نزار الجليدي يكتب/ نيبال: من الشوارع المشتعلة إلى مختبر جيوسياسي


في غضون عشرة أيام فقط، انتقلت كاتماندو من فوضى دامية إلى هدوء هش. التعيين المفاجئ لسوشيلا كاركي، الرئيسة السابقة للمحكمة العليا، منح البلاد استراحة مؤقتة بعد انتفاضة شبابية أودت بحياة العشرات. لكن خلف هذه “فترة كاركي” القصيرة، يتحدد مستقبل دولة صغيرة جغرافيًا، كبيرة جيوسياسيًا، باتت محط أنظار الصين والهند والولايات المتحدة.
في 12 سبتمبر، تناقلت شوارع كاتماندو صورة رمزية: سوشيلا كاركي، البالغة 73 عامًا، ترفع يدها أمام الرئيس رام شاندرا باوديل لتؤدي اليمين كأول امرأة تتولى منصب رئاسة الوزراء بالإنابة. قاضية معروفة بصرامتها ضد الفساد، وزعيمة جاءت نتيجة تسوية غير مسبوقة جمعت الجيش والشباب والمؤسسات التقليدية. المشهد كان نقيض الأيام السابقة: شوارع محترقة، 74 قتيلًا وأكثر من ألفي جريح، ومبانٍ حكومية تحترق، في تجسيد لوضع بلد أنهكته الأزمات.
الاحتجاجات لم تكن وليدة مشروع قانون لحظر وسائل التواصل الاجتماعي فحسب، كما زعمت بعض وسائل الإعلام، بل كانت حصيلة سنوات من الفساد والمحسوبية والوعود المنكوثة. “حركة الجيلZ”، التي غذتها شريحة شبابية متعلمة لكنها بلا آفاق، قلبت المشهد رأسًا على عقب. في لحظات، اهتزت النخب: خادغا براساد شارما أولي اضطر للتنحي، وخسرت الأحزاب الثلاثة الكبرى التي سيطرت على الحياة السياسية لعقدين كاملين قدرتها على التحكم.
من الفوضى إلى الهدوء: “حكم كاركي”
في بلد خرج من حرب أهلية قادها الماويون ثم من دستور مثير للجدل أُقرّ عام 2015، بدت أحداث سبتمبر 2025 وكأنها تكرار للتاريخ، لكن بوتيرة أعنف. أكثر من سبعين قتيلًا خلال يومين، مواجهات أمام مقر الحكومة “سينغا دوربار”، ومنازل وزراء أُحرقت. الغضب كان موجّهًا بقدر متساوٍ نحو الطبقة السياسية المتقادمة وأبنائها المدللين الذين يتباهون بثرواتهم على المنصات الرقمية.
الجيش اختار التدخل لا لسحق الشارع، بل لتأطير انتقال سياسي. ترشيح سوشيلا كاركي قُدم باعتباره اختيار شخصية “فوق الخلافات”. أعلنت عن لجنة تحقيق في أحداث العنف، برئاسة القاضي السابق لمكافحة الفساد غوري باهادور كاركي، بمدة عمل لا تتجاوز ثلاثة أشهر. كما تعهدت بإنشاء لجنة وطنية لمكافحة الفساد والإعداد لانتخابات تشريعية في مارس 2026. وقالت بلهجة حاسمة: “علينا معالجة الإخفاقات التي فجّرت هذه الاحتجاجات الدموية: الشفافية، التشغيل، وتحسين مستوى المعيشة”.
لكن الهدوء يبقى مشروطًا. “الحكومة الجديدة قد تسقط بدورها إن لم تتحرك”، حذّر سودان غوروغ، أحد قادة الحراك الطلابي. في الأحياء الشعبية بالعاصمة وفي سهول المادهيس، تتعاظم التطلعات: محاسبة “الأباطرة” السياسيين الذين اغتنوا فيما ظلت العائلات تعيش على تحويلات أبنائها المغتربين. هكذا، تبدو “فترة كاركي” مزيجًا من التهدئة وسيف معلّق: هدّأت الغضب لكنها لم تُطفئه، ومنحت القوى العالمية الكبرى فرصة لمد نفوذها في مرحلة الانتقال النيبالية.
