ملحمة العبور: يوم أن استعادت الأمة روحها - صوت الضفتين

ملحمة العبور: يوم أن استعادت الأمة روحها

بقلم محمد امين الجربي

 من رماد 1967 إلى نار الكرامة في 1973

​لم تكن حرب أكتوبر 1973 مجرد معركة عسكرية، بل كانت لحظة انصهار الإترادة الوطنية في بوتقة الكرامة، ونقطة تحول تاريخية أعادت تعريف موازين القوى في الشرق الأوسط. إنها قصة جيل رفض الهزيمة، وقيادة عسكرية خططت بصمت، وجنود حفروا أسماءهم بحروف من نور على ضفاف القناة. هذا ليس مجرد سرد لتاريخ مضى، بل هو تشريح لملحمة بدأت من رماد نكسة 1967 لتصل إلى ذروة المجد في السادس من أكتوبر. إنها شهادة على أن هذه الأمة، حين تتوحد إرادتها، قادرة على قهر المستحيل.

​الفصل الأول: من رماد الهزيمة إلى بناء الروح القتالية

​بعد كارثة يونيو 1967، لم يكن الجيش المصري مجرد قوة مهزومة، بل كان كيانًا محطم الروح. هنا، برز دور القادة العظام الذين فهموا أن الطريق إلى النصر لا يمر عبر الأسلحة وحدها، بل يبدأ من إعادة بناء “الروح” المفقودة. كان الفريق محمد فوزي، الذي عُيّن قائدًا عامًا للقوات المسلحة، هو المهندس الأول لهذه النهضة. لم تكن مهمته مجرد إعادة تسليح الجيش، بل كانت إعادة بناء للعقيدة القتالية نفسها، وتحويل المقاتل من حالة اليأس إلى حالة الثقة.
​عمل فوزي جنباً إلى جنب مع العقل الاستراتيجي الفذ، الفريق عبد المنعم رياض، الذي قاد جهوداً حثيثة لتحصين الجبهة ورفع الكفاءة القتالية. كانت “حرب الاستنزاف” التي تلت الهزيمة، بمثابة مدرسة قاسية تخرج منها قادة وجنود أكتوبر. كانت كل طلقة تُطلق، وكل شهيد يسقط، وكل موقع يُستهدف، بمثابة خطوة نحو استنزاف غطرسة العدو وبناء ثقة المقاتل المصري بنفسه وبقدرته على المواجهة. وفي قلب هذه الحرب، وُلد المشروع الأعظم: حائط الصواريخ. لم يكن هذا الحائط مجرد منظومة دفاع جوي، بل كان الدرع الذي سيحمي ظهر الأبطال أثناء العبور، وهو ما تحقق بفضل الدعم السوفيتي الحاسم الذي وفر الغطاء التكنولوجي اللازم لهذه النهضة العسكرية.

​الفصل الثاني: صراع الإرادات في هرم السلطة

​بينما كانت الجبهة تشتعل، كان الصراع على أشده في دوائر صنع القرار. شهدت هذه الفترة ما عُرف بـ”حرب مراكز القوة”، حيث كانت الرؤى تتصادم. برز تياران رئيسيان:
​التيار الأول: بقيادة وزير الحربية آنذاك، الفريق أول محمد صادق، الذي كان يرى أن الجيش غير مستعد للمواجهة، ويدعو إلى تأجيل الحرب حتى تحقيق توازن قوى شامل مع إسرائيل. كانت وجهة نظره، وإن بدت حكيمة عسكرياً، إلا أنها اصطدمت بالإرادة السياسية التي كانت لا تقبل أي تأخير في استعادة الأرض.
​التيار الثاني: الذي قاده رئيس الأركان الجريء، الفريق سعد الدين الشاذلي، فكان يرى أن انتظار التكافؤ المطلق هو وهم، وأن الحل يكمن في عملية خاطفة ومحدودة الأهداف تستغل نقاط ضعف العدو وتستعيد زمام المبادرة. كان هذا التيار يرى أن السياسة يجب أن تخدم الأهداف العسكرية، لا أن تحكمها.
​كان هذا الصراع الفكري هو الذي أدى في النهاية إلى تغييرات جذرية في القيادة. جاء تعيين المشير أحمد إسماعيل علي وزيراً للحربية مدفوعاً برغبة سياسية من الرئيس السادات لخلق قيادة موحدة تضمن الولاء المطلق للقرار السياسي. ورغم الخلافات المعروفة بين إسماعيل والشاذلي، إلا أن هذا التعيين فرض عليهما العمل معاً، فكان إسماعيل هو المايسترو السياسي الذي يوجه المعركة، والشاذلي هو العقل العسكري المخطط.

​الفصل الثالث: “بدر”.. ميلاد خطة العبور

​من رحم هذا التعاون الصعب، وُلدت أذكى الخطط في تاريخ الحروب الحديثة. لقد كانت خطة “المئذنة العالية” هي الخطة السابقة التي تهدف إلى عبور القناة وتدمير خط بارليف، ولكنها ظلت حبيسة الأوراق لسنوات. أما الخطة التنفيذية التي تم اعتمادها في حرب أكتوبر 1973، فقد حملت اسم “بدر”.
​وضع الفريق الشاذلي عبقريته في “التوجيه 41” الذي كان بمثابة سيمفونية متكاملة. لقد فكك الشاذلي كل تفاصيل خط بارليف، وحوّل كل نقطة قوة فيه إلى نقطة ضعف. كانت الفكرة العبقرية باستخدام مضخات المياه لفتح ثغرات في الساتر الترابي ضربةً معلم، حلت معضلة استمرت لسنوات. لقد تحولت المياه، التي كانت رمزاً للمانع، إلى أداة للعبور. ونص “المنشور 41” على كيفية عبور المشاة للمانع المائي، وتأمين رؤوس الكباري، وتدمير حصون العدو، كل ذلك في سباق مع الزمن. كانت الخطة جريئة، دقيقة، وقاتلة.

