أزمة السودان: صراع على أنقاض وطن.... - صوت الضفتين

أزمة السودان: صراع على أنقاض وطن….

بقلم: محمد امين الجربي

 السودان في قلب العاصفة

منذ اندلاع الصراع المسلح بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في أبريل 2023، يغرق السودان في واحدة من أسوأ الكوارث الإنسانية والسياسية في تاريخه الحديث. هذا الصراع ليس مجرد اقتتال على السلطة، بل هو التجسيد الدموي لتاريخ طويل من التوترات السياسية، والانقسامات العرقية، والمصالح الإقليمية والدولية المتشابكة التي وجدت في ضعف الدولة السودانية فرصة لتصفية الحسابات. ومع استمرار الحرب الوحشية، باتت البلاد على شفا الانهيار الكامل والتفكك، وسط صمت دولي مريب يطرح تساؤلات مريرة حول قيمة حياة الشعب السوداني الذي يواجه خطر الإبادة الجماعية.

الجنجويد وقوات الدعم السريع: وحش يلتهم الدولة

لا يمكن فهم الأزمة الحالية دون العودة إلى جذور قوات الدعم السريع، التي نبتت من ميليشيات “الجنجويد” سيئة السمعة. هذه الميليشيات، التي شكلتها ودعمتها حكومة عمر البشير في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين لقمع التمرد في دارفور، ارتكبت فظائع ومجازر مروعة، بما في ذلك التطهير العرقي والاغتصاب الممنهج، مما جعل اسمها مرادفاً للجرائم ضد الإنسانية.

لاحقاً، وبدلاً من تفكيك هذه الميليشيات ومحاسبتها، تم إضفاء الشرعية عليها ودمجها في الأجهزة الأمنية تحت مسمى “قوات الدعم السريع” بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي). هذا القرار الكارثي حوّل ميليشيا قبلية إلى قوة عسكرية واقتصادية هائلة، لكنها ظلت محتفظة بإرث الجنجويد الدموي وعقيدتها القائمة على النهب والعنف القبلي. في الصراع الحالي، كشّرت هذه القوات عن وجهها الحقيقي، حيث قادت حملة تدمير ممنهجة، خاصة في مدن مثل الفاشر، وارتكبت انتهاكات جسيمة ضد المدنيين، من قتل وتهجير قسري وعنف جنسي، مما أعاد إلى الأذهان مشاهد الإبادة الجماعية في دارفور.

شبكة الدعم الخارجي: وقود يغذي الحريق

لم يكن هذا الصراع ليستمر ويتوسع بهذا الشكل لولا الدعم الخارجي الذي يتلقاه الطرفان، والذي حوّل السودان إلى ساحة حرب بالوكالة:

داعمو قوات الدعم السريع:* تتلقى قوات الدعم السريع دعماً لوجستياً وعسكرياً كبيراً من *الإمارات العربية المتحدة، التي تستخدم مطار أم جرس في تشاد المجاورة كقاعدة خلفية لنقل الأسلحة والإمدادات. كما تستفيد هذه القوات من شبكات مجموعة **فاغنر* الروسية، التي توفر لها الخبرات العسكرية وتساعدها في تهريب الذهب لتمويل عملياتها الحربية.
* *داعمو الجيش السوداني:* في المقابل، يتلقى الجيش السوداني دعماً من *مصر، التي تعتبر استقرار السودان تحت قيادة الجيش امتداداً لأمنها القومي. كما تشير تقارير إلى أن **إيران* زودت الجيش بطائرات مسيّرة قتالية، مما منحه تفوقاً جوياً في بعض المعارك.

موقف الأمم المتحدة: إدانات خجولة في مواجهة الإبادة

أمام هذه الكارثة، جاءت مواقف الأمم المتحدة مخيبة للآمال. فبينما يصدر مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان، فولكر تورك، بيانات متكررة تدين “الانتهاكات المروعة” و”المعاناة الإنسانية الهائلة”، إلا أن هذه التصريحات تفتقر إلى القوة والحزم. تكتفي الأمم المتحدة بتوثيق الجرائم، مثل الهجمات العرقية التي تشنها قوات الدعم السريع والميليشيات العربية المتحالفة معها في دارفور، دون اتخاذ إجراءات رادعة وفعلية لوقفها. هذا الموقف الضعيف، الذي يساوي أحياناً بين جلاد يمارس التطهير العرقي وجيش وطني منهار، يرسل رسالة خاطئة للمجرمين بأنهم بمنأى عن العقاب.

الحل: بتر السرطان قبل فوات الأوان

إن الحديث عن حل سياسي متساوٍ بين الطرفين يتجاهل طبيعة الأزمة. لا يمكن بناء دولة ديمقراطية ومستقرة بالتحاور مع ميليشيا قامت على أساس عرقي وارتكبت جرائم إبادة جماعية. الحل الحقيقي يجب أن يكون سودانياً في جوهره، ولكنه يتطلب دعماً دولياً حاسماً لتحقيق الأهداف التالية:

1. *تفكيك الميليشيا ومحاسبة قادتها:* يجب أن يكون الهدف الأول والأساسي هو تفكيك قوات الدعم السريع بشكل كامل، ونزع سلاحها، وتقديم قادتها ومرتكبي الجرائم منها إلى العدالة، سواء أمام محاكم وطنية نزيهة أو أمام المحكمة الجنائية الدولية.
2. *إعادة بناء جيش وطني موحد:* يجب إعادة هيكلة القوات المسلحة السودانية لتكون جيشاً وطنياً واحداً، يخضع لسلطة مدنية منتخبة، ويمثل جميع مكونات الشعب السوداني، بعيداً عن الولاءات السياسية أو القبلية.
3. *عملية سياسية شاملة (بعد حسم المعركة):* بعد القضاء على التهديد الوجودي الذي تمثله الميليشيا، يمكن إطلاق حوار سوداني-سوداني شامل يضم القوى السياسية والمدنية والثورية، لوضع أسس دولة ديمقراطية قائمة على المواطنة والعدالة.

 السودان بين الإرادة والمأساة

إن أزمة السودان ليست مجرد صراع بين فصيلين عسكريين، بل هي معركة وجودية بين مشروع الدولة ومشروع الميليشيا والنهب. إن بقاء قوات الدعم السريع كطرف سياسي أو عسكري يعني القضاء على أي أمل في قيام دولة سودانية موحدة ومستقرة. لقد حان الوقت ليتجاوز المجتمع الدولي لغة الإدانات الخجولة، ويفرض عقوبات صارمة على داعمي الميليشيا، ويدعم الشعب السوداني في معركته المصيرية لاستعادة وطنه من براثن الوحشية والتطرف، قبل أن يبتلع الظلام ما تبقى من السودان.

شارك المقال

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

French