قطر تحت القصف… وأسـطول الصمود يربك الحسابات الإسرائيلية
بقلم الكاتب الصحفي والمحلل السياسي نزار الجليدي

الهجوم الإسرائيلي في 9 سبتمبر خلّف ستة قتلى في الدوحة من دون أن يصيب هدفه المباشر، أي وفد حركة حماس. لكنه انتهك سيادة حليف للولايات المتحدة (قطر)، وعمّق الشرخ بين واشنطن وتل أبيب، وأطلق دينامية دبلوماسية جديدة تُرجمت في قمة عربية–إسلامية استثنائية افتُتحت يوم الاثنين 15 سبتمبر. قطر، البعيدة كل البعد عن الضعف، قد تحوّل العدوان الصهيوني إلى ورقة ضغط سياسية.
بعد ظهر التاسع من سبتمبر سيظل محفورًا كحدث غير مسبوق: صاروخ إسرائيلي سقط وسط الدوحة، على بعد كيلومترات قليلة فقط من قاعدة العديد الأمريكية. ستة أشخاص لقوا حتفهم، بينهم همام الحية نجل رئيس وفد حماس، وضابط أمن قطري. أما المستهدفون المباشرون فقد نجوا، ما جعل الضربة تكشف أسلوب فرض الأمر الواقع الذي تعتمده إسرائيل، وتضع الولايات المتحدة في موقف حرج. البيت الأبيض اعترف بأنه أبلغ الدوحة “متأخرًا جدًا”، فيما عبّر دونالد ترامب عن “استيائه الكبير”، مندّدًا بهجوم “يعرّض للخطر حليفًا أساسيًا ووسيطًا لا غنى عنه”.
رئيس الوزراء ووزير الخارجية القطري، محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، وصف ما حدث بـ“إرهاب الدولة” و“ضربة للوساطة”. كلماته لاقت صدى نادرًا في مجلس الأمن: ففي 11 سبتمبر وقّع الأعضاء الخمسة عشر، بمن فيهم واشنطن، على بيان يدين الهجوم. إجماع استثنائي حين يتعلّق الأمر بإسرائيل، ما يعكس خطورة الحدث.
في اليوم الموالي، دعت الدوحة إلى قمة طارئة جمعت الجامعة العربية ومنظمة التعاون الإسلامي معًا، في صيغة لم يُشهد لها مثيل في قضايا من هذا النوع. القمة افتُتحت في 15 سبتمبر وسط أحاديث عن مشروع قرار يحذّر من أنّ هذه الضربات “تهدد بنسف أي مسار للسلام”. التاريخ نفسه لم يكن عاديًا: الذكرى الخامسة للاتفاقيات الإبراهيمية. إسرائيل أرادت فرض معادلتها، لكن قطر حوّلت العدوان إلى منبر دبلوماسي.
الحضور المعلن للرئيس الإيراني مسعود بزشكيان ورئيس الوزراء الباكستاني شهباز شريف أضفى ثقلًا استثنائيًا على الاجتماع. فالقضية لم تعد مجرد تكرار لخطاب التضامن التقليدي، بل تحوّلت إلى رسم خط أحمر واضح. الجميع داخل القاعة يدرك أن استهداف غزة قد يغضّ الغرب الطرف عنه، للأسف، لكن استهداف الدوحة، الحليف المباشر لواشنطن ومفترق الطرق الدبلوماسي، هو تجاوز من طبيعة مختلفة.
قمة الدوحة: من العدوان الإسرائيلي إلى ورقة ضغط دبلوماسية
لا تملك الدوحة جيشًا ضخمًا ولا أراضي شاسعة. قوتها تكمن في مكان آخر: في أدوات خفية لكنها شديدة الفعالية، قادرة على تحويل كل أزمة إلى فرصة. الهجوم الإسرائيلي في 9 سبتمبر كشف ذلك بوضوح: ضرب وسيط بحجم قطر يعني استهداف عقدة من الاعتمادات المتشابكة التي يفضّل كثيرون عدم المساس بها.
الرافعة الأولى عسكرية. في العديد، جنوب غرب الدوحة، تنتشر أكبر قاعدة أمريكية خارج الولايات المتحدة، حيث أقام “القيادة المركزية (CENTCOM)” مقره المتقدم. أكثر من عشرة آلاف جندي أمريكي متمركزون هناك مع منظومة لوجستية تتيح لواشنطن مراقبة الخليج وإيران وأفغانستان. بالنسبة للأمريكيين، القاعدة قطعة أساسية في استراتيجيتهم. عام 2019، ضخّت قطر أكثر من 1,8 مليار دولار لتوسيعها، في إشارة واضحة إلى ترابطها العضوي مع الولايات المتحدة. وعلى بعد كيلومترات قليلة، تتمركز قاعدة تركية–قطرية تضم أكثر من ثلاثة آلاف جندي، رمزًا للشراكة مع أنقرة. ضرب الدوحة، إذن، يعني وضع جيشين من حلف الناتو تحت الضغط وتعقيد الحسابات الإقليمية.
