فرنسا بين نكسات الداخل والخارج وأزمة القيادة السياسية - صوت الضفتين

فرنسا بين نكسات الداخل والخارج وأزمة القيادة السياسية

بقلم: محمد أمين الجربي

المقدمة: فرنسا في مواجهة أزماتها المتعددة

منذ عام 2017، دخلت فرنسا مرحلة جديدة وحاسمة من تاريخها السياسي والاجتماعي، تميزت بانهيار المشهد السياسي التقليدي الذي هيمن عليه اليمين واليسار لعقود طويلة. ومع وصول إيمانويل ماكرون إلى سدة الرئاسة، بدا وكأن البلاد تتجه نحو نموذج قيادي جديد، يَعِدُ بالتجاوز والوسطية. لكن سرعان ما بدأت التحديات تتراكم، لتكشف عن هشاشة هذا النموذج، سواء على المستوى الداخلي أو الخارجي.
اليوم، تواجه الجمهورية الخامسة أزمات متداخلة، من تراجع نفوذها في أفريقيا إلى انقسامات داخلية حادة، مروراً بالهزائم الانتخابية المتكررة، مما يطرح تساؤلات جوهرية حول مستقبل القيادة السياسية. تتراكم الإخفاقات لتدفع بسؤال محوري: هل تُعجّل هذه الأزمات المتفاقمة بنهاية حقبة ماكرون وتفتح الباب أمام نظام سياسي جديد محفوف بالمخاطر؟

الفصل الأول: زوال الأحزاب التقليدية وصعود الاستقطاب القاتل

كانت الانتخابات الرئاسية لعام 2017 بمثابة زلزال سياسي، لم يُنهِ فقط سيطرة الأحزاب التاريخية، بل كشف عن عمق التصدعات داخلها، ليُفسح المجال لصعود قوى الأطراف التي تعزز الاستقطاب الحاد.
1.1. انهيار الوسط التقليدي (الاشتراكيون والجمهوريون)
الحزب الاشتراكي: شهد الحزب، الذي كان يوماً ما عموداً للسياسة الفرنسية، تراجعاً مأساوياً بعد فترة حكم فرانسوا هولاند (2012-2017). الفضائح السياسية، الأداء الاقتصادي الباهت، والافتقار إلى رؤية واضحة، كلها عوامل أدت إلى انهيار شعبيته، ليجد نفسه مهمشاً على الساحة الوطنية.
الجمهوريون (اليمين التقليدي): لم يكن حال حزب “الجمهوريون” بأفضل، فبعد فضائح سياسية هزت ثقة الناخبين (مثل قضايا فرانسوا فيون المالية)، تفاقمت الأزمة. كما أن اللجوء إلى الانتخابات التمهيدية خلّف جروحاً عميقة وانقسامات لم تندمل، مما ساهم في تفكيك الحزب كقوة سياسية تقليدية موحدة.
1.2. صعود القوى القصوى: الاستقطاب القاتل
مع انهيار الوسط التقليدي، صعدت قوى سياسية أكثر تطرفاً واستقطاباً على طرفي المشهد: اليمين المتطرف ممثلاً في التجمع الوطني (RN)، واليسار الراديكالي ممثلاً في فرنسا الأبية (LFI). هذه القوى، التي تتبنى مواقف قصووية، جعلت من التوافق السياسي حول القضايا الوطنية الكبرى أمراً شبه مستحيل.