بلد بسيط… لكن بأهمية تفوق حجمه
للوهلة الأولى، قد يبدو النيبال بلدًا هامشيًا: ثلاثون مليون نسمة، ناتج داخلي إجمالي أقل من بعض المدن الهندية الكبرى، واقتصاد يعتمد أساسًا على تحويلات العمال المهاجرين. لكن في الحسابات الجيوسياسية الحديثة، موقعه وحده يغيّر المعادلة. محاصر بين عملاقين آسيويين، لا يملك رفاهية العزلة. ومع تصاعد التوترات الإقليمية، يتحول كل كيلومتر مربع من أراضيه إلى قضية سيادة.
الرافعة الأولى هي الطاقة. يمتلك النيبال إمكانات هيدروكهربائية هائلة لم يُستغل منها إلا جزء ضئيل. في صيف هذا العام، صدّرت كاتماندو لأول مرة 40 ميغاواط من الكهرباء إلى بنغلادش، مرورًا بالشبكة الهندية. ومع 80 ميغاواط أخرى تُضخ بالفعل إلى ولاية بيهار الهندية، تبدو الأرقام متواضعة لكنها كاشفة: الهند هي التي تملك مفتاح العبور. فكل تصدير إقليمي يمر عبر بنيتها التحتية وموافقتها، ما يمنح نيودلهي ورقة ضغط دائمة تُذكّر النيبال بأن اقتصاده لا يزال مقيدًا بخيارات جاره الجنوبي.
في المقابل، تحاول بكين كسر هذه التبعية بمدّ خطوط عبر الهيمالايا. ففي يوليو الماضي، وُقع اتفاق دراسة جدوى لخط “راسواغادي–كيرونغ” لربط كاتماندو مباشرة بالشبكة الصينية. لكن المشروع يواجه عقبات: الحدود الشمالية كثيرًا ما تتعرض لانهيارات أرضية، كما حدث في فيضان يوليو الذي جرف أجزاء من المنشآت وقطع الطريق لأسابيع. بمعنى آخر، الطرق نحو الصين موجودة على الورق، لكن استدامتها تبقى موضع شك. الأخطر أن هذا يضع النيبال أيضًا في خانة “التهديد العسكري المحتمل” لبكين، إذا ما قررت كاتماندو الاصطفاف إلى جانب الولايات المتحدة مثلًا.
أما واشنطن، فرغم حضورها الأقل ضجيجًا، فهي لا تقل تأثيرًا. عبر “مؤسسة تحدي الألفية”، ضخت 500 مليون دولار منذ 2017 لتمويل خطوط كهرباء وطرق. رسميًا، الأمر “تشجيع على التنمية”. لكن فعليًا، يندرج ضمن هندسة أمريكية أوسع لمنطقة “الهندو–باسيفيك”، حيث تتحول المساعدات الاقتصادية إلى أداة ضغط جيوسياسي.
بعيدًا عن البنى التحتية، يعيش النيبال على تحويلات مهاجريه. فكل عام، يرسل العاملون في قطر وماليزيا وكوريا الجنوبية مليارات الدولارات لأسرهم. هذه التحويلات تمثل أكثر من ربع الناتج المحلي، وتبقي الاقتصاد في حالة توازن هش: الزراعة تتراجع، الصناعة ما زالت في طور النشوء، والشباب المتعلم لا يرى أفقًا سوى الهجرة. هذه التبعية الخارجية تجعل البلاد هشة، لكنها في الوقت ذاته تجعلها حقل اختبار حي: أي انقطاع في الهند أو الصين أو الولايات المتحدة ينعكس فورًا على استقراره الداخلي.
