عنترة ابن شداد وأخلاق الفرسان
ارتبط الشعر في عصرنا الحالي بالنساء والفحش والتلفت عن كل الفضائل، وإنّك اليوم بمجرّد أن تبدأ البحث عن الشعر على شبكة الانترنت فسيقترح لك مباشرة شعر الغزل والحبّ والعشق. ونسي كثيرٌ من المتابعين للشعر شعر الفروسية والشجاعة واقتحام الأهوال، وحلّ مكانه شعر الاكتئاب والعزلة والحزن مجهول الأسباب، وبتنا أمام أحوال نفسية يكاد يعجز علم النفس عن تفسيرها!
لا بدّ أنك شاهدت في إحدى المسلسلات الشامية، أو سمعت من والدك أو جدّك قصص” الحكواتي”
والحكواتي: رجل قصّاص غالباً ما يخلط الحقيقة بالخيال، ويتحدّث عن مآثر شخصيات مثل عنترة بن شدّاد العبسي أو السلطان قطز أو عن الظاهر بيبرس أو عن الزير سالم وجسّاس بن مرّة وغيرهم. كانت الأجواء آنذاك حماسيّة، وكان الجميع يتابع بشغف واهتمام بالغين، وكانت تلك القصص تحمل في طيّاتها القيم العربيّة النبيلة، وكان الحكواتي حريصاً على ترسيخ قيم الشجاعة والبطولة والصدق والأمانة في نفوس متابعيه. لكن يا ترى ما الذي تغيّر؟ ولماذا أصبح الشعر عنواناً على الفحش والرذيلة في كثير من دواوينه وصفحاته؟
لا تذكَر البطولة والشجاعة والفروسية إلا ذُكر عنترة بن شدّاد العبسيّ، ولعلّ الشطر الثاني من اسمه ” ابن شدّاد العبسيّ” يختصر علينا قصّته وأزمته النفسيّة التي جعلتْ منه الشاعر الفارس الذي طار ذكره عبر السنين. كانت أمّ عنترة حبشيّة سوداء قد تسرّى بها والده شدّاد، وكان من عادة العرب أنهم إذا استولدوا الإماء استرقّوا أبناءهم ولم يلحقوهم بأنسابهم إلا إن أظهروا النباهة والنجابة والشجاعة.
ومما زاد الأمر تأزماً أنّه أحبّ عبلة وخطبها من عمه مالك ولكنّه أبى تزويجها لسواده ولأنه ابن أمَة وان مسألة النسب مسألة جوهريّة عند العرب، فهي مسألة طبقيّة في الدرجة الأولى، وفيها ينقسم النّاس إلى أشراف وعبيد، وإن عنترة كان (كما يقول النفسانيّون) يشعر بالنقص، فعوّض عن ذلك بالإقدام والشجاعة واقتحام الأهوال وتحلّى بمروءة العرب وأخلاقهم، وهو ما أنقذه أخيراً وجعل والده يعترف به في القصّة الشهيرة “وقفات شعرية مع أخلاق الفروسية عند شاعر عبس قال عنترة:
خلقت من الحديد أشدّ قلباً….. وقد بَلي الحديدُ وما بليتُ
وفي الحرب العوان ولدتُ طفلاً… ومن لبن المعامع قد سقيتُ
وإنّي قد شربت دم الأعادي …. بأقحاف الرؤوس وما رويت
بإمكانك أن تتخيّل معي ذلك المشهد المخيف حين يشرب عنترة دماء الأعداء بكؤوس ما هي إلا الجماجم! هذه الصورة الوحشيّة المخيفة لعنترة تصبح أرقّ من الماء وألطف من الهواء حين يذكر محبوبته:
ولقد ذكرتُك والرماح نواهلٌ …. منّي وبِيض الهند تقطر من دمي
فوددتُ تقبيل السيوف لأنّها… لمعتْ كبارق ثغرك المتبسّم
حين كانت الرماح تشرب من دماء عنترة، وكانت السيوف البيضاء تتقاطر من دماء عنترة، كان عنترة يتذكّر ثغر حبيبته حين تبتسم، للحظة ينسى عنترة ما فعلت به السيوف والرماح ويهبّ لتقبيلها لا لشيء سوى أن بياضها الممزوج بالحمرة قد ذكّره بثغر محبوبته!
أثني عليّ بما علمتِ فإنني… سمحٌ مخالقتي إذا لم أُظلَمِ
فإذا ظلمتُ فإنّ ظلمي باسل… مرٌّ مذاقته كطَعم العلقمِ
وإذا باع الناس كرامتهم في سبيل لقمة العيش، فإن عنترة يؤثر الجوع والسغب:
ولقد أبيتُ على الطوى وأظلّه… حتّى أنال به كريم المأكلِ
وإذا جبن المرتزقة عن المواجهة، وتهافتوا عند اقتسام الغنائم، نرى عنترة على النقيض فإنّه لم يقاتل يوماً لأجل المال وإنما ليحمي شرف قبيلته، كما يقول في معلّقته:
هلّا سألتِ الخيل يا بنه مالك … إن كنتِ جاهلة بما لم تعلمي
يخبرك من شهد الوقيعة أنّني… أغشى الوغى وأعفّ عند المغنمِ
وإذا اتّبع أراذل الشهوات، وهتكوا الأعراض، وتتبّعوا عورات النساء فإن عنترة يقف على الجانب الآخر يغضّ طرفه عن جارته، إنه ببساطة يؤثر العفاف والطهر على البذاءة والفحش تماماً كما يفعل الفرسان:
وأغضّ طرفي ما بدتْ لي جارتي… حتى يواري جارتي مأواها
إنّي امرؤ سمح الخلائق ماجد… لا أتبع النفس اللجوج هواها
ما أحوجنا إلى الأدب الهادف وإلى الشعر الهادف وإلى الإعلام الهادف في ظلّ الهجمة الإعلامية الشرسة التي تستهدف أخلاقنا وقيمنا ومبادئنا، ما أحوجنا أن نبحث عن هويّتنا وشخصيّتنا الثقافية عوضاً عن التقليد الأعمى للغرب في الأدب والإعلام والنقد.