حفّار القبور وبائع العطور…
بقلم الكاتبة الجزائرية مريم عرجون
موت يركض في هودج الأرض على عكازتين في عجل، وإلى دروب مجهولة في هلع، ووجع عميق لا ينتزع، وهناك غلاما يتدثر في جو من الصمت، وفي عمق السكون، ووسط عاصفة تتأجج من حرب وألم، ينتحب سرا هموما ما لها مقل، يسير مكسورا بين مزالق، ومزالق، وقلبه ساكن في لهيب الذاكرة، يعانق كل يوم جمرة تبدأ بفأس، وظهر منحني، نازل بكل ثقله يتصبب عرقا، فيسوي المقاس، والشكل لنعوش ميلاد موصول بقبر، فيرقع عيون قاتمة، صامتة، عاقبتها إلى آخر الدهر عائمة، ثم تنتهي الجمرة بمجرفة تهيل التراب، وكأنه أعد حفرة تتثاءب فزعا من بجاد مخملي، يزفوه كل ثانية، كل ساعة وكل يوم، على أكتاف ثقلت، أو خفت موازينها، تسمو إلى ملكوت الله الذي ظلوا فيه يعرجون، أو كأنه يعد رحما معكوسة لطليعة هاوية، لا هي دفا ولا هي برد، يلف تفاصيلها جفن من تحت كفن، يترشف بعنف قبورا كنفت الحياة بدل الحياة، فاحتضنت صورا من أشكال الاحتضان الممتد، الذي يقطر خوفا من أرض لا تمل من استقبال أجساد محروقة،
فوق كتاب زمن مسطور، ومفتوح، لا يدركه إلا الله وحده، ووسط هذا التوتر الملموس على حواف العقل، يرسم حفار القبور الخيط الأخير لابتسامة مرهفة، يبدوا منها رجلا شديد المرأى، الذي جف مبعث الود عنده، فسار متمهلا يلم شظايا الأنين المتموه حوله، من ثقوب سوداء تنبع باللاواقعية، لمشاعر تعلق الأحزان في صمت حسب صلة الدم، والكل يمضي بعدها إلى فراغهم البائس، محملون بقلق المواجع، والمدامع، أما ذاك الغلام باقية على يديه تطفو حيرة الأكفان، وشأنه بين المقابر هناك حكى شؤون، لسنوات تنقله من شعائر إلى شعائر، ومن كابوس إلى كابوس، وإلى كابوس الشتائم المقذوفة إليه من الناس، وكأن عمله جريمة، لكنّما أحوجه إلى النَّظْرَة الحليمة، التي تمسح نِّظْرة الآخرين له، وتمحي رمز التطير، كرسول ملاك الموت، أو كما يروه الناس جسد محنط يقبض ثمن الحفر دون وخز لضميره الذي فقد الضمير، ولكن ماهي إلا أرزاقهم التي توارت في الهياكل الخالية، و والفارة منها الروح، والناس لا تعطيك إلا سنان المناجل.
كان يمشي في نهاية يومه على وهنه، رويدا، رويدا، ينفث دخان سيجارته، فيرسم قبرا يقطن فيه العابرون الذين تركوهم عراة، في ثوب آدمي ظل في العراء، فيختنق من دخانه، ومن الصورة الكئيبة، ودماغه الصدى ء الذي سكنه إلا الرماد، وعناوين الموتى، وأسرار المقبرة التي تجسدت عنده شيطان رجيم، ثم يمشي في المدفن عبر القبور، مملوء بأهازيج الدموع، ووجهه شبيه بأصحاب الكهف والرقيم، ثوى في جانبيه بيوت العنكبوت، يحمل معه أكواما من الزفير، والشهيق، والأنين، والآهات التي كانت تقف أمام ربطة العظام، فيهرب من رائحة المقابر الحارة، والخانقة للأنفاس، والأرجاء التي يطوف فيها الموت من دار لدار، بل يهرب من جراد منتشر، فيضيع بين مضاجع الأجداث، والصرخة المنسلخة من عقله، الذي بدأ في التفسخ، باحثا عن معبر معقم من روائح القبور، والأشباح، والمحطات المرهقة التي توارى خلفها إبليس أيضا، بجاد أسود غير عابىء بالإنسان، هذا الإنسان الذي لا يختلف هاجسه في قيمة الحياة، أو هزليتها.
فيمشي حفار القبور بخياله الشارد في جوف الحياة سهوا، وعيونه بها جثث مكفنة، و غافية الجفون، تبوح بالأنين، فيهرب بها لأزقة العطور لتثمل روحه من العنبر والياسمين، والريحان أو ليسرق قطرة عطر تتجلى منها المشاعر وجدانية الأثر، ربما تجعل النفس خالد، فالقلوب ساكنة وراء أجساد تحترق، والعمر كهفا رش كالقبر بالماء المعطر، وربما يجد عطرا يكون سبب في إطفاء نارها، أو يجد عود عنبر في حنايا الروح يعيد لذاكرة العطور جزئها المفقود، والفضل لصانع العطور الذي تمر نسمات عطوره هامسات بالأوردة، تبث عطر الياسمين، والعنبر، وفي كل زجاجة من زجاجات عطره، عطرا مقطرا، نظم كعقد فاخر يعيد لنا، أرواحنا، صورنا، أصدقاءنا، طفولتنا، شبابنا بيوتنا، وكأن العطور القادمة للذهن، البصمة الوراثية تعيد الأزمنة، والأمكنة المتلاشية، والذاكرة، و تعيد للزمن زمنه، فيبقى أمامنا الموت دهر قصير في جسد بارد، والعطر أرواحنا المعلقة بذكرى زمن بائد، وكلاهما يعشقهما القرطاس والقلم، أو ربما هما خصمان لا يلتقيان، و لا يصوغا خاتمة النهاية.