هنا يكمن التناقض: بلد صغير الحجم، لكنّه يعكس في صورة مصغرة ديناميات السياسة العالمية. موارده المائية تجذب الأطماع، طرقه تتحول إلى ممرات استراتيجية، تمويله مرهون ببرامج غربية، وشبابه المتعطش للمستقبل يجسد حالة “جنوب عالمي” متصل بالعالم لكنه مكبوت الطموحات. بلد بسيط، نعم… لكنه يتحول، بحكم الضرورة، إلى قطعة أكبر من حجمه على رقعة الشطرنج الدولية.
الصين، الهند، الولايات المتحدة: رقعة شطرنج في قلب الهيمالايا
كل مشروع، كل طريق، كل ميغاواط يمر عبر كاتماندو، يُراقَب بدقة من بكين ونيودلهي وواشنطن. النيبال بات مختبرًا مصغّرًا للتنافس العالمي.
بالنسبة إلى الصين، الرهان هو فتح نافذة جنوب التبت. تدفع بكين منذ سنوات لتحويل كاتماندو إلى نقطة ارتكاز ضمن “مبادرة الحزام والطريق”. خط “راسواغادي–كيرونغ”، المموَّل من وكالة التعاون الدولية الصينية (CIDCA)، يندرج في هذا الإطار: إيصال الكهرباء النيبالية إلى الصين وربط البلاد تدريجيًا بالمبادرة. لكن بكين تتعامل مع الملف بحذر: أي تقدم ظاهر قد يثير غضب الهند، التي لم تهدأ جروحها الحدودية بعد. الصين تدرك أن استقرار النيبال هش، وأن الشارع قادر على الانقلاب ضد أي مشروع يُنظر إليه كتدخل خارجي.
أما الهند، فهي ترى في النيبال قبل كل شيء منطقة عازلة حيوية. لم تهضم نيودلهي خريطة 2020 التي أصدرتها كاتماندو، والتي ضمّت مناطق كالاباني وليبوليهك وليمبيا دورا. وفي أغسطس الماضي، حين أعادت الهند فتح ممر ليبوليهك رسميًا مع الصين دون إشراك النيبال، هاجم البرلمان النيبالي الاتفاق واعتبره “تفاوضًا على حسابه”. تتحرك نيودلهي ببراغماتية: تحتكر صادرات الكهرباء النيبالية وتذكّر باستمرار أن أمن حدودها في الهيمالايا غير قابل للنقاش. في عقل الاستراتيجيين الهنود، أي تقارب مفرط بين كاتماندو وبكين يشكل تهديدًا مباشرًا لجبهتهم الشمالية.
الولايات المتحدة، بدورها، تلعب على نحو أقل صخبًا لكن لا يقل استراتيجية. “مؤسسة تحدي الألفية” (MCC) هي أداتها الأساسية: حزمة مشاريع بنى تحتية تضع النيبال في المدار الأمريكي. الخارجية الأمريكية تتحدث عن “ازدهار” و”أمن إقليمي”، لكن القراءة في سياق “الهندو–باسيفيك” واضحة: واشنطن تريد إبقاء كاتماندو خارج الفلك الصيني. بعض قادة الشباب في النيبال يذهبون أبعد من ذلك، متهمين منظمات أمريكية(بل وحتى الـCIA، حسب الأكثر تشددً) بالتحريض على الاحتجاجات ضد أولي، كما حدث في بنغلادش وباكستان. لا أدلة دامغة، لكن الشكوك تتراكم.
هكذا تتشكل مثلث الضغوط: بكين تعرض بدائل للربط، نيودلهي تمسك برقبة الاقتصاد من خلال شبكاتها وطرقها، وواشنطن تقدم تمويلًا مشروطًا. بالنسبة إلى كاتماندو، كل اتفاقية جديدة مقامرة محفوفة بالمخاطر. أما بالنسبة إلى الشباب النيبالي، فالأمر بات جليًا: بلادهم لم تعد ساحة صراع مع الفساد وحسب، بل رقعة شطرنج تتناوب القوى الكبرى على تحريك بيادقها فيها بأقل التكاليف.
