مأساة الروهينغا: إبادة جماعية وصمت دولي مخزٍ…
بقلم محمد امين الجربي

الكارثة التي لا تغتفر
في سجل الكوارث الإنسانية المعاصرة، تقف مأساة أقلية الروهينغا المسلمة في ميانمار (بورما سابقاً) كوصمة عار على جبين الإنسانية والنظام الدولي. ما تعرضت له هذه الأقلية في إقليم أراكان ليس مجرد اضطهاد أو تمييز، بل هو حملة *إبادة جماعية ممنهجة* بكل ما تحمله الكلمة من معنى، نفذها جيش ميانمار ومليشيات بوذية متطرفة. هذه الجرائم، التي شملت القتل، والاغتصاب، والتهجير القسري، والتدمير الكامل للقرى، لم تكن أحداثاً عابرة، بل هي تتويج لعقود من التمييز العنصري الممنهج. والأدهى من ذلك، هو الصمت الدولي المطبق والمخزي الذي يحيط بهذه الفضيحة الإنسانية، مما يثير تساؤلات وجودية حول مصداقية المؤسسات العالمية وفعالية القانون الدولي.
. الإبادة الجماعية: حقائق دامغة وأرقام لا تكذب
تصاعدت الأزمة إلى ذروتها الكارثية في أغسطس 2017، عندما شن جيش ميانمار ما أسماه “عمليات تطهير”، والتي كانت في حقيقتها حملة *تطهير عرقي* واسعة النطاق. وقد أدت هذه الحملة إلى فرار أكثر من *740 ألف شخص* من الروهينغا إلى بنغلاديش المجاورة، لينضموا إلى مئات الآلاف الذين سبقوهم، ليصبحوا أكبر تجمع للاجئين في العالم في مخيمات كوكس بازار .
لقد تجاوزت هذه الجرائم كل حدود الوحشية، وشملت:
1. *القتل الجماعي:* استهداف المدنيين العزل، بما في ذلك الأطفال والنساء والشيوخ، بطرق وحشية، حيث وثقت تقارير الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان مذابح جماعية مروعة.
2. *الاغتصاب المنهجي:* استخدام العنف الجنسي كسلاح حرب لترويع وتدمير النسيج الاجتماعي للروهينغا، وهو ما يعد جريمة ضد الإنسانية.
3. *حرق القرى والتدمير المتعمد:* إحراق مئات القرى بالكامل، ومحو أي دليل على وجود الروهينغا التاريخي في المنطقة، مما يجعل العودة الآمنة أمراً شبه مستحيل.
. الجذور التاريخية: قانون التجرد من الإنسانية
إن اضطهاد الروهينغا ليس وليد اللحظة، بل هو نتاج سياسة دولة ممنهجة تعود جذورها إلى عقود. المفتاح لفهم هذه المأساة يكمن في *قانون الجنسية لعام 1982* الذي أصدرته حكومة ميانمار العسكرية. هذا القانون، الذي يعد تجريداً قانونياً من الإنسانية، حرم الروهينغا من حق المواطنة، مصنفاً إياهم كـ “مهاجرين غير شرعيين” من بنغلاديش، على الرغم من أن وجودهم في إقليم أراكان يعود إلى قرون طويلة .
هذا التجرد القانوني أدى إلى:
* حرمانهم من أبسط الحقوق المدنية والسياسية.
* تقييد حركتهم، ومنعهم من الحصول على التعليم والرعاية الصحية.
* جعلهم عرضة للابتزاز والعمل القسري والاضطهاد المستمر.
إن هذا القانون هو الأداة التشريعية التي شرعنت الإبادة الجماعية، وحولت الروهينغا إلى أقلية عديمة الجنسية ومستباحة.
الصمت الدولي: خيانة للعدالة والقانون
إن الجزء الأكثر إيلاماً في هذه المأساة هو *الصمت الدولي المخزي*. فبينما تتوالى التقارير المروعة التي توثق الجرائم، يكتفي المجتمع الدولي، وعلى رأسه الدول الكبرى، بإصدار بيانات الإدانة الخجولة، دون اتخاذ خطوات حاسمة لوقف آلة القتل والتهجير.
لقد فشلت المؤسسات الدولية فشلاً ذريعاً:
* *مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة:* عجز عن فرض عقوبات فعالة أو اتخاذ إجراءات ملزمة بسبب استخدام حق النقض (الفيتو) من قبل بعض الأعضاء الدائمين، مما يظهر ازدواجية المعايير في التعامل مع قضايا حقوق الإنسان.
* *المحكمة الجنائية الدولية (ICC) ومحكمة العدل الدولية (ICJ):* على الرغم من أن غامبيا رفعت قضية ضد ميانمار أمام محكمة العدل الدولية بتهمة الإبادة الجماعية، وأصدرت المحكمة أوامر مؤقتة في يناير 2020 تطالب ميانمار باتخاذ تدابير لمنع الإبادة، فإن التقدم في محاسبة المسؤولين بطيء جداً ولا يتناسب مع حجم الجريمة [3]. إن استمرار هذه الإجراءات القضائية البطيئة في ظل استمرار المعاناة هو دليل على ضعف آليات العدالة الدولية.
المسؤولية الدولية: طريق الحل الوحيد
إن استمرار مأساة الروهينغا هو اختبار حقيقي لضمير العالم. إن الدفاع عن حقوقهم ليس مجرد واجب إنساني، بل هو دفاع عن مبادئ العدالة والقانون الدولي التي يدعي العالم التمسك بها.
يجب على المجتمع الدولي أن يتحرك بجدية عبر:
1. *فرض عقوبات شاملة ومؤثرة* على حكومة ميانمار والقيادات العسكرية المسؤولة عن الجرائم، تستهدف مصالحهم الاقتصادية والعسكرية.
2. *توفير الدعم الإنساني الكافي والمستدام* للاجئين في بنغلاديش، والعمل على تحسين ظروفهم المعيشية المزرية.
3. *تسريع إجراءات المحاسبة القضائية* أمام المحاكم الدولية، والضغط لضمان عدم إفلات أي مجرم من العقاب.
4. *الضغط الدبلوماسي القوي* على ميانمار لإلغاء قانون الجنسية لعام 1982، والاعتراف بحقوق الروهينغا ومنحهم المواطنة الكاملة.
إن مأساة الروهينغا تذكرنا بأن الإنسانية لا تتجزأ، وأن الصمت على الجريمة هو مشاركة فيها. متى يستيقظ الضمير العالمي ليرفع هذا العار عن جبين التاريخ؟