الفصل الثاني: حقبة ماكرون: جنوح نحو اليمين وأزمة الحراك الاجتماعي

قدم ماكرون نفسه كمرشح “في نفس الوقت” (En même temps)، جامعاً بين اليمين واليسار. لكن مساره السياسي أظهر جنوحاً واضحاً نحو اليمين، خاصة عبر تبني إصلاحات ليبرالية واجتماعية أثارت غضباً شعبياً عميقاً.
2.1. الغضب الشعبي وفشل استيعاب المطالب
السترات الصفراء (2018): كشف هذا الحراك عن غضب شعبي عميق ضد السياسات الاقتصادية والاجتماعية التي اعتُبرت غير عادلة، وأظهر ضعف القيادة السياسية في بناء جسور الثقة مع فئات واسعة من الشعب.
إصلاح التقاعد (2023): بلغت الأزمة الاجتماعية ذروتها مع إقرار قانون رفع سن التقاعد من 62 إلى 64 عاماً. اضطرت الحكومة إلى استخدام المادة 49.3 من الدستور لتمرير القانون دون تصويت البرلمان بعد فقدانها للأغلبية المطلقة في 2022. هذا الإجراء أدى إلى احتجاجات وإضرابات واسعة النطاق وزيادة العنف في الشوارع.
2.2. الخطأ الاستراتيجي وحالة “التعايش” القسري
خسارة الانتخابات الأوروبية (2024): كانت الخسارة أمام التجمع الوطني ضربة قوية ومباشرة لماكرون. فقد حقق حزب مارين لوبان فوزاً تاريخياً بفارق كبير عن قائمة ماكرون.
حل الجمعية الوطنية: رداً على الهزيمة الأوروبية، اتخذ ماكرون قرار حل الجمعية الوطنية (البرلمان) والدعوة لانتخابات تشريعية مبكرة (30 يونيو و 7 يوليو 2024). اعتُبر هذا القرار خطأً استراتيجياً فادحاً أدى إلى خسارته للأغلبية البرلمانية المطلقة بشكل أكبر.
توزيع المقاعد بعد الانتخابات التشريعية 2024: أظهرت نتائج الانتخابات التشريعية المبكرة تفككاً كبيراً في المعسكر الرئاسي (Ensemble) حيث خسر 86 مقعداً تقريباً. على النقيض، حققت الجبهة الشعبية الجديدة (NFP – اليسار) والتجمع الوطني (RN) مكاسب كبيرة، مما جعل ماكرون مرتهناً للتحالفات السياسية.
تراجع الشعبية: بعد قرار حل البرلمان، تراجعت شعبية ماكرون إلى مستوى تاريخي غير مسبوق، حيث سجلت استطلاعات الرأي نسبة تأييد بلغت 11% فقط، وهو أدنى رقم يسجله رئيس فرنسي منذ عام 1981، متساوياً مع سلفه فرانسوا هولاند في أسوأ فتراته.

الفصل الثالث: نكسات فرنسا في أفريقيا: تآكل النفوذ الدولي والتمركز الجديد

لطالما اعتُبرت أفريقيا “الساحة الخلفية” لفرنسا، لكن السنوات الأخيرة شهدت تراجعاً كبيراً ومؤلماً لنفوذها، وهو ما يمثل نكسة كبرى لمكانتها الدولية.
3.1. طرد القوات وتصاعد المشاعر المعادية
شهدت منطقة الساحل، على وجه الخصوص، سلسلة من الانقلابات العسكرية في مالي وبوركينا فاسو والنيجر، رافقتها مشاعر قوية معادية لفرنسا. وأعلنت دول أخرى، بما في ذلك ساحل العاج، والسنغال، وتشاد، في نهاية عام 2024 عن إنهاء الوجود العسكري الفرنسي في أراضيها. هذا الانسحاب المتواصل، الذي بدأته النيجر بعد حوالي عام من الانسحاب الفرنسي، كشف عن فشل السياسة الفرنسية في التعامل مع التحديات الأمنية والسياسية في القارة.
3.2. تآكل السيطرة الاقتصادية ونفوذ القوى الجديدة
أصبحت فرنسا تواجه منافسة شرسة على النفوذ الاقتصادي والسياسي في أفريقيا من قوى دولية جديدة مثل روسيا، والصين، وتركيا، والإمارات.
الهيمنة الاقتصادية: بدأت فرنسا تفقد حصتها في قطاعات حيوية مثل البنية التحتية والطاقة، والتي أصبحت تحت سيطرة الشركات الصينية أو الروسية.
ضعف الفرنك الأفريقي (CFA): بدأ بعض الدول في مراجعة أو إنهاء ارتباطها بعملة الفرنك الإفريقي المدعومة من فرنسا، مما يضعف السيطرة الاقتصادية الفرنسية التقليدية.
الدور الروسي الصيني: تعتمد الأنظمة الجديدة في الساحل على روسيا، عبر مجموعات خاصة مثل فاغنر، للحصول على الدعم الأمني، بينما تنشط الصين في بناء الموارد والأسواق في إطار مبادرة “الحزام والطريق”. هذا التحول أجبر النيجر، على سبيل المثال، على البحث عن بدائل للدعم الفرنسي الذي كان يشكل قرابة نصف ميزانيتها.
3.3. التمركز الاستراتيجي الجديد
رداً على هذا التراجع، تحاول فرنسا تغيير استراتيجيتها بالتوجه نحو مناطق أكثر استقراراً وذات أهمية جيوسياسية جديدة. تسعى باريس لتطوير علاقاتها مع دول شرق أفريقيا، وعلى رأسها إثيوبيا وكينيا وتنزانيا، بالإضافة إلى الاستفادة من نفوذها التاريخي في جيبوتي، التي تحتضن أكبر قاعدة عسكرية فرنسية في الخارج، وكذلك بناء تحالفات جديدة مع نيجيريا.