الرافعة الثانية طاقية. قطر هي أول مصدّر عالمي للغاز الطبيعي المسال. حقلها العملاق “نورث فيلد”، المشترك مع إيران، في طور توسعة تهدف إلى رفع الإنتاج إلى 142 مليون طن سنويًا بحلول 2030، مقابل 77 مليونًا حاليًا. أوروبا وقّعت بالفعل عقودًا تمتد لعشرين سنة لتعويض القطيعة مع موسكو. في ديسمبر 2022، حصلت «توتال إنرجي» على حصة في مشروع “نورث فيلد إيست”، فيما تعتمد ألمانيا وإيطاليا وفرنسا على هذه الإمدادات. الدوحة ليست مضطرة لتهديد بقطع الغاز؛ مجرد التذكير بهذا الاعتماد يكفي للتأثير على حسابات العواصم الأوروبية.
الرافعة الثالثة مالية. الصندوق السيادي القطري (QIA) يدير ما يقارب 560 مليار دولار من الأصول، موزعة على قطاعات استراتيجية: حصص في «فولكسفاغن» و«باركليز»، عقارات فاخرة في باريس ولندن، موانئ ومطارات أوروبية. أي إعادة توزيع—even طفيفة—تُراقب بدقة في الأسواق العالمية. قطر ليست بحاجة إلى خطوات صاخبة؛ إشارات محدودة تكفي لتذكير الجميع بأن أموالها تضخ الحياة في عواصم لا تجرؤ على خسارتها.
أما الرافعة الرابعة فهي القوة الناعمة. منذ 1996، تبقى الجزيرة القناة العربية الأكثر تأثيرًا، وأحد أبرز الفاعلين الإعلاميين على مستوى العالم. تغطيتها للحروب، للثورات العربية، واليوم لغزة، كثيرًا ما تحدد أجندة الإعلام الدولي. يضاف إلى ذلك نادي باريس سان جيرمان، كواجهة رياضية عالمية، وإرث كأس العالم 2022 كأول بطولة تُنظم في العالم العربي. هذا الرصيد الرمزي يسمح للدوحة بتحويل أي اعتداء إلى قصة كونية: إمارة صغيرة محاصرة لكنها تفرض قواعدها على القوى الكبرى.
هذه الرافعات ليست نظرية. إنها عوامل حقيقية على طاولة المفاوضات، تذكّر بأن قطر ليست مجرد هدف، بل محور لا يمكن تجاوزه. لهذا السبب، فإن ضربة 9 سبتمبر لم تُضعف الإمارة، بل زادت من وزنها.
من الوساطة إلى القاعدة: الدوحة تسعى لتقنين المحرَّمات
أبعد من بيانات التنديد، تسعى الدوحة إلى تحويل هجوم 9 سبتمبر إلى سابقة مرسّخة. الهدف ليس الثأر بل فرض قاعدة واضحة: لا يُستهدف وسيط ديبلوماسي، خصوصًا إذا كان يحتضن على أرضه أكبر قاعدة أمريكية في المنطقة. هذا هو جوهر الرسالة التي وضعتها الإمارة الصغيرة في صميم القمة العربية–الإسلامية التي افتُتحت في 15 سبتمبر.
مشروع القرار المطروح في العاصمة القطرية واضح: هذه الضربات لا تهدد السلام الإقليمي فحسب، بل قد تنسف أيضًا مسارات «السلام عبر التطبيع» التي بدأت منذ 2020. النص يؤكد على حماية سيادة الدول المضيفة، ويسعى ضمنيًا إلى ترسيخ قاعدة عدم استهداف المنصات الوسيطة. حضور الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان ورئيس الوزراء الباكستاني شهباز شريف أضفى على النقاش بعدًا غير مسبوق. رسميًا، جاءا للتعبير عن التضامن؛ أما فعليًا، فدورهما تجاوز مجرّد الاستعراض.
