عندما يُصبح البنك المركزي الأمريكي ساحة معركة سياسية دائمة!!

بقلم: محمد أمين الجربي (تحليل للواقع الراهن – أوت 2025)
لم يعد الصراع بين دونالد ترامب وجيروم باول مجرد ذكرى من ولاية سابقة أو تهديد مستقبلي، بل هو واقع يومي مُعاش في ظل الولاية الثانية لترامب كرئيس للولايات المتحدة . باول، رئيس الاحتياطي الفيدرالي، يجد نفسه في قلب عاصفة سياسية لا تهدأ، محاولاً الإبحار بسفينة السياسة النقدية بين مطرقة رئيس لا يتورع عن مهاجمة استقلالية المؤسسات، وسندان اقتصاد عالمي مُثقل بتحديات التضخم والديون المتراكمة. المعركة لم تعد حول “ماذا لو عاد ترامب؟”، بل حول “كيف ينجو الفيدرالي والاقتصاد العالمي من ولاية ترامب الثانية؟”. إنها معركة وجودية تدور رحاها الآن بين منطق الأسواق ومنطق البيت الأبيض.
I. ترامب في البيت الأبيض: الشعبوية تُحكم قبضتها على الاقتصاد
مع عودة ترامب الفعلية إلى السلطة، تحولت هجماته السابقة ضد الفيدرالي من مجرد تصريحات انتخابية إلى سياسة دولة مُعلنة. المطالبة المستمرة بخفض أسعار الفائدة، رغم بقاء التضخم فوق الهدف المنشود (حول 2.7% في يوليو 2025)، ووصف باول المستمر بـ”الأحمق” وتجديد التهديدات بإقالته، كلها مؤشرات على إصرار ترامب على إخضاع السياسة النقدية لأجندته السياسية. الهدف لم يتغير: هندسة اقتصاد يبدو مزدهراً سطحياً، حتى لو كان ذلك على حساب استقرار طويل الأمد أو تفاقم أزمة الديون. الهجوم الممنهج على استقلالية الفيدرالي لم يعد مجرد تكتيك، بل هو جزء من رؤية أوسع تسعى لتفكيك المؤسسات المستقلة وإحلال الولاء السياسي محل الخبرة الفنية.
II. باول تحت الحصار: صمود أم استسلام تدريجي؟
يواجه باول، في ظل رئاسة ترامب الحالية، ضغوطاً غير مسبوقة. ورغم محاولته الحفاظ على واجهة من الاستقلالية (إبقاء الفائدة عند 4.25%-4.5% حتى الآن)، فإن الأسواق والمراقبين يتساءلون عن مدى قدرته على الصمود في وجه رئيس لا يعرف حدوداً في ممارسة الضغط. التحديات تتفاقم:
– ضغط رئاسي مباشر ومستمر: الهجمات اليومية عبر وسائل الإعلام والتهديدات المباشرة تجعل مهمة باول شبه مستحيلة.
– تآكل الثقة المؤسسية: كل هجوم من ترامب يُضعف ثقة الأسواق والمجتمع الدولي في قدرة الفيدرالي على اتخاذ قرارات مستقلة.
– جبل الديون المتنامي: مع وصول الدين العام إلى 37 تريليون دولار (أغسطس 2025)، تصبح تكلفة خدمة هذا الدين باهظة مع كل نقطة فائدة، مما يُعطي ترامب حجة إضافية للمطالبة بخفض الفائدة بأي ثمن.
– معضلة التضخم: الإبقاء على الفائدة مرتفعة لمواجهة التضخم يُغضب الرئيس، وخفضها يُهدد بعودة التضخم الجامح وفقدان المصداقية.
