نزار الجليدي يكتب لكم:المحروقات في تونس بين العجز الطاقي وسوء الفهم الشعبي

تتوفر في تونس معطيات عمومية، موثّقة ومنتظمة، حول قطاع المحروقات. ومع ذلك، لا يزال الشك في الشفافية قائماً. بين أسطورة “النفط المخفي”، والخلط الجغرافي، وتداعيات الصدمة الطاقية العالمية، تتسع الفجوة يوماً بعد يوم بين الواقع الرقمي الدقيق والتصور الشعبي. ومع هذا الاتساع، يتعاظم خطر العجز الطاقي وانفلات الأسعار.
يعود الجدل حول الطاقة في تونس بوتيرة تكاد تكون آلية، غالباً مع كل زيادة في الأسعار، أو نقاش حول الميزانية، أو خبر يتعلق بدول الجوار. في مطلع ديسمبر، أعلنت المؤسسة الوطنية للنفط الليبية (NOC) أنها ستكشف قريباً عن الشركات الكبرى التي ستُمنح تراخيص جديدة للتنقيب عن النفط والغاز. مثل هذه الإعلانات تُعيد إلى الواجهة، في الوعي التونسي، قناعة راسخة مفادها أن تونس بدورها تمتلك ثروات طاقية مهمة، إما مخفية عمداً أو مستغلة بشكل سيّئ.
غير أن هذه القراءة لا تصمد أمام الوقائع. فتونـس منتج متواضع للمحروقات، وتعاني عجزاً هيكلياً في الطاقة، وتزداد تبعيتها للواردات سنة بعد أخرى. هذه الحقيقة موثقة بأرقام رسمية منشورة من قبل مؤسسات عمومية تونسية. المشكلة، إذن، ليست في غياب المعلومة، بل في تشتتها، وتعقيدها التقني، وضعف تقديمها بشكل مبسّط ومفهوم للرأي العام. يضاف إلى ذلك، بطبيعة الحال، ضعف البحث وقلة الاطلاع لدى عدد من الصحفيين والسياسيين ومعلّقي الشأن العام.
في سياق دولي مشحون بالتوترات الجيوسياسية، من أميركا اللاتينية إلى الشرق الأوسط، ومع عودة ارتفاع أسعار النفط، يثقل هذا الالتباس كاهل النقاش العمومي في تونس. فهو يغذي الشكوك ويُبعد الأنظار عن الرهانات الحقيقية: تراجع الإنتاج الوطني، تفاقم التبعية الطاقية، والكلفة الباهظة التي يتحملها الاقتصاد جراء هذه الهشاشة.
فكرة راسخة لكنها خاطئة: هل تونس بلد غني بالنفط؟
تظلّ الفكرة القائلة إن تونس تمتلك احتياطات نفطية كبيرة، قابلة للمقارنة بما لدى جيرانها، راسخة في الوعي العام. وهي تقوم في جوهرها على التباس مزدوج: جغرافي وتاريخي.
من الناحية الجغرافية، يغذّي القرب من ليبيا — أحد أبرز منتجي النفط في إفريقيا — وهماً شائعاً بوجود باطن أرض مشترك أو متشابه. والحال أن الأحواض النفطية التونسية محدودة، مجزأة، وقد بلغت في معظمها مرحلة النضج. فالغالبية الساحقة من الحقول المستغلة اكتُشفت بين ستينيات وثمانينيات القرن الماضي، وبلغ إنتاجها ذروته منذ عقود قبل أن يدخل في مسار تراجعي متواصل.
أما من حيث الأرقام، فالواقع لا يترك مجالاً للتأويل. في سنة 2025، يتراوح الإنتاج الوطني من النفط الخام بين 26 ألفاً و28 ألف برميل يومياً، مع تسجيل مستوى أدنى في أواخر شهر أوت عند نحو 27 ألف برميل يومياً. وللمقارنة فقط، تنتج ليبيا — خارج فترات الأزمات — أكثر من مليون برميل يومياً. تونس لم تكن يوماً ضمن هذه الفئة.
