الأمم المتحدة: اعتراف بدولة فلسطين بين صدى التصفيق وهدير الجرافات - صوت الضفتين

الأمم المتحدة: اعتراف بدولة فلسطين بين صدى التصفيق وهدير الجرافات

بقلم الكاتب الصحفي والمحلل السياسي نزار الجليدي

 

في نيويورك، صوّتت الجمعية العامة بأغلبية ساحقة لصالح تبنّي «إعلان نيويورك» حول فلسطين: 142 دولة مؤيدة، 10 ضد، و12 ممتنعة. خلف هذا الإجماع الظاهري، برز شرخ واضح: واشنطن وتل أبيب معزولتان في مواجهة بقية العالم، فيما تصدّرت باريس والرياض مشهد الترويج لـ“حل الدولتين”. لكن بين لغة الدبلوماسية ونفاق السياسات الإقليمية، يكمن الامتحان الحقيقي للصدقية، خصوصًا في أوروبا.

في 12 سبتمبر 2025، أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة حكمها: اكتساح دبلوماسي لصالح الاعتراف بدولة فلسطينية. مئة واثنان وأربعون بلدًا وافقوا على الإعلان، عشرة عارضوه، واثنا عشر امتنعوا. الأرقام لافتة، لكنها تكشف قبل كل شيء عزلة متزايدة للولايات المتحدة وإسرائيل، العاجزتين عن استقطاب أكثر من دائرة ضيقة من الحلفاء. الصور جابت العالم: مقاعد ممتلئة بوفود الدول العربية والأفريقية والآسيوية والأوروبية المؤيدة لفلسطين، وفي الجهة الأخرى، أصوات محدودة بالرفض، تقودها واشنطن وتل أبيب، واصفة النص بـ“السيرك السياسي” و“بهلوانيات في غير محلها“.

ومع ذلك، تبقى الحقيقة قائمة: مصير فلسطين لا يُحسم في القاعات المكسوّة بالأخشاب في نيويورك، بل في أزقة غزة، وتلال الضفة الغربية، وفي العواصم التي تقرّر أو ترفض إصدار مراسيم الاعتراف. 

الولايات المتحدة وإسرائيل معزولتان أمام كتلة الـ142: اختبار المصداقية الأوروبية

المعارضة الأمريكية والإسرائيلية كانت فورية وحادّة. البعثة الأمريكية في الأمم المتحدة وصفت ما جرى بأنه “مسرحية في غير توقيتها ولا مكانها”، في محاولة لتجريد العملية من الشرعية. إسرائيل بدورها وصفت التصويت بـ“السيرك السياسي المنفصل عن الواقع”. أما بنيامين نتنياهو، فلم ينتظر جلسة التصويت ليعلن خطه الأحمر: “لن تكون هناك دولة فلسطينية”، صرح بذلك في معاليه أدوميم، عشية توقيعه خطة E1 التي تتضمن بناء أكثر من 3400 وحدة استيطانية جديدة في الضفة الغربية. المشهد كله يلخص الموقف: الدولة الصهيونية ترفض الدبلوماسية بينما تواصل صبّ الإسمنت على الأرض.

في مواجهة هذه الوضعية، قدّمت فرنسا والسعودية نفسيهما كمحرّكين للمبادرة. ففي جويلية، قادتا معًا المؤتمر الذي أفضى إلى النص الذي تبنته الأمم المتحدة، رغم مقاطعة واشنطن وتل أبيب. بالنسبة لإيمانويل ماكرون، التوقيت لم يكن بريئًا. غارق في ولاية ثانية مثقلة بالأزمات الاجتماعية والدبلوماسية والأمنية، أراد أن يوجه ضربة إعلامية قوية: الإعلان عن اعتراف فرنسا بالدولة الفلسطينية في سبتمبر. لكن هذا الاستعراض أقرب إلى حساب سياسوي منه إلى قناعة راسخة. الشارع الفرنسي، المنتفض منذ أشهر ضد مجازر غزة، فرض ضغطه. الرئيس حاول التوفيق بين الاستجابة لهذا الضغط وبين الحفاظ على تحالفه التاريخي مع واشنطن. التناقض صارخ: في باريس تُرفع شعارات الاعتراف، بينما على التراب الفرنسي يُعتقل متظاهرون لمجرد ارتدائهم كوفية أو حملهم علمًا فلسطينيًا.

أما الرياض، فازدواجية خطابها لا تقل وضوحًا. رسميًا، “ترحّب” المملكة باعتماد الإعلان وتعيد التأكيد على تمسّكها بحل الدولتين. لكن في الكواليس، مسار التطبيع مع إسرائيل لم يتوقف. باندفاع محمد بن سلمان، يلعب النظام السعودي لعبة توازن: خطاب لفلسطين يرضي الرأي العام العربي، مع إبقاء قنوات مفتوحة مع تل أبيب وواشنطن. هكذا يصبح “حل الدولتين” شعارًا مريحًا: مطمئن بما يكفي، وغامض بما يكفي ليتجنب الالتزامات. أما الواقع على الأرض — غزة المدمرة والضفة الممزقة بالمستوطنات — فلا يترك لهذا الشعار سوى صدى أجوف.