III. الأرقام لا تكذب: شهادة على واقع مُقلق
الفترة: نهاية 2024، سعر الفائدة (نهاية الفترة): 4.5% (تقديري)، الدين العام (تريليون دولار): ~34، أبرز ضغوط ترامب (كرئيس حالي): بداية ولاية ثانية، تجديد الهجوم، التضخم (تقريبي): ~3.1%
الفترة: يوليو 2025، سعر الفائدة (نهاية الفترة): 4.25%-4.5%، الدين العام (تريليون دولار): 37، أبرز ضغوط ترامب (كرئيس حالي): وصف باول بـ”الأحمق”، تهديد بالإقالة، التضخم (تقريبي): 2.7%
البيانات تُظهر بوضوح أن الدين العام يواصل الارتفاع بشكل خطير في ظل ولاية ترامب الثانية، وأن الضغوط السياسية على الفيدرالي لم تهدأ رغم استمرار التحدي التضخمي. السؤال لم يعد نظرياً: ما هي العواقب الفعلية لهذا الصدام المستمر على الاقتصاد الأمريكي والعالمي؟
IV. الحرب المفتوحة: واشنطن تُحاصر استقلالية الفيدرالي
لم تعد حرباً باردة، بل هي حرب مفتوحة تُشن الآن من البيت الأبيض ضد استقلالية البنك المركزي. ترامب، بصفته الرئيس الحالي، يمتلك أدوات ضغط أكبر بكثير مما كان يمتلكه كمرشح أو رئيس سابق. محاولاته لتعيين محافظين موالين، والضغط لتغيير القوانين التي تحمي استقلالية الفيدرالي، كلها خطوات عملية تُهدد بتحويل هذه المؤسسة العريقة إلى مجرد إدارة تابعة للرئاسة. إنها معركة تُهدد بتقويض أحد أهم أعمدة النظام المالي العالمي، ليس من أجل مصلحة اقتصادية عامة، بل لخدمة أهداف سياسية آنية.
V. الكارثة تتكشف: تداعيات حكم ترامب على الفيدرالي والدولار
لم نعد نتحدث عن سيناريوهات، بل عن واقع بدأ يتشكل وتداعيات بدأت تظهر:
1. تآكل الاستقلالية واقعياً: حتى لو لم يتم إقالة باول أو تغيير القانون رسمياً، فإن الضغوط المستمرة تُجبر الفيدرالي على أخذ الحسابات السياسية في الاعتبار بشكل أكبر، مما يُضعف فعالية السياسة النقدية ومصداقيتها.
2. تسارع “إزالة الدولرة”: فقدان الثقة في استقلالية الفيدرالي وسياسات واشنطن المتقلبة يُعطي زخماً إضافياً للدول المنافسة (الصين، روسيا، وغيرها) لتطوير بدائل للدولار في التجارة والاحتياطيات الدولية. هذا لم يعد مجرد احتمال، بل هو مسار يتسارع الآن.
3. زيادة التقلبات والمخاطر: عدم اليقين السياسي والتدخل في السياسة النقدية يزيدان من تقلبات الأسواق المالية ويرفعان من مخاطر حدوث أزمات مالية، يتحمل عبئها في النهاية المواطن العادي والشركات الصغيرة.
VI. الخاتمة: هل يمكن إنقاذ ما يمكن إنقاذه؟
التاريخ علمنا أن استقلالية البنك المركزي ضرورية للاستقرار الاقتصادي طويل الأمد. ما نشهده اليوم في الولايات المتحدة تحت حكم ترامب هو محاولة لتجاهل هذا الدرس الأساسي. الصراع الدائر ليس مجرد خلاف حول أسعار الفائدة، بل هو اختبار لمستقبل الحوكمة الاقتصادية في أكبر اقتصاد في العالم، وتأثير ذلك على النظام المالي العالمي برمته. السؤال الملح الآن ليس “هل نسمح بانهيار السد؟”، بل “هل فات الأوان لإصلاح التصدعات العميقة التي أحدثتها الشعبوية في جدار استقلالية الفيدرالي؟”. الإجابة على هذا السؤال سترسم ملامح المشهد الاقتصادي العالمي للسنوات القادمة.