وفق مصدر دبلوماسي شارك في التحضيرات، تدور مناقشات حول نقل عائلات بعض المسؤولين الفلسطينيين بهدوء إلى إيران، لتجنّب أن تتحول إقامتهم في الدوحة إلى ذريعة لضربات جديدة. هذا الخيار، الذي يُبحث بوساطة سعودية وباكستانية، يهدف إلى تحصين الدور القطري. فهو لا ينتقص من موقع حماس السياسي ولا من قنوات الحوار، لكنه يحمي الدوحة ويضمن استمرار دورها كوسيط.
إسرائيل، وقد أدركت خطورة هذه المعادلة، حاولت تشتيت الانتباه. الصحافة العبرية كثّفت حديثها عن “تحوّل تونس إلى قاعدة خلفية لحماس”. لكن الواقع معكوس: تونس، بالتنسيق مع الجزائر، شاركت في مباحثات هدفها إبعاد أي وجود حساس عن أراضيها. هذه الاتهامات جاءت بالتزامن مع تحقيق تونسي حول الهجمات التي استهدفت “أسطول الصمود”، مرتين في عرض البحر بواسطة طائرات مسيّرة. ورغم نفيها في البداية، أصبحت السلطات التونسية تصفها اليوم بأنها «عمل مدبّر»، ما يجعل الحملات الإعلامية الإسرائيلية أقرب إلى محاولة ضغط مباشر على مسار التحقيق.
في خضم هذا التوتر، تصوغ الدوحة دورًا جديدًا. لم تعد مجرد مضيف، بل تسعى لتكون واضعًا للمعايير. هدفها: تثبيت قاعدة في القانون والممارسة الدولية بأن استهداف دولة وسيطة يجرّ على المعتدي ثمنًا سياسيًا على الأقل. الحسابات الإسرائيلية كانت تراهن على إضعاف قطر، لكن النتيجة جاءت عكسية: الدوحة باتت مركز جبهة تمتد من طهران إلى إسلام آباد، ومن الرياض إلى الجزائر، تتفق كلها على حقيقة واحدة — الوسطاء والديبلوماسيّون ليسوا بأهداف مشروعة.
أسطول الصمود: رحلة رمزية قد تتحول إلى هزيمة إعلامية لتل أبيب
بينما يجتمع قادة المنطقة في الدوحة، يشقّ أسطول الصمود طريقه عبر المتوسط نحو غزة. لن يغيّر موازين القوى العسكرية، لكنه قادر على إلحاق هزيمة رمزية. عشرون قاربًا، نشطاء من أكثر من أربعين دولة، شخصيات معروفة — القافلة أبحرت من بنزرت في 13 سبتمبر، رغم حادثتين غامضتين أثناء توقفها في تونس. الأولى حريق على متن سفينة فاميلي التي ترفع العلم البرتغالي، عزه الحرس التونسي لأسباب تقنية؛ وفي الليلة التالية، هجوم أوضح استهدف سفينة ألما التي ترفع العلم البريطاني. هذه المرة، وصفت السلطات التونسية ما حدث بأنه «عمل مدبّر» وفتحت تحقيقًا. لم تقع إصابات، لكن الصور تكفي: ضوء في السماء، نار تشتعل، وصوت المقرّرة الأممية فرانشيسكا ألبانيزي يؤكد أن أي تورط لطائرة مسيّرة يشكل انتهاكًا للسيادة.
منذ 2010، اعترضت إسرائيل كل أسطول حاول الوصول إلى غزة. لكن الثقل السياسي اليوم لا يكمن في الوصول، بل في الرحلة نفسها. الحادثتان في تونس ثم الإبحار رغم كل شيء نسجا رواية قوية. وفي اللحظة ذاتها التي تحتضن فيها الدوحة قمة عربية–إسلامية غير مسبوقة لتقنين مبدأ عدم استهداف الوسطاء، يمضي أسطول متعدد الجنسيات نحو غزة. مشهدان يتكاملان: إمارة صغيرة ضُربت فحوّلت العدوان إلى ورقة دبلوماسية، وقوارب قليلة تتحدى الترهيب وتواصل المسير.
الخطر بالنسبة لإسرائيل ليس عسكريًا بل دبلوماسي، خصوصًا أمام رأي عام غربي يزداد وعيًا بالمجازر في غزة. يمكن اعتراض السفن، لكن يصعب السيطرة على قصة تُبثّ لحظة بلحظة بأربعين لغة. بين إدانات القمة في الدوحة وصور بنزرت، قد تكون هذه هي الضربة الإعلامية التي يفيض بها الكيل: لحظة تُحرّك الرأي العام خارج نصوص البيانات وتدفع العواصم إلى اختيار موقف… أو تحمّل تبعات صمتها أمام شعوبها.