كيف أصبح بيكاسو الاسم الأشهر في عالم الفن؟
يُوقِّع بيكاسو اسمه الأخير على لوحاته بأحرف منمقة وتذييل ممتد وأنيق لآخر حرف، يمكن التعرُّف على توقيع بيكاسو في أسماء المقاهي وملصقات السيارات ووسائل المواصلات والملابس الجاهزة. ويُطلِق الشباب على زميلهم المهتم بالرسم والفنون لقب بيكاسو بوصفه نوعا من السخرية، ويُسمِّي آخر نفسه بالاسم ذاته على مواقع التواصل الاجتماعي بوصفه نوعا من الاقتداء والتفاخر، إنه الاسم والتوقيع الأشهر في عالم الفن التشكيلي، شهرة فاقت أعمال بيكاسو نفسها، على عكس الموناليزا أو سقف كنيسة السيستين، وهي الأعمال الفنية المشهورة لذاتها وليس لصانعيها.
بيكاسو كان أحد المشاهير بالمفهوم المعاصر، تتداخل شهرته مع العديد من المجالات مثل المسرح والسينما، أراد أن يلمع اسمه وأن يكون خالدا، وهذا ما حدث بالفعل، لكن في الثقافة الشعبية لا تُمثِّل أعمال بيكاسو ذروة الفن، هي في الغالب مُثيرة للضحك والتعجب والسخرية، فالمتلقي العادي يُفضِّل الفن الواقعي الذي يحاكي ما يراه ويُبهره بدقة نقله لملمس الحقيقة ولونها، لذلك يُمثِّل بيكاسو صدمة لمَن يعرف اسمه ولا يعرف أعماله، يعتبر بيكاسو واحدا من أهم الأسماء في فن القرن العشرين، حتى إنه من المؤثرين على الفنون العربية الحديثة، فكيف رسّخ لاسمه عبر تاريخ الفن الحديث؟
تُبرِز المبالغ الطائلة التي تُباع بها لوحاته مدى أهمية بابلو بيكاسو في وقتنا الحالي، فهي مكانة مُستمَدَّة من الماديات ورغبة المشترين في دفع أيٍّ ما كان لاقتناء أعماله في المتاحف أو المجموعات الشخصية، لكن شهرة بيكاسو الفنية تنبع من سعة إسهامه وعدم توانيه عن التجريب والتنوع. حلل بيكاسو الرسم لعناصره الأساسية، وصنع عالمه وقاموسه الخاص لكيف يجب أن يبدو كل عنصر في هذا العالم، لكنه يظل شخصية مثيرة للجدل في مواقفه السياسية والفنية، هو شخصية صنعت اسمها بنفسها قبل أن يتدخّل المؤرخون والجمهور المعاصر لإعادة إحياء الاسم، فاسم بيكاسو لم يخفت منذ وقت عمله وحتى يومنا هذا، وفي عصره أصبح أشبه بالشخصيات العامة التي يتابعها الجمهور والنقاد بشغف سواء على المستوى الشخصي أو الفني.
وُلِد بابلو رويز بيكاسو في عام 1881 في ملقا، الأندلس في جنوب إسبانيا حاليا، لأب فنان كلاسيكي اعتاد تصوير الطيور والمناظر الطبيعية وعائلة متوسطة المستوى، وتعلّم الرسم الأكاديمي من والده الذي كان مُدرِّسا للفنون الجميلة في مدرسة للحِرَف وقائما بأعمال متحف محلي، تطور اهتمامه بالفن منذ الطفولة، وكعادة أي بداية فنية بدأ من الأساسيات، يمكن رؤية مهارته في أعماله الواقعية الأولى التي تُمثِّل صورا شخصية مثل لوحات تُصوِّر أفراد أسرته وصور ذاتية له.
يصف بيكاسو نفسه كما يصفه مؤرخوه بالمعجزة الطفولية، يُرسِّخ لنفسه ولمَن حوله فكرة كونه عبقريا وليس مجرد فنان آخر بميل للمبالغة والاستعراض، فيستدعي من ذاكرته المتوهجة ذكريات تعلُّمه للمشي كما يتذكرها عن طريق مراقبته لطفل أكبر منه، كما أنه تعلّم الرسم قبل أن يتعلّم الكلام، وحسب روايات والدته فقد نطق بكلمة “قلم رصاص” قبل أن ينطق كلمة “أمي”. تصنع تلك الحكايات الأشبه بالأساطير هالة من التفرُّد حول بيكاسو، فتتعلّق عبقريته بكونه شخصا خارجا عن المألوف منذ طفولته. جميعنا تُشكِّلنا خبرات مراحلنا الأولية، لكن ثقة بيكاسو في قلمه وفرشاته التي يتميز بها في كبره لم تتغير منذ كان صبيا، وكعادة أساطير الفن يتحدث عنه مَن حوله بالانبهار نفسه، فتصف أخته طريقة تنفيذه للرسوم في طفولته وميله للبدء في الرسم من مواضع غير معتادة، فيبدأ في رسم الجسد بداية من القدم، ويملك فكرة فطرية عن موضع الرأس واليدين.
أقام بابلو معرضه الخاص الأول في سن الحادية عشرة في مدخل أحد متاجر المظلات في بلدته، وفي سن الرابعة عشرة تخلّى أبوه عن الرسم وسلّمه أدواته الفنية، فأنتج في تلك الفترة صورا شخصية لأسرته بمستوى واقعي دقيق وجريء يضاهي مستوى فنانين متمرسين، فاز بالمراكز الأولى في المسابقات الفنية في حيه، واعتاد رسم النماذج العارية في صفوف الرسم في يوم واحد.(1)
يقول ديفد هنري فيلدمان الباحث في مجال الطفولة: “يُثير التفوق الطفولي الدهشة والقلق نظرا لندرته، فالمصطلح اللاتيني “prodigium” نفسه يحمل دلالات تعني ما هو غير مُتوقَّع لكنه غير مُرحَّب به أو يُنذر بالخطر، يمارس الأطفال المتفوقون مستوى متطورا بالغا قبل سن المراهقة، أن تعزف سوناتات بيتهوفن أو تحل معضلات رياضية معقدة قبل أن يبدأ زملاؤك في قفز الحبل، هذا يهز رؤيتنا للعالم”.
يُمثِّل ذلك الشعور بالخطر وعدم الاستقرار جوهر شخصية بيكاسو وأسباب شهرته، فكونه طفلا متفوقا غير معتاد لكنه مدرك لذلك تماما جعل منه شخصية واثقة وعنيفة قادرة على تحطيم ثوابت عالم الفن كما حطم النظرة الطبيعية عن قدرات الأطفال.