المختبر الجيوسياسي العالمي: لماذا النيبال مهم
للوهلة الأولى، قد يبدو النيبال مسرحًا هامشيًا، بلدًا جبليًا فقيرًا لا وزن له في معادلات العالم. لكن هذه الهامشية الظاهرة بالذات هي ما يجعله مختبرًا للمواجهة الدولية. حين تختبر الولايات المتحدة أو الصين أو الهند استراتيجيات نفوذها، فهي تفضّل البيئات ذات الكلفة السياسية المحدودة. النيبال يقدم هذا الحقل التجريبي المثالي.
بالنسبة إلى أوروبا، التحدي مزدوج. أولًا، الكهرباء الخضراء: جبال الهيمالايا تخزّن إمكانات هائلة للطاقة الكهرومائية. إن نجحت بكين في استغلالها وربطها بالتبت، ستعزز ثقلها الطاقي والتكنولوجي في آسيا. وإن أحكمت نيودلهي السيطرة عليها، ستكرّس نفسها قوة إقليمية لا يمكن تجاوزها. في الحالتين، تجد أوروبا نفسها متفرجة على سوق كان يمكن أن يكون متنوعًا ويتجه جزئيًا نحوها.
ثانيًا، الدينامية السياسية. انتفاضة الشباب النيبالي ضد الفساد والمحسوبية تعكس حركات مشابهة تهز دولًا أخرى في الجنوب العالمي. في عالم لم تعد الاستقطابات فيه محصورة بين “الشرق والغرب”، بل بين مجتمعات مدنية تطالب بحقوقها ونخب متحجرة، يذكّر النيبال بأن الشباب صار فاعلًا جيوسياسيًا بحد ذاته.
أما في شمال إفريقيا، فالتشابه أكثر وضوحًا. اقتصادات تعتمد على تحويلات المغتربين، مديونية متفاقمة، تبعية غذائية، كلها هشاشات نعرفها في تونس أو الرباط أو القاهرة. حين يهتز كاتماندو، فإن الرسالة تصل مباشرة: الانتفاضات لم تعد فقط عقائدية، بل اجتماعية وجيلية.
الرسالة السياسية واضحة إذن: لم يعد هناك “دول صغيرة”. بلد بثلاثين مليون نسمة، محشور بين عملاقين، يتحول إلى قطعة على رقعة الشطرنج الكونية. في زمن التعددية القطبية، كل أزمة محلية تصبح بروفة لصدامات الغد. النيبال اليوم مرآة تكبّر تشققات نظام عالمي في طور إعادة التشكل.
الانتفاضة النيبالية وصعود سوشيلا كاركي إلى الحكم ليسا شأنًا داخليًا صرفًا. إنهما يجسدان في آن واحد انهيار منظومة سياسية مغلقة وضغوط القوى الكبرى على دولة محورية. في ظل جبال الهيمالايا، يراقب الأمريكيون والصينيون والهنود كل خطوة تتخذها كاتماندو، مدركين أن هذا البلد الصغير قادر على التأثير في موازين أكبر: طرق التجارة، أمن المنطقة، السيطرة على الطاقة.
لكن أبعد من الجغرافيا السياسية، يضع النيبال تحت الضوء حقيقة راهنة: طموح جيل متعلم، متصل بالعالم، لكنه بلا آفاق. وحيث تتعطل المؤسسات، يبتكر هذا الجيل أدواته للتعبئة، ولو عبر صدام عنيف مع النخب. هذه الغضبة الجيلية، الحاضرة في جنوب آسيا كما في غرب إفريقيا أو المغرب العربي أو شرق أوروبا، تمنح الحالة النيبالية بُعدًا كونيًا.
خلاصة القول: وإن بدت كاتماندو بعيدة، فإن ارتجاجاتها تحمل رسالة أساسية عن زمننا: هشاشة الأنظمة القائمة وسرعة تحوّل أي أزمة محلية إلى إشارة كونية.