زيت الزيتون التونسي: صابة وفيرة ومداخيل هزيلة… أين ضاع الذهب الأخضر هذا العام؟
بقلم محمد امين الجربي

مرة أخرى، تطالعنا الأرقام الرسمية بصورة متناقضة لقطاع زيت الزيتون التونسي: حديث عن صابة قياسية وكميات مُصدَّرة تفوق الموسم الماضي، لكن في المقابل، تنهار المداخيل بشكل مفزع.
هل هي مجرد لعنة أسعار عالمية متقلبة، أم أننا أمام فشل استراتيجي متكرر يكشف عجزنا المزمن عن تحويل “الذهب الأخضر” إلى ثروة حقيقية ومستدامة للبلاد؟
لماذا تواصل تونس تصدير كميات أكبر لجني أموال أقل؟
مفارقة الأرقام: كيف نصدر أكثر ونقبض أقل؟
تكشف بيانات الأشهر الأولى من موسم نوفمبر–أفريل عن حقيقة صادمة:
رغم ارتفاع الكميات المصدَّرة من زيت الزيتون مقارنة بنفس الفترة من الموسم الماضي، تراجعت قيمة هذه الصادرات بنسبة كارثية وفقًا للمرصد الوطني للفلاحة.
هذا يعني أننا نبيع كميات أكبر من زيتنا الثمين بسعر أقل بكثير.
إنها معادلة خاسرة بامتياز، وتطرح سؤالًا جوهريًا حول جدوى سياساتنا التصديرية الحالية.
انهيار الأسعار العالمية: شماعة جاهزة أم كشف للعورة؟
يسارع المسؤولون والمحللون إلى تعليق هذا الفشل على شماعة انهيار الأسعار في السوق العالمية، وهو أمر صحيح جزئيًا.
فقد شهدت أسعار زيت الزيتون تراجعًا حادًا مقارنة بالأسعار القياسية المسجلة في الموسم السابق، بسبب تعافي الإنتاج في دول منافسة مثل إسبانيا وإيطاليا.
لكن، هل يكفي هذا لتبرير عجزنا؟ ألا يكشف هذا الانهيار عن هشاشة نموذجنا التصديري الذي يظل رهين تقلبات سوق لا نملك فيها أي قدرة على التأثير؟
الاعتماد الكلي على أسعار عالمية متقلبة هو وصفة مضمونة لعدم الاستقرار.
لعنة “زيت الصبة”: لماذا نصرّ على بيع كنزنا بالرخيص؟
تكمن المشكلة في إصرارنا الغريب على تصدير الجزء الأكبر من إنتاجنا كـ”زيت صبة” — زيت سائب غير معلب، يُباع بأسعار بخسة للمعبئين والمصنعين في إيطاليا وإسبانيا، الذين يقومون بتعبئته تحت علاماتهم التجارية وبيعه بأسعار مضاعفة.
إننا نتنازل طواعية عن القيمة المضافة الأكبر ونحرم أنفسنا من بناء علامة تجارية تونسية قوية قادرة على المنافسة وفرض أسعار مجزية.
كم من الملايين تضيع سنويًا بسبب هذا التقاعس عن الاستثمار في التعليب والتسويق وبناء هوية لزيتنا؟
الفلاح التونسي: الحلقة الأضعف في معادلة فاشلة
في نهاية المطاف، من يدفع ثمن هذا التخبط وسوء الإدارة؟
إنه الفلاح التونسي، الذي يجد نفسه، رغم وفرة الصابة أحيانًا، محاصرًا بين كلفة إنتاج مرتفعة وأسعار شراء متدنية تفرضها عليه شبكات التصدير والمضاربين.
الفرحة بإنتاج وفير تتحول إلى خيبة أمل أمام انهيار الأسعار، مما يهدد استمرارية هذا القطاع الحيوي ويدفع بالكثيرين إلى هجر أراضيهم.
هل من مخرج؟ نحو استراتيجية وطنية حقيقية لزيت الزيتون
الاستمرار في نفس السياسات يعني تكرار نفس الفشل عامًا بعد عام.
لا بد من وقفة حازمة وتبني استراتيجية وطنية جريئة ترتكز على:
– الاستثمار المكثف في التعليب والتغليف
– دعم وتشجيع المصدرين والفلاحين على تعليب الزيت في تونس تحت علامات تجارية تونسية مبتكرة وجذابة
– بناء علامة تجارية وطنية قوية
– إطلاق حملات تسويقية دولية للتعريف بجودة وتنوع زيت الزيتون التونسي، والتركيز على شهادات الجودة والزيت البيولوجي
– تنويع الأسواق والبحث عن أسواق جديدة واعدة خارج الاتحاد الأوروبي لتقليل الاعتماد على الأسواق التقليدية المتقلبة
– دعم الجودة وتشجيع التنظيم عبر مساعدة الفلاحين على تحسين جودة الإنتاج والانخراط في هياكل تعاونية قادرة على التفاوض بشكل أفضل وحماية مصالحهم
– مكافحة الاحتكار والمضاربة وتنظيم السوق الداخلية لضمان حصول الفلاح على سعر عادل لمنتوجاته
خاتمة: الذهب الأخضر يستحق أفضل من هذا
إن تراجع مداخيل زيت الزيتون هذا العام ليس مجرد نتيجة لظرفية عالمية، بل هو انعكاس لفشل هيكلي في إدارة وتثمين أحد أهم ثروات تونس الطبيعية.
لقد حان الوقت لنتوقف عن بيع “ذهبنا الأخضر” بالرخيص، ونمتلك الشجاعة لوضع استراتيجية حقيقية تضمن لهذا القطاع مكانته اللائقة وتحقق عائدًا مجزيًا للفلاح وللاقتصاد الوطني.
تونس تستحق الأفضل، وزيت زيتونها يستحق الأفضل