هذا الحجم المحدود من الإنتاج لا يسمح بتغطية الاستهلاك الداخلي، حتى جزئياً. ولا يوفّر أي هامش تصدير استراتيجي، ولا يحمي البلاد من الصدمات الخارجية. وعليه، فإن صورة “الدولة النفطية المحرومة بسبب سوء التصرّف” تنتمي أكثر إلى السردية السياسية منها إلى التحليل الجاد.
ويُضاف إلى ذلك التباس متواصل يتعلق بالجنوب التونسي. فوجود حقول نفطية وغازية حقيقي، لكنها حقول متواضعة،مما دفع البعض إلى تفسير القيود المفروضة على النفاذ إلى بعض المناطق الصحراوية على أنها آلية لإخفاء الثروات. بينما تعود هذه القيود، في الواقع، أساساً إلى اعتبارات أمنية في منطقة حدودية حساسة، تتقاطع فيها الأنشطة الطاقية مع مخاطر الإرهاب والتهريب والهجرة غير النظامية، فضلاً عن رهانات أمنية أوسع.
هذا التباعد بين التصور والواقع يشكّل منطلق سوء الفهم القائم اليوم. وطالما استمر النظر إلى الإنتاج التونسي باعتباره “ثروة مخفية” لا قطاعاً ناضجاً ومقيداً، سيظلّ النقاش العمومي رهين انتظارات غير واقعية، بما تحمله من تبعات خطيرة على السياسات الطاقية والاقتصادية.
الأرقام الرسمية: إنتاج يتراجع وتبعية طاقية بنيوية
تقدّم المعطيات الصادرة عن الهياكل الرسمية التونسية صورة متماسكة وثابتة: تونس دخلت منذ سنوات في مرحلة تراجع بنيوي في إنتاجها من النفط والغاز، في وقت يواصل فيه الاستهلاك الداخلي مساره التصاعدي.
في ما يخصّ النفط الخام، الاتجاه واضح ولا لبس فيه. فالإنتاج الوطني، الذي كان يتجاوز 120 ألف برميل يومياً في مطلع الألفية الحالية، تقلّص تدريجياً مع نضوب الحقول الناضجة. خلال سنتي 2024–2025، استقرّ الإنتاج في حدود 27 ألف برميل يومياً، مع تذبذبات شهرية مرتبطة بأشغال الصيانة والإكراهات التقنية. هذا التراجع ليس ظرفياً، بل هو نتيجة ميكانيكية لاستغلال مكثّف لباطن محدود الموارد.
أما الغاز الطبيعي، فقد أصبح يحتلّ موقعاً أكثر مركزية في المزيج الطاقي التونسي، غير أن الإنتاج المحلي يظلّ، هو الآخر، دون مستوى الحاجيات. وتأتي المساهمات الأساسية من حقول تُستغلّ في إطار شراكات، أبرزها مشروع نوّارة، الذي تشغّله شركة OMV بالشراكة مع المؤسسة التونسية للأنشطة البترولية (ETAP).وقد سمح هذا المشروع، منذ دخوله حيّز الإنتاج، بإبطاء نسق ارتفاع الواردات، من دون أن يغيّر الاتجاه العام. فالإنتاج المحلي لا يغطي سوى جزء محدود من الطلب، خاصة في مجال إنتاج الكهرباء الذي يستأثر بالقسط الأكبر من استهلاك الغاز في تونس.
ويُترجم هذا القصور في الإنتاج بنسبة تبعية طاقية مرتفعة، تتجاوز بانتظام 50%. أي أن أكثر من نصف الحاجيات الطاقية للبلاد يتم تأمينها عبر التوريد. ويأتي جزء هام من الغاز المستهلك من الجزائر، سواء عبر عقود التزويد المباشر أو من خلال الآليات المرتبطة بعبور الغاز الجزائري نحو أوروبا.
