قابس التونسية تتحول من "جنة هادئة" إلى كابوس بيئي - صوت الضفتين

قابس التونسية تتحول من “جنة هادئة” إلى كابوس بيئي

المصدر: وكالة رويترز

سماء ملبدة بأبخرة رمادية ومياه بحر ملوثة

تحت سماء ملبدة بأبخرة رمادية كثيفة، تحوّلت مياه البحر قبالة مدينة قابس التونسية التي كانت تتلألأ بلونها الفيروزي ذات يوم إلى مسطح ملوث تلطخه بقع كبيرة من النفايات الكيميائية السوداء والصدئة. الهواء هنا ثقيل وخانق، يجعل من كل نفس تجربة مؤلمة، مشبع بغازات سامة تلسع العيون وتحرق الحناجر.

اختفت الأسماك، وذبلت الأشجار، والواحات التي كانت تُروى من ينابيع طبيعية عذبة تحترق الآن في تربة ملوثة ومسمومة. وعلى الشواطئ، لم يتبقَ سوى بضع سلاحف نافقة ونفايات وسفن مهجورة.

 المجمع الصناعي وتحول المدينة إلى كابوس

لطالما عُرفت قابس بأنها جوهرة بيئية نادرة، حيث تعانق الواحات الخضراء البحر المتوسط في مشهد فريد. الجوهرة التي كانت تسمى “جنة الدنيا” حوّلها التلوث إلى أرض سامة، يتنفس سكانها هواء مسموما، كأنهم داخل غرفة غاز مغلقة بلا نوافذ أو مفرّ.

ما بدا ذات يوم أنه مشروع صناعي واقتصادي طموح، تحوّل ببطء إلى كارثة إنسانية وبيئية متفاقمة. المجمع الذي يحول الفوسفات، أهم ثروات تونس الطبيعية، أنشأ عام 1972 باعتباره ركيزة للنمو الاقتصادي ومحركا رئيسيا لصادرات تونس، أصبح اليوم كابوسا حقيقيا يرعب السكان بشكل متزايد.

 انبعاثات غازات سامة وتأثيرها على السكان

تلوح مداخن المجمع الكيميائي بقابس فوق شواطئ تغمرها النفايات، وتُنفث غازات سامة يستنشقها سكان المناطق المحيطة بدلًا من الهواء النقي. كل شهيق هنا يبدو كأنه خطوة نحو موت بطيء.

وفي وقت سابق من هذا الشهر، ومع تكرر حالات اختناق بين عشرات التلاميذ في مدارس قريبة من المصنع، انفجر الغضب في واحدة من أكبر التحديات للرئيس قيس سعيد منذ بدأ الحكم بالمراسيم سنة 2021.

 قصص السكان وتأثير التلوث على حياتهم اليومية

أطلقت الشرطة الغاز المسيل للدموع لتفريق المحتجين الذين اقتحموا المجمع وطالبوا بتفكيكه، وخرج عشرات الآلاف مجددا إلى الشوارع يوم الأربعاء الماضي في احتجاج حاشد.

وفي الماضي، كانت المدينة تُعرف بأنها لؤلؤة بيئية، بمزيجها الفريد من الواحات والسواحل وتنوعها الإيكولوجي، لكنها اليوم أصبحت أرضًا سامة، تنتشر فيها أمراض السرطان والجهاز التنفسي وهشاشة العظام على نطاق واسع.

يقول صفوان قبيبيع وهو ناشط بيئي محلي: “المصنع سمّم كل شيء الشجر، والبحر، والناس”. وأضاف: “حتى رمان قابس التي اشتهرت بيه تغير وصار طعمه كالدخان”.

 انهيار الثروة السمكية والاقتصاد المحلي

وسعيا لإخماد موجة الاحتجاجات المتصاعدة منذ أسبوعين، قال سعيد هذا الشهر إن سكان قابس يتعرضون “لاغتيال بيئي”، لكنه ألقى باللوم على حكومات سابقة، داعيا الوزارات إلى معالجة التسربات الكيميائية بأسرع وقت ممكن.

إلى جانب أزمة الصحة العامة المتفاقمة، انهارت الثروة السمكية التي كانت مصدر رزق رئيسيًا لآلاف الصيادين هنا بحسب السكان والناشطين البيئيين.

يتذكر ساسي علية، وهو صياد، كيف كان البحر مصدر رزقه وكرامته. الآن، لم يعد بالنسبة له سوى مصدر للبؤس. وبعد أكثر من 25 عامًا في البحر، اضطر ساسي مثل كثير من الصيادين للاتجاه إلى الزراعة لإعالة أسرهم.

 تقرير بيئي رسمي وحجم التلوث

أظهر تقرير تدقيق بيئي رسمي أنجز في يوليو 2025، أن المجمع الكيميائي يلقي يوميًا بين 14000 و15000 طن من مياه “الفوسفوجيبسوم” غير المعالجة في البحر، إلى جانب انبعاثات عالية من الأمونيا وأكاسيد النيتروجين والكبريتات.

وأشار التقرير إلى أن هذه التصريفات ألحقت ضررًا بالغا بمروج الأعشاب البحرية وأدت إلى تصحر مناطق بحرية واسعة في خليج قابس، وأن الفوسفوجيبسوم يحتوي على الراديوم والرادون، وهما عنصران مشعان قد يتسببان في الإصابة بالسرطان.

 المطالب الشعبية والإصرار على حلول عاجلة

إلى جانب التدهور البيئي والصحي، فإن السكان والناشطين يطالبون بتفكيك الوحدات الكيميائية وحماية حقهم في الحياة والهواء النظيف. يقول الناشط البيئي قبيبيع: “لكل طن من الفوسفات تتم معالجته، تُزهق روح. نحن لن نتخلى عن أرضنا. سنواصل النضال ولو بأشكال مؤلمة حتى ينبض قلب قابس من جديد”.

شارك المقال

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

French