الفصل الرابع: أزمة القيادة السياسية وصراع خلافة ماكرون (2027)

تتراكم الأزمات الداخلية والخارجية لتضع ماكرون في موقف لا يُحسد عليه، وتُعيد طرح السؤال حول قدرته على الاستمرار في قيادة البلاد. يواجه الرئيس الفرنسي مأزقاً دستورياً يمنعه من الترشح لولاية ثالثة، مما يجعله مراقباً عاجزاً لصراع الخلافة المحتدم داخل معسكره.
4.1. زلزال اليمين المتطرف وتغير قواعد اللعبة (2027)
منع مارين لوبان من الترشح: في تحول سياسي كبير، أدانت محكمة فرنسية مارين لوبان، زعيمة التجمع الوطني والمرشحة الأوفر حظاً لانتخابات 2027، بتهمة الاختلاس (أموال مساعدي البرلمان الأوروبي). أصدر الحكم في مارس 2025 قراراً بمنعها من الترشح لأي منصب عام لمدة خمس سنوات، مما حطم آمالها الرئاسية لهذا العقد.
صعود جوردان بارديلا: بعد منع لوبان، أصبح رئيس حزب التجمع الوطني الشاب، جوردان بارديلا (29 عاماً)، المرشح الأكثر احتمالاً لقيادة اليمين المتطرف في 2027. يمثل بارديلا وجهاً جديداً للحزب ويتمتع بشعبية واسعة، خاصة عبر منصات التواصل الاجتماعي، مما يعزز قدرة اليمين المتطرف على المنافسة في ظل غياب لوبان.
4.2. تفكك المعسكر الرئاسي وصراع الخلافة
في معسكر ماكرون، يتسابق المرشحون المحتملون لإظهار الاختلاف عن سياساته وسط تراجع مكانته السياسية:
إدوار فيليب وحزب آفاق (Horizons): يعد رئيس الوزراء السابق إدوار فيليب، الذي ينتمي إلى يمين الوسط وكان مقرباً من آلان جوبيه، لاعباً رئيسياً. يدعو فيليب إلى سد الطريق أمام التجمع الوطني (اليمين المتطرف) وفرنسا الأبية (اليسار الراديكالي).
غابرييل أتال والمنافسة: بدأ رئيس الوزراء الشاب السابق غابرييل أتال يتبنى مواقف متشددة، خاصة في ملف الهجرة، مما يثير حيرة حلفائه حول موقعه السياسي الحقيقي بين الاعتدال والتشدد.
السيناريو الأسوأ: يتفق المقربون من ماكرون على أن أسوأ سيناريو هو انتصار التجمع الوطني في 2027، بعد عقد من “الماكرونية”.

الخاتمة والتوصيات الاستراتيجية

إن فرنسا اليوم تقف على مفترق طرق تاريخي، حيث تواجه تحديات وجودية تهدد استقرارها ومكانتها الدولية. من انهيار النظام الحزبي التقليدي إلى صعود الاستقطاب السياسي، ومن تراجع النفوذ الخارجي إلى الأزمات الاجتماعية المتكررة، تحتاج فرنسا إلى رؤية جديدة وشجاعة تعيد بناء الثقة بين القيادة السياسية والشعب.
إن الأزمة ليست أزمة ماكرون وحده، بل هي أزمة نظام سياسي بأكمله. وفي ظل غياب بديل وسط مقنع وقادر على التجميع، يبقى السؤال معلقاً: هل سيتمكن ماكرون من استعادة زمام المبادرة في ولايته الأخيرة، أم أننا سنشهد مزيداً من التفكك السياسي والاجتماعي الذي قد يسلم فرنسا إلى قوى الأطراف في عام 2027؟ إن التطورات المتعلقة بمنع مارين لوبان وصعود جوردان بارديلا تجعل المشهد أكثر ضبابية، وتؤكد أن الأيام القادمة ستحمل الإجابة على مصير الجمهورية الخامسة.

شارك المقال

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

French