على المستوى الميزاني، تشكّل هذه التبعية عبئاً ثقيلاً. فالواردات الطاقية تُعدّ من أبرز أسباب العجز التجاري التونسي. وكلما ارتفعت الأسعار العالمية للنفط والغاز، كان الأثر فورياً على المالية العمومية، وعلى ميزان المدفوعات، وعلى القدرة الشرائية. وقد أبرزت النقاشات المتعلقة بميزانية 2026 هذه النقطة بوضوح: فاتورة الطاقة تظلّ من أكثر بنود الإنفاق تقلّباً وصعوبة في التحكم.
ويزيد السياق الدولي من حدّة هذه الهشاشة. بدايةً بالحرب في أوكرانيا، ثم بالتوترات الأخيرة في الأسواق العالمية، خاصة بعد التطورات في أمريكا اللاتينية والضغوط المسلّطة على منتجين مثل فنزويلا، ما ساهم في ارتفاع أسعار النفط. وتونس، بصفتها بلداً مستورداً صافياً للطاقة، تتأثر بهذه الصدمات من دون أن تمتلك أدوات داخلية كفيلة بامتصاصها على المدى المتوسط.
هذه الأرقام، المتاحة للعموم والقابلة للتحقق، تؤكد أن المسألة الطاقية في تونس لا تتعلّق بسرّ أو إخفاء. إنها مسألة قيد بنيوي. والتحدي الحقيقي ليس في البحث عن “نفط مخفي”، بل في كيفية إدارة عجز طاقي مزمن داخل بيئة دولية تزداد اضطراباً يوماً بعد يوم.
من يستغلّ فعلياً المحروقات في تونس: شركات معروفة وإطار قانوني صارم؟
على خلاف فكرة شائعة على نطاق واسع، لا تقوم استغلالات المحروقات في تونس على شبكة غامضة من أطراف مجهولة، ولا على ترتيبات خارجة عن رقابة الدولة. بل تندرج ضمن إطار قانوني قديم، واضح ومقيِّد، يضع الدولة التونسية في قلب كل العمليات دون استثناء.
فلا يمكن إسناد أي رخصة بحث، ولا منح أي امتياز استغلال، من دون مشاركة مباشرة للدولة، ممثَّلة في المؤسسة التونسية للأنشطة البترولية (ETAP). هذه الأخيرة تُعدّ طرفاً إجبارياً في جميع المشاريع النفطية والغازية، سواء بصفتها مشغّلاً رئيسياً أو شريكاً. ويعني هذا المبدأ البنيوي أن الدولة التونسية تمتلك حصة في كل حقل مستغل على أراضيها، تختلف نسبتها حسب طبيعة العقود.
في هذا الإطار، يظلّ عدد الشركات محدوداً. وتُعدّ شركة إيني (ENI) الإيطالية من أبرز الشركاء التاريخيين. فوجودها في تونس يعود إلى عقود، وهي تنشط في مجالي الغاز الطبيعي والنفط، براً وبحراً، دائماً بالشراكة معالمؤسسة التونسية للأنشطة البترولية. ويُنظر إلى هذا الحضور باعتباره مستقراً وذا بعد استراتيجي، خاصة في سياق إقليمي يشهد تصاعداً في النشاطات الطاقية بالمتوسط.
أما مجموعة OMV النمساوية (التي آلت إليها الأصول التونسية لشركة Shell)، فتحتل موقعاً محورياً في القطاع الغازي عبر مشروع نوّارة، أحد أكثر المشاريع هيكلة خلال السنوات الأخيرة. وتضطلع OMV بدور المشغّل التقني، في حين تمثل ETAP مصالح الدولة. وقد ساهم نوّارة في تعزيز نسبي ومؤقت للأمن الطاقي، دون أن يغيّر العجز البنيوي القائم.
وتبرز كذلك شركة بيرينكو (Perenco)، وهي مجموعة مستقلة متخصصة في استغلال “الحقول الناضجة”. وتُعدّ اليوم من أبرز المنتجين الخواص للغاز في تونس. ويقوم نموذجها على إطالة عمر المكامن ضعيفة المردودية، خاصة في الوسط والجنوب. وهنا أيضاً، تُنفَّذ العمليات ضمن عقود تخضع لرقابة دقيقة من الدولة.
