حرب تونس ضد المخدرات: معركة جيل ومستقبل وطن
بقلم محمد امين الجربي

عندما يُصبح السمّ سيفاً موجّهاً إلى قلب الوطن
لم تعد حرب تونس ضد المخدرات مجرد معركة أمنية أو قضائية عابرة، بل هي مواجهة وجودية شاملة تُشنّ على جيل كامل، وتستهدف بشكل مباشر صميم الأمن القومي للبلاد. إن الأرقام الصادمة التي تُعلن عنها الأجهزة الأمنية بين الحين والآخر، والتي تتحدث عن ضبط نصف طن من “الزطلة” و12 مليون قرص من “الإكستازي”، ليست مجرد مؤشرات على نشاط إجرامي اعتيادي. إنها إعلانات عن حجم المعركة الحقيقية، وإشارات واضحة إلى أن ما يدور ليس مجرد تجارة، بل هو “حرب خفية” تستخدم السموم كسلاح لتقويض استقرار الدولة وتدمير نسيجها الاجتماعي. هذا ليس سرداً تاريخياً، بل هو تشريح لواقع راهن يُفرض على الأمة، ويطرح سؤالاً جوهرياً: من يقف وراء هذه الكميات المهولة؟ وإلى أي مدى تُهدد هذه المعركة مستقبل الأجيال القادمة؟
من “الزطلة” إلى “الإكستازي”.. أرقام صادمة ومعركة جيل
يُظهر حجم ما يتم ضبطه من مخدرات في تونس أننا أمام معركة غير متكافئة، تتجاوز بكثير قدرات تجار المخدرات التقليديين. إن ضبط نصف طن من “الزطلة” في عملية واحدة هو دليل على وجود شبكات قوية وعابرة للحدود، تمتلك إمكانيات لوجستية ومالية ضخمة. أما الكميات الهائلة من الأقراص المهلوسة مثل “الإكستازي” و”السوبيتاكس” التي تصل إلى أكثر من 12 مليون قرص، فتؤكد أن هناك توجهاً ممنهجاً لاستهداف شريحة الشباب والطلاب على وجه الخصوص. إن هذه الأرقام ليست مصادفة، بل هي مؤشرات على استراتيجية واضحة تهدف إلى إغراق البلاد بالمخدرات، وتدمير الوعي الجمعي، وشلّ إرادة التغيير لدى الجيل الجديد.
هذه الحرب الخفية تستهدف العقل والوعي، وهو ما يجعلها أشد خطورة من أي تهديد عسكري. إنها حرب تستخدم الفقر واليأس كوقود، وتوظف تكنولوجيا الاتصالات لترويج سمومها، مما يجعلها معركة يومية تدور رحاها في كل حي، وفي كل مدرسة، وفي كل أسرة. هذا ما يجعلها “حرب جيل” بامتياز، لأن خسارتها تعني فقداننا لمستقبلنا كأمة.
من تجار إلى دول: التهديد الحقيقي للأمن القومي
إن من السذاجة الاعتقاد بأن هذه الكميات الهائلة من المخدرات تُدار من قبل مجرد تجار محليين. ففي المقابلات الصحفية، يؤكد المسؤولون الأمنيون أن شبكات المخدرات الدولية أصبحت تستغل تونس كبوابة رئيسية لتهريب المخدرات، ليس فقط لتونس نفسها، بل لإعادة تصديرها إلى مناطق أخرى. إن هذا النشاط ليس مجرد تجارة غير شرعية، بل هو توظيف للمخدرات كأداة للضغط والابتزاز. إن “حرب المخدرات” تُغذي “حرباً اقتصادية” أكبر، وتُستخدم لتمويل شبكات الإرهاب والتطرف، ولزعزعة الاستقرار الاجتماعي، مما يجعلها تهديداً مباشراً للأمن القومي للبلاد.
هذا التحليل يتوافق تماماً مع ما كشفه الرئيس قيس سعيّد، عندما أكد أن هذه الشبكات لا تقل خطراً عن الإرهاب، وأن الدولة عازمة على محاربتها بكل حزم. إن الكميات الكبيرة من المخدرات التي يتم إحباط تهريبها ليست فقط تجارة رابحة، بل هي أداة تُستخدم لتجنيد العملاء، وشراء الولاءات، والتحكم في مسالك الاقتصاد الموازي. إن من يموّل شحنة بنصف طن من “الزطلة” أو 12 مليون قرص “إكستازي” ليس مجرد تاجر، بل هو جهة تابعة لكيانات أجنبية، سواء كانت دولاً أو شبكات عابرة للقارات، تسعى لتقويض الدولة التونسية من الداخل.
