسريح 2,400 موظف في الفنادق وحدها. هذه العملية كشفت بوضوح عن مدى هشاشة السياحة الشاطئية أمام التهديدات الإرهابية، وكيف يمكن لحدث واحد أن يدمر سنوات من الجهود الترويجية.
​حرب الخليج وتأثيرها على السياحة التونسية: لم تكن الأحداث الإرهابية وحدها هي التي كشفت عن هشاشة السياحة التونسية. فالحروب والأزمات الإقليمية، مثل حرب الخليج الأولى (1990-1991) والثانية (2003)، كان لها تأثير سلبي كبير على تدفق السياح إلى تونس. هذا يؤكد أن السياحة الشاطئية التونسية، لارتباطها الوثيق بالأسواق الأوروبية وحساسيتها للمخاطر الجيوسياسية، تظل رهينة للظروف الإقليمية والدولية، مما يجعلها غير قادرة على أن تكون قاطرة تنمية مستدامة بمفردها.

​V. الخروج من المأزق: هل نمتلك شجاعة التغيير؟

​إن الاستمرار في هذا النموذج الانتحاري هو جريمة في حق تونس ومستقبل أجيالها. الحلول موجودة وتتطلب فقط إرادة سياسية حقيقية وشجاعة لمواجهة لوبيات المصالح. لا بد من:
​ثورة في التنويع السياحي: الانتقال من نموذج “الشمس والبحر والرمال” إلى سياحة بديلة مستدامة، مع الاستثمار الجدي والحقيقي في السياحة الثقافية والبيئية والصحراوية والعلاجية. تمتلك تونس ثمانية مواقع للتراث العالمي ، وهي جزء من رؤية استراتيجية وطنية للسياحة المستدامة 2035 التي تهدف إلى تنويع المنتجات السياحية. هناك بالفعل مشاريع رائدة مثل مبادرة “دار العين” التي تدعم السياحة البيئية في المناطق الريفية وتساهم في تمكين النساء اقتصادياً، ومشاريع أخرى مثل “الفالقة” التي تروج للسياحة المستدامة التي تحترم الطبيعة والثقافة المحلية. كما أن تونس تتمتع بإرث غني في السياحة الاستشفائية، خاصة “مراكز العلاج بمياه البحر” (Thalassotherapy) التي تحظى بسمعة دولية ، ويمكن تطويرها لتصبح وجهة رئيسية للسياحة العلاجية على مدار العام.
​وقف نزيف الدعم العبثي: إعادة توجيه الدعم الحكومي نحو المشاريع المستدامة التي تحترم البيئة وتشرك المجتمع المحلي، ومحاسبة المؤسسات الفندقية على التزاماتها البيئية والاجتماعية.
​تطبيق القانون البيئي بلا هوادة: فرض رقابة صارمة وعقوبات رادعة على كل من يلوث بحرنا ويستنزف مياهنا ويدمر ساحلنا. لا تسامح مع الجرائم البيئية.
​تحرير الشواطئ: استعادة الملك العمومي البحري وتطبيق القانون بحزم لضمان حق كل تونسي في الوصول الحر إلى شواطئ بلاده.
​تمكين المجتمعات المحلية: تشجيع ودعم المبادرات السياحية المحلية التي تضمن عائداً مباشراً للسكان وتحافظ على هويتهم الثقافية والبيئية.

​VI. خاتمة: كفى وهماً.. نريد سياحة تخدم تونس!

​لقد حان الوقت لنتوقف عن الانبهار بأرقام السياح الوافدين وننظر بجدية إلى نوعية السياحة التي نريدها لتونس. هل نريد سياحة تستهلك مواردنا وتتركنا أكثر فقراً وتلوثاً؟ أم نريد سياحة مستدامة، تحترم بيئتنا، تساهم فعلاً في تنمية اقتصادنا، وتعود بالنفع على جميع التونسيين؟ إن الانتقال من وهم “الكم” إلى حقيقة “الكيف” ليس خياراً، بل هو ضرورة وجودية لمستقبل هذا الوطن.

شارك المقال

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

French