في المقابل، تراجع دور بعض الشركات العالمية الكبرى بشكل ملحوظ. فقد لعبت Shell، عبر فرعها السابق BG Group، دوراً مهماً لسنوات، خصوصاً في الحقول البحرية الاستراتيجية. لكن انسحابها التدريجي، من خلال بيع الأصول وتقليص الأنشطة، يعكس عزوفاً نسبياً للشركات العملاقة عن الاستثمار في باطن أرض محدود الفائدة.
ومن المهم أيضاً توضيح ما لا يوجد. فلا توجد اليوم أي شركة أمريكية كبرى تنشط في البحث أو الإنتاج النفطي أو الغازي في تونس. كما أن مجموعات مثل توتال إنرجيز (TotalEnergies) يقتصر وجودها على قطاع المصبّ، عبر توزيع المحروقات والأنشطة التجارية، دون أي انخراط في الاستكشاف أو الإنتاج.
وتُفسّر هذه المعطيات، جزئياً، ركود الإنتاج الوطني أو تراجعه. فالاستثمارات الثقيلة المطلوبة لاكتشاف حقول جديدة يصعب تبريرها في ظل احتياطيات محدودة وحقول مستغلة إلى حدّ كبير. لذلك يجذب القطاع التونسي أساساً شركاء متخصصين قادرين على العمل بهوامش ربح ضيقة، لا عمالقة عالميين يبحثون عن أحجام إنتاج ضخمة.
مرة أخرى، الوقائع واضحة: استغلال المحروقات في تونس يتم عبر عدد محدود من الفاعلين المعروفين، تحت رقابة الدولة، وضمن إطار قانوني لا يترك مجالاً لا لاستغلال سري ولا “لمشغّلين أشباح”.
الصحراء، “التراخيص الخاصة” وأسطورة النفط المخفي
غالباً ما تتكثّف الشكوك في الجنوب. ففي المخيال الجماعي، تُصوَّر الصحراء التونسية كخزنة طاقية مغلقة. صحيح أنّ في الجنوب حقولاً ومنشآت قائمة، لكن الاعتقاد بوجود وفرة نفطية مخفية هناك يقوم أساساً على قراءة حدسية، غذّتها الجغرافيا وصمت الدولة أكثر مما غذّاها الوقائع. فما يجري في المناطق الجنوبية هو أولاً مسألة أمنية تتعلق بالسيطرة على مجال شاسع، ضعيف الكثافة السكانية، ومكشوف لشبكات التهريب، والتنقلات غير النظامية، وارتدادات توترات إقليمية تصل أحياناً إلى الأراضي التونسية.
في هذا السياق ينبغي فهم ما يُعرف بـ”الترخيص الخاص” المفروض لدخول بعض المناطق الصحراوية. نعم، الطاقة جزء من المشهد لأن منشآت إنتاج وبنى تحتية موجودة هناك. لكن المبدأ لا علاقة له بحجب كنز مخفي. عملياً، تقيّد الدولة التنقلات لأن الصحراء فضاء حساس، ولأن الوجود المدني غير المنضبط، بما في ذلك السياحي، ليس محايداً من الناحية الأمنية. غير أنّ هذه المقاربة، ضعيفة الشرح ونادراً ما تُعلن بوضوح، تركت المجال مفتوحاً لتأويل أبسط وأكثر عاطفية، وبالتالي أسرع انتشاراً: إذا كانت الدولة تُصفّي الدخول، فلا بدّ أنها تُخفي شيئاً.
