مجزرة “القوارص” في حاجب العيون وجلمة..من المجرم ؟ عهد السكوزوفرونية الدولة
صوت الضفتين-مقال رأي بقلم ريم بالخذيري
7 وفيات و66 مصابا يتوزعون على مستشفيات اربع ولايات في الجمهورية.. هذه ليست أرقام مصابي فيروس كورونا بل هم ضحايا الكولونيا.. فاجعة مؤلمة عرفتها تونس ثاني أيام العيد بعد أن تسبب خليط خمور مصنوعة محليا او ما يعرف ب”القوارص ” في مجزرة راح ضحيتها شباب و كهول بين معتمديتي جلمة و حاجب العيون.. وخرجت بسببها نعوش تحمل 3 أشقاء من منزل واحد إضافة لأربع ضحايا آخرين فيما فقد اثنان البصر بسبب الخمر المغشوشة و لا يزال العشرات يتلقون العلاج في المستشفيات.
فاجعة لعينة كهذه أعادت تعرية “سيستام” متناقض فوضوي..يسمح بيع الخمور و يعقّد مسالك بيعها يتيح الشرب و يجرّم السكر.. دولة تجيز بيع الخمر في أغلب مدن الجمهورية وتقصيه عن أريافها ..توفر للبعض نقاط بيع مرخصّة ومحترمة و تمنعه عن بعض المناطق بتعلّة أنها ذات طابع روحي وديني كالقيروان مثلا.. بينما يصول مروجو الخمور السائبة وباعة “الشراب خلسة” أمام أنظار الجميع دون رقيب أو حسيب وفيهم من استثرى وامتلك العمارات والأراضي من بيع الخمور في السوق السوداء على مرأى ومسمع من الدولة التي تواصل كفاحها من أجل تلميع صورة مفبركة عن الأخلاق الحميدة في حين يموت شبابها “خلسة ” أيضا بالخمور المغشوشة.
حفلة الانتحار الجماعي التي فجعت بها تونس هذا العيد لها أسباب واضحة جليّة.. هي أن الدولة في جزء منها نصّبت نفسها رقيبا على ضمائر الناس وحرياتهم.. فهي من تجيز و تحلل الخمر في النزل الفخمة والبارات والمطاعم النظيفة بل و توفر لهم الحماية والرعاية وهي نفسها التي تجيز وترعى “في السر ” باعة الشراب ونقاط ترويجهم السوداء في الأرياف لكنها ترفض منحهم رخصا رسمية حفاظا على المجتمع المحافظ القروي الذي يستهجن شرب الخمور وتعاطيها… ألهذه الدرجة وصل التفاوت الجهوي والاجتماعي حتى في شرب الخمر؟
في الأرياف التي لا يصلها “إمداد الشراب ” إلا قليلا وبأسعار لا يقدر عليها سوى التجار والموظفين.. يلجأ غالبية الراغبين في تعاطي الكحول الى خلط العطور الشعبية بمادة الكحول الصرف ومواد أخرى قذرة لتكثيف التأثير والنتيجة فقدان الوعي بصورة شبه كلية و تغييب للإدراك وأقل ما ينجر عن هذه المسكرات هو كوارث إجتماعية أو عاهات مستديمة أو الوفاة بسبب الأثر المدمر للكحول على الجسم.
تحول مطلب الخمور إلى أمر صعب مثله مثل مورد الرزق وتوفير المسكن اللائق والزواج وتكوين أسرة وضمان تعليم جيد للأطفال أو توفر الرعاية الصحية أو حتى الماء الصالح للشراب.. انضمت الخمور النظيفة إلى قائمة طويلة من الممنوعات التي يحلم بها كثيرون ولا ينالونها فلجؤوا لصنع بدائل عنها ..بديل عن الشغل الجلوس في المقهى..بديل التعليم الجهل.. بديل الصحة والأدوية الأعشاب والعطارة وبديل الخمر و”الشيخة” كحول مهلكة تؤدي مباشرة للقبر.
ربما قبل أن يتورط البعض في محاكمات أخلاقية لضحايا مجزرة القوارص يجدر بهم مراجعة مفاهيمهم المزدوجة التي تبيح للدولة ان تعتبر الكحول والتبغ احد الروافد الاقتصادية الهامة لميزانيتها نظرا لارتفاع حجم الضرائب الموظفة على هذا القطاع وفي نفس الوقت تنصب نفسها رقيبا على ضمائر الناس وحرياتهم في المناطق الداخلية.. المجرم هنا ليس من صنع “السموم” وباعها للناس فقط فذاك هو المنفّذ النهائي لسلسلة من الممارسات الفاسدة بدءا من غض الطرف على تجار الخمور في السوق السوداء اللذين أصبحت لهم صولات وجولات ونفوذ ووصولا إلى التستر باسم الدين والأخلاق لقمع الناس وترهيبهم.. ومادامت موازين القوى في يد المهربين وبارونات الفساد فإن مجزرة القوارص لن تكون الأخيرة ..