​الفصل الرابع: يوم العبور العظيم.. نصر كاسح يهز العالم

​في تمام الساعة الثانية وخمس دقائق من ظهر السادس من أكتوبر 1973، انطلقت الشرارة. 220 طائرة مصرية تعبر القناة في ضربة جوية محكمة، بينما انهمرت آلاف القذائف من فوهات 2000 مدفع، محولة خط بارليف إلى جحيم. لم يكن العدو يتوقع هذه الجرأة، ولا هذا التوقيت.
​تحت هذا القصف، تدفقت موجات المشاة المصرية كالسيل الهادر، وعبرت القناة في قوارب مطاطية، وتسلق رجال الصاعقة الساتر الترابي، ورفعوا علم مصر فوق أولى نقاط خط بارليف. في غضون ساعات، انهار الخط الذي وصفوه بأنه “لا يُقهر”. كان انتصاراً مصرياً كاسحاً، أعاد للأمة كرامتها، وأثبت للعالم أن الإرادة المصرية قادرة على صنع المعجزات.

​الفصل الخامس: الخطأ السياسي الذي كاد أن يسرق النصر

​في ذروة الانتصار، وبينما كانت القوات المصرية تسيطر على شريط بعمق 10-15 كيلومتراً شرق القناة تحت حماية حائط الصواريخ، صدر القرار السياسي الذي غيّر مسار الحرب: تطوير الهجوم شرقاً نحو المضايق.
​هنا، وقف العقل العسكري في وجه القرار السياسي. اعترض الفريق الشاذلي بشدة، ومعه قادة ميدانيون كبار مثل اللواء عبد المنعم واصل قائد الجيش الثالث، واللواء سعد مأمون قائد الجيش الثاني. كانت حجتهم واضحة ومنطقية: تطوير الهجوم يعني خروج قواتنا المدرعة من مظلة الدفاع الجوي، وجعلها فريسة سهلة للطيران الإسرائيلي المتفوق.
​لكن القرار السياسي انتصر. وفي 14 أكتوبر، تحركت القوات المصرية شرقاً، ووقعت الكارثة المتوقعة. تعرضت القوات المصرية لخسائر فادحة، والأخطر من ذلك، أن هذا التحرك الخاطئ هو الذي ساعد العدو على اكتشاف الثغرة بين الجيشين الثاني والثالث في منطقة الدفرسوار.

​الفصل السادس: معارك الشرف.. المزرعة الصينية والثغرة

​مع بدء الدعم الأمريكي الهائل بالوصول إلى إسرائيل عبر جسر جوي مفتوح، استغل العدو الثغرة وبدأ في العبور إلى غرب القناة. هنا، دارت واحدة من أشرس معارك الحرب: معركة المزرعة الصينية. في هذه الملحمة، أظهرت القوات المصرية صموداً أسطورياً. برز دور قادة مثل العميد محمد حسين طنطاوي (المشير لاحقاً)، قائد الكتيبة 16 مشاة، الذي قاتل برجاله ببسالة لمنع العدو من توسيع الثغرة، وكبّده خسائر فادحة.
​تصاعد الصراع بين السادات والشاذلي حول كيفية التعامل مع الثغرة. طالب الشاذلي بسحب 4 ألوية مدرعة من الشرق لتصفية الثغرة في الغرب، وهو ما كان الحل العسكري الأمثل. لكن السادات رفض رفضاً قاطعاً، معتبراً أي انسحاب من الشرق هزيمة سياسية. هذا الصراع أدى في النهاية إلى إقالة الشاذلي من منصبه في ذروة المعارك، وتعيين المشير محمد عبد الغني الجمسي بدلاً منه، الذي أدار ببراعة المراحل النهائية للحرب ومفاوضات فض الاشتباك.

نصر سياسي وُلد من رحم التضحيات

​انتهت الحرب رسمياً، وبدأت معركة السياسة. رغم مرارة الثغرة، ورغم التضحيات الجسيمة، حققت مصر نصراً استراتيجياً لا يمكن إنكاره. لقد حطمت أسطورة “الجيش الذي لا يُقهر”، وأجبرت إسرائيل والعالم على الاعتراف بالحق العربي. المكاسب السياسية التي تلت الحرب، والتي أدت في النهاية إلى استعادة سيناء كاملة، لم تكن لتتحقق لولا دماء الأبطال الذين عبروا القناة، وصمود الرجال في المزرعة الصينية، وعبقرية القادة الذين خططوا لهذه الملحمة الخالدة.
​حرب أكتوبر لم تكن مجرد حرب، بل كانت شهادة على أن هذه الأمة، حين تتوحد إرادتها، قادرة على قهر المستحيل.

شارك المقال

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

French