وتعزّز المقارنة الضمنية مع ليبيا هذا المنحى. فليبيا تُرى كجار “نفطي بطبيعته”، في مقابل تونس التي يُعتقد أنها تمتلك الحظ نفسه لكن جرى حرمانها من الوصول إليه. هذه المقارنة مضلِّلة. فهي تتجاهل حقيقة أساسية: تونس منتج متواضع، بحقول في مجملها ناضجة، وإنتاج لا يواكب الاستهلاك الداخلي. والدليل الأبلغ هو أنّ الخطاب الرسمي التونسي، حين يتحدث، يتناول العجز الطاقي وهشاشة التوازنات المالية، لا الريع. لو كانت لتونس فوائض هيكلية (ووجودها ممكن لكنه غير مفترض)، لتغيّرت نبرة النقاش العام، وبنية الميزانية، وإيقاع الميزان التجاري. يضاف إلى ذلك أنّ بعض الشركات الكبرى النشطة في توزيع المحروقات والخدمات داخل تونس، مثل توتال وشِل، تخلّت تدريجياً عن أصولها في الاستكشاف النفطي، بل وبخسارة في كثير من الحالات.
وتأتي التطورات الليبية في الأسابيع الأخيرة لتعمل ككاشف إضافي. فعندما تعلن المؤسسة الوطنية للنفط في ليبيا (NOC) قرب الكشف عن أسماء الشركات الكبرى الفائزة بعقود استكشاف جديدة، فهي تذكّر بحقيقة بسيطة: في اقتصاد نفطي، يُعدّ الاستكشاف حدثاً علنياً، تنافسياً، واستراتيجياً، تُرافقُه أسماء، ومناقصات، وإعلانات تتحول إلى إشارات جيوسياسية. في تونس، لا ينتج قطاع النفط هذا النوع من الدراما لأن وزنه ببساطة ليس هو نفسه. هذا ليس حكماً قيمياً، بل مسألة أحجام. وهو بالذات ما يغذّي الإحباط: يُنتظر من باطن الأرض التونسي أن يؤدي دور باطن الأرض الليبي، بينما الواقع الجيولوجي والصناعي لم يعد بذلك قط.
ويُضاف إلى ذلك خلطٌ شائع بين وجود البنية التحتية ووفرة الموارد. رؤية محطة، أو طريق مخصّصة، أو ترتيبات أمنية، أو قاعدة لوجستية، تقود تلقائياً إلى تخيّل كميات هائلة. والحال أنّ دولة ما قد تحمي منشأة حيوية حتى وإن كانت إنتاجيتها محدودة. بل إن العكس صحيح في كثير من الأحيان: كلما كانت الموارد أقل، شدّدت الدولة على حمايتها، لأن أي تعطّل ينعكس مباشرة على التزويد، وعلى الإيرادات، وعلى توازنات الإنتاج.
في العمق، المشكلة الحقيقية ليست نقص المعطيات، بل غياب تواصل عمومي واضح. التواصل التقني، المتشظي وغالباً غير المقروء، أفسح المجال لخطابين متقابلين: خطاب المبالغة التمجيدية، وخطاب الشك الشامل. وبينهما، تكافح الحقيقة—الأبرد والأكثر تعقيدًا —لتُسمَع: تونس لا تعاني نقصاً في المحروقات لأن أحداً يسرقها منها، بل لأنها تعاني إنتاجاً غير كافٍ هيكلياً، فيما يواصل استهلاكها الارتفاع. وما لم يُستوعَب هذا المعطى، سيظلّ كلّ إجراء أمني في الصحراء يُقرأ كدليل إدانة، في حين أنّه، في الغالب، ليس سوى ردّ فعل دولة أمام منطقة هشّة ومعرّضة للمخاطر.
السعر العالمي: صدمة مستوردة ونقاش داخلي محتدم
في تونس، البلد الذي يعاني عجزاً هيكلياً في الطاقة، لا يُعدّ السعر العالمي للنفط مفهوماً مجرّداً. فهو يتحوّل بسرعة شبه فورية إلى ضغط على الميزانية، وتوتّر اجتماعي، وسجال سياسي. وما تشهده البلاد حالياً يقدّم مثالاً صارخاً على ذلك. فالتوترات الجيوسياسية، ولا سيما التشدد الأميركي تجاه فنزويلا، إلى جانب حالة عدم اليقين التي تلفّ عدداً من مناطق الإنتاج، أعادت إطلاق موجة ارتفاع في الأسعار. بالنسبة إلى كبار المصدّرين، يُعدّ ذلك ورقة قوة. أمّا بالنسبة إلى تونس، فهو فاتورة إضافية.