أساليب “التقويض الناعم”: كيف تُستخدم المخدرات لتدمير النسيج الاجتماعي؟
تتجاوز خطورة المخدرات تأثيراتها الاقتصادية والسياسية لتغوص في عمق المجتمع، حيث تعمل على تقويض قيمه وأخلاقه بشكل منهجي. إن التركيز على المخدرات المهلوسة والمنشطة، مثل “الإكستازي”، يُظهر أن الهدف هو تدمير الإرادة الفردية والوعي الجمعي، وتحويل الشباب إلى مجرد أدوات في يد هذه الشبكات.
– تفكيك النسيج الأسري: الإدمان لا يُدمّر الفرد فقط، بل يمزق الأسرة ويدمر العلاقات الاجتماعية، ويُحول الشباب من قوة عاملة منتجة إلى عبء على المجتمع والدولة.
– تغذية الجريمة: انتشار المخدرات يؤدي بشكل مباشر إلى ارتفاع معدلات الجريمة، من السرقة إلى العنف، مما يجعل المجتمعات المحلية تعيش في حالة من الخوف وعدم الأمان.
– استهداف التعليم: تعمل هذه الشبكات على استهداف المؤسسات التعليمية، من المدارس إلى الجامعات، بهدف ضرب جيل الشباب في مقتل، وتحويلهم من طلاب علم إلى ضحايا للمخدرات.
إن هذه الظاهرة ليست عشوائية، بل هي جزء من مخطط أوسع لضرب نسيج المجتمع التونسي. ولهذا، فإن محاربتها لا يمكن أن تكون مجرد حملة أمنية، بل يجب أن تكون حرباً ثقافية واجتماعية، تشارك فيها كل مؤسسات الدولة، من الأسرة إلى المدرسة والإعلام، بهدف تجفيف منابع هذه السموم.
من 25 جويلية: إرادة وطنية لمواجهة الأخطبوط
إن مسار 25 جويلية، الذي أتى استجابة لإرادة شعبية جارفة بإنهاء هيمنة قوى الفساد والفوضى، كان بمثابة نقطة تحول حاسمة في هذه المعركة. فقد تجلى الموقف السيادي الجديد لتونس في مواجهة مفتوحة وصريحة مع هذه الشبكات، حيث لم تتردد القيادة في وصفها بأنها أداة لتقويض الدولة. هذا الموقف يختلف تماماً عن الفترات السابقة التي كانت تتسم أحياناً بالتساهل أو التراخي، مما كان يمنح هذه الشبكات مساحة للتوسع والانتشار.
إن مسار 25 جويلية أعلن عن حرب لا هوادة فيها ضد كل من يحاول المساس بأمن تونس واستقرارها. هذا المسار الذي يرفض الإملاءات الخارجية في الاقتصاد والسياسة، يرفض أيضاً الإملاءات التي تحاول فرضها شبكات الجريمة الدولية على أمننا الاجتماعي. لقد أصبح شعار “السيادة الوطنية” يمتد ليشمل السيادة على عقول شبابنا، وعلى أمننا المجتمعي، وعلى مستقبل أجيالنا القادمة. هذا هو جوهر “السيادة الفعلية” التي يطمح إليها كل تونسي غيور على وطنه.
معركة السيادة الفعلية… والنصر القادم
إن حرب تونس ضد المخدرات هي معركة استرداد للسيادة الوطنية الحقيقية. إنها معركة لا تقتصر على الحدود البحرية أو البرية، بل تشمل كل زاوية من زوايا المجتمع. إن كل قرص يُضبط، وكل شحنة تُحبط، هو انتصار للوطن، وإعلان عن صمود الأمة في وجه كل محاولات التفكيك والتخريب.
إن الطريق لا يزال طويلاً، والتحديات كبيرة. لكن الإرادة الوطنية التي تجلت في مسار 25 جويلية، وقدرة الأجهزة الأمنية على تحقيق نجاحات باهرة، تمنح الأمل بأن هذه المعركة، رغم شراستها، يمكن أن تُحسم لصالح الوطن. إنها دعوة للجميع، من المواطن العادي إلى مؤسسات الدولة، للمشاركة في هذه المعركة، وإعلان أن مستقبل تونس ليس للبيع، وأن “السيادة” ليست مجرد شعار، بل هي مسؤولية جماعية يجب أن نتحملها جميعاً.