هذه الهشاشة معروفة وموثّقة، لكنها غالباً ما يُقلَّل من شأنها في النقاش العام. فكل دولار إضافي في سعر البرميل ينعكس مباشرة على الميزان التجاري، وكلفة الواردات، وفي نهاية المطاف على مالية الدولة. وعلى عكس ما يروَّج أحياناً، لا تمتلك تونس وسادة طاقية قادرة على امتصاص هذه الصدمات. فالإنتاج الوطني، الذي يشهد تراجعاً منذ سنوات، لا يغطي سوى جزء محدود من الحاجيات. أمّا الباقي فيُستورد، ويُدفع بسعر السوق، ويخضع للتقلبات نفسها التي تؤثر في الاقتصادات الكبرى، ولكن من دون امتلاك الهوامش المالية ذاتها — بل مع موارد أقل بكثير.
في هذا الإطار، ينبغي إعادة قراءة النقاشات الدائرة حول ميزانية 2026. فملف الطاقة لا يظهر فيها كقطاع مستقل بقدر ما يبرز كقيد أفقي يضغط على مجمل السياسات العمومية. إذ يثقل كاهل منظومة الدعم، ويؤثر في التوازنات الماكرو اقتصادية، ويحدّ من قدرة الدولة على الإبقاء على أسعار محتملة للعائلات والمؤسسات. هنا يبرز التناقض بوضوح: كلما تراجع الإنتاج المحلي، ازدادت التبعية، وكلما ارتفعت التبعية، أصبح كل صدم خارجي مسألة سياسية حساسة. عندها، يتجاوز النفط والغاز كونهما سلعتين، ليغدوا موضوعاً مرتبطاً بالإحساس بالسيادة.
التراجع المسجّل في الإنتاج مع نهاية الصيف لم يؤدِّ إلا إلى تعميق هذا القلق. فالأرقام الرسمية واضحة، وهي تفنّد بشكل مباشر أسطورة الاكتفاء الذاتي المخفي. إنتاج أقل، واردات أكثر، في لحظة تعود فيها الأسعار العالمية إلى الارتفاع، هو السيناريو الأسوأ بالنسبة إلى تونس. وهذا بالتحديد ما يفسّر عودة ملف المحروقات بشكل متكرر إلى الفضاء العام، غالباً بنبرة عاطفية، وأحياناً اتهامية، ونادراً ما يُطرح ضمن إطاره الحقيقي.
في الجوهر، المشكلة ليست في تعرّض تونس لتقلّبات السوق العالمية — فجميع الدول معنية بذلك. المشكلة تكمن في أن هذا التعرّض يتم من دون شبكة أمان، ومن دون فائض داخلي، ومن دون قدرة سريعة على التعويض. ومن هنا يتشكّل هذا الإحساس المتكرر بالغبن: عندما ترتفع الأسعار، تدفع تونس الثمن فوراً؛ وعندما تنخفض، يأتي الانفراج بطيئاً، متدرجاً، وأحياناً غير ملموس بالنسبة إلى المواطن. هذه اللاتماثلية تغذّي الغضب وتعمّق الشك في الأرقام الرسمية، حتى عندما تكون دقيقة.
في هذا السياق، تصبح المقاربة التفسيرية مسألة سياسية بحد ذاتها. توضيح أن ارتفاع الأسعار ليس نتيجة تلاعب داخلي، بل نتاج سوق عالمية لا تتحكم فيها تونس، لا يعفي الدولة من مسؤولياتها. لكنه يسمح بإعادة النقاش إلى مستواه الصحيح. فمن دون هذا التوضيح، ستتحوّل كل أزمة دولية إلى السؤال نفسه الذي يتكرر بإلحاح: لماذا يعاني بلد يُفترض أنه “غني بالنفط” إلى هذا الحدّ كلما ارتفع سعر البرميل؟ وطالما ظلّ السؤال مطروحاً على نحو خاطئ، فلن تكفي أي إجابة، مهما كانت موثّقة، لتهدئة حالة سوء الفهم الشعبي.
هوامش ضيّقة: ما الذي تستطيع تونس فعله… وما الذي لا تستطيع
في هذه المرحلة، يصبح التوضيح ضرورة. فالهشاشة الطاقية في تونس لا تعود إلى فراغ مؤسساتي، ولا إلى تخلٍّ عن السيادة بالمعنى الرسمي. الفاعلون معروفون، محدَّدون، وأدوارهم مؤطَّرة قانونياً. الإشكال الحقيقي يوجد في مكان آخر: في ضيق هوامش المناورة، وفي إرث ثقيل يصعب قلب معادلاته سريعاً.
في قلب المنظومة تقف المؤسسة التونسية للأنشطة البترولية. “ETAP” ليست مجرّد مراقب تقني، بل طرف قانوني إلزامي في جميع رخص البحث وامتيازات الاستغلال. هذه المشاركة تضمن للدولة حق الاطلاع، ونصيباً من الإنتاج، وإمكانية النفاذ إلى المعطيات التقنية والمالية. لكنها لا تحوّل تونس إلى قوة نفطية. ففي أغلب الحالات، تكون الدولة شريكاً أقليا أو مشغّلاً مشاركاً في حقول ناضجة، ضعيفة المردودية، يعرف إنتاجها تراجعاً طبيعياً لا يمكن وقفه بقرار إداري.
وحول “ETAP” يتحرّك عدد محدود من الفاعلين الأجانب المعروفين. المشهد يهيمن عليه الأوروبيون بشكل شبه كامل. تلعب “ENI” دوراً محورياً، خصوصاً في قطاع الغاز، بحضور قديم ومهيكل. أما “OMV” فقد أصبحت طرفا لا يمكن تجاوزه منذ مشروع نوارة، الذي سمح بانتعاشة ظرفية في الإنتاج الغازي. “Perenco”، الأقل حضوراً إعلامياً، تُعدّ اليوم من أبرز المنتجين الخواص للغاز والمكثفات داخل البلاد. في المقابل، شكّل الانسحاب التدريجي لـ”Shell” نهاية مرحلة كانت فيها بعض الحقول البحرية تؤمّن جزءاً مهماً من الإمدادات الوطنية.
الأرقام تؤكّد هذه القيود. فقد تراجع إنتاج النفط في تونس إلى مستويات تاريخية متدنية، مع نهاية الصيف، 27 ألف برميل رقم بعيد عن المعايير الإقليمية وغير كافٍ للتأثير في الفاتورة الطاقية الإجمالية. أما الغاز الطبيعي، فرغم مساهمة نوارة، فلا يغطي سوى جزء من الطلب، فيما يتم استيراد البقية أساساً من الجزائر. وبذلك يتجاوز معدل التبعية الطاقية نصف حاجيات البلاد، ما يعني أن كل خيار ميزاني يتم تحت ضغط خارجي.
في ظل هذه المعطيات، تبقى أدوات الضغط محدودة. من الممكن إطلاق جولات جديدة من التراخيص، لكن جاذبية السوق التونسية تظل ضعيفة بالنسبة إلى كبرى الشركات العالمية، التي لا ترى مصلحة في الاستثمار في حقول صغيرة، عالية المخاطر، في سياق انتقالي عالمي نحو الطاقات البديلة. التعويل على الشركاء الحاليين يسمح بالحفاظ على حد أدنى من الإنتاج، لا بإحداث قفزة نوعية. أما الاستكشاف، فهو مسار طويل، مكلف، ولا يضمن نتائج، حتى عندما يُدار تقنياً بكفاءة.
هذا التباين بين التوقعات الشعبية والواقع الصناعي هو ما يغذّي حالة الإرباك. فالرأي العام يرى أسماء شركات أجنبية، وخرائط امتيازات، ومناطق صحراوية خاضعة لرقابة أمنية مشددة، فيستنتج وجود ثروة مخفية. بينما الواقع الطاقي أكثر بساطة وأشد قسوة: تونس تستغل أساساً ما اكتشفته سابقاً، وما اكتشفته محدود. المشكلة ليست غياب رقابة الدولة، بل ضعف المخزون، وافتتان الخطاب العام بمصطلحي “النفط” و”الغاز”.
من هنا، يتغيّر جوهر النقاش. لم يعد الأمر متعلّقاً بفضح “غموض” متخيَّل، بل بطرح سؤال أكثر إزعاجاً: كيف يمكن إدارة عجز طاقي هيكلي على المدى الطويل، في عالم مضطرب، بموارد محدودة وهوامش مالية ضيقة؟ ما دام هذا السؤال مؤجَّلاً، ستظلّ المحروقات تُقرأ بوصفها لغزاً سياسياً، في حين أنها في حقيقتها تحدٍّ اقتصادي واستراتيجي طويل الأمد.
النفط، الغاز… ورسالة إلى التونسيين
الفضيحة الحقيقية في قطاع الطاقة بتونس ليست مؤامرة، ولا ثروة مخفية، ولا خيانة تعاقدية محبوكة في الظل. هي أبسط من ذلك، وبالتالي أخطر: عجز طاقي هيكلي، مُعترف به، يُدار بلا رؤية، ويُقبَل كأنه قدر محتوم. تونس لا تعاني فقط من نقص في النفط والغاز، بل تعاني أيضاً من غياب الطموح لدى مؤسساتها الوطنية.
تجسّد “ETAP” هذا التناقض بوضوح. حاضرة في كل الملفات، غائبة عن القرار. شريك إلزامي، لكن نادراً ما تكون محرّكاً. تدير تراجع الإنتاج أكثر مما تحاربه. في بلد تحيط به دولتان منتجتان كبيرتان — الجزائر وليبيا — تبقى الشركة الوطنية التونسية حبيسة حقول متقادمة، بلا امتداد إقليمي، بلا اندفاع صناعي، وبلا إرادة واضحة لتجاوز حدودها الضيقة. بينما نجحت دول أخرى في بناء شركات وطنية قادرة على العمل خارج حدودها، وتكوين أجيال من المهندسين، وفرض حضورها في المناقصات الدولية، تكتفي تونس بإدارة ما تبقّى من أنقاضها الطاقية.
الأكثر إثارة للقلق أن هذا الجمود يستمر حتى في ظرف عالمي يتّسم بارتفاع الأسعار، وإعادة تشكيل التوازنات الجيوسياسية، وعودة الطاقة كسلاح استراتيجي. ومع ذلك، لا تبرز أي ديناميكية جدّية لتحويل الشركة الوطنية إلى فاعل إقليمي حقيقي. لا استراتيجية هجومية في ليبيا، رغم القرب الجغرافي والروابط التاريخية. لا تموقع في الجزائر، رغم أنها الشريك الطبيعي. ولا حتى خطاب واضح حول تكوين العمّال، وبناء الكفاءات، وخلق منظومة طاقية وطنية قادرة على التفكير خارج منطق الامتيازات القائمة.
الإصرار على حصر النقاش في مسألة الشفافية يسمح بالتهرّب من السؤال الجوهري: ماذا تريد تونس فعلاً من طاقتها؟ هل تكتفي بإنتاج أقلّ كل سنة على أمل أن تبقى الفاتورة في حدود الممكن، أم تختار أخيراً بناء سياسة طاقية سيادية، متماسكة وطموحة؟ ما دام هذا السؤال بلا جواب، سيظل العجز الطاقي ليس حادثاً ظرفياً، بل خياراً سياسياً افتراضياً، مغطّى بخطاب تقني، ويدفع كلفته — كالعادة — الاقتصاد الوطني وأجيال المستقبل.