في هذا السياق، تجد أوروبا نفسها في الزاوية. ففي 11 أوت، عشية التصويت في الجمعية العامة، صادق البرلمان الأوروبي على قرار يدعو الدول الأعضاء إلى التفكير في الاعتراف بفلسطين. الرسالة واضحة: الإجماع الدبلوماسي الدولي يجب أن يُترجم إلى خطوات ملموسة. لكن ألمانيا، المثقلة بتاريخها وارتباطها باليمين الإسرائيلي، بقيت جامدة. إيطاليا تميل للخط الأمريكي وتكتفي بمناورات شكلية. بريطانيا تلوذ بغموض مريح. في بروكسل وباريس ومدريد ودبلن، تُرفع الشعارات، لكن في برلين وغيرها، الصمت أثقل وقعًا. عزلة واشنطن وتل أبيب كشفت سؤالًا أعمق: هل ما زالت أوروبا قادرة على التأثير في مسار الصراع الفلسطيني–الإسرائيلي، أم أنها ستبقى مجرد متفرج في مسرح تُديره التبعية الأمريكية والعنجهية الإسرائيلية؟

خريطة الطريق الأمنية: نزع سلاح حماس، عودة السلطة الفلسطينية، ومهمة دولية غامضة 

النص الذي صادقت عليه الجمعية العامة للأمم المتحدة لم يكتفِ بالتأكيد على أفق “حل الدولتين”، بل تضمن خطوات عملية يُفترض أن “تحوّل الوعد إلى مسار ملموس”. وجاء فيه بوضوح: “على حركة حماس أن تتوقف عن ممارسة سلطتها في غزة وأن تسلّم سلاحها للسلطة الفلسطينية، بدعم وتعاون من المجتمع الدولي”. الصياغة صريحة ومهيبة، لكن قابليتها للتطبيق تبقى موضع شك كبير. فالمطالبة من حركة بنت وجودها السياسي والعسكري على المقاومة المسلحة بأن تتخلى عن سلاحها تعني، ببساطة، مطالبتها بالتخلي عن جوهر هويتها.

الغاية من هذه الفقرة مزدوجة: من جهة طمأنة العواصم الغربية بأن الدولة الفلسطينية المستقبلية لن تكون تحت حكم تنظيم مصنّف “إرهابي”، ومن جهة أخرى طمأنة الرأي العام العربي بأن العملية تسير وفق منطق براغماتي يعيد السلطة الفلسطينية إلى قلب اللعبة. في المعمار الدبلوماسي للنص، يصبح حماس “مشكلة” يجب إزاحتها، ورسالة موجّهة إلى واشنطن وبروكسل بأن الاعتراف لا يمنح مجانًا، بل يمر عبر شرط أمني. وإضافة بند حول احتمال نشر مهمة دولية لحماية المدنيين في غزة كان يهدف إلى تعزيز هذا الاطمئنان. لكن خلف هذه البلاغة المحكمة، يقبع واقع هش يقوم على فرضيات غير واقعية.

إعادة وضع السلطة الفلسطينية في قلب الحل يعني تجاهل فقدانها الكبير للشرعية داخليًا. ففي الضفة الغربية، تُتهم منذ سنوات بالعجز أمام عنف المستوطنين، وبالتنسيق الأمني مع إسرائيل دون أي مكاسب مقابلة. بالنسبة لكثير من الفلسطينيين، تحوّلت السلطة إلى أداة تضبطهم بدل أن تحررهم أو تدافع عن حقوقهم. ومن ثمّ، تحميلها مسؤولية الانتقال في غزة يبدو كقفزة دبلوماسية إلى الأمام تتجاوز المعضلة الحقيقية: غياب الثقة الشعبية.

أما مطالبة حماس بالتخلي عن سلاحها، فهي تتجاهل أبسط معطيات الواقع: لماذا تتخلى الحركة عن وسيلة ضغطها الوحيدة بينما الاستيطان يتوسع، ونتنياهو يكرر رفضه القاطع للدولة الفلسطينية، والغارات الإسرائيلية لا تتوقف؟ الأسوأ أن القيادة السياسية للحركة تعرّضت مؤخرًا لقصف إسرائيلي غير قانوني في قطر، مما يعزز القناعة بأن أي تنازل يعادل استسلامًا. لذا، فإن الدعوة إلى نزع سلاح حماس أقرب إلى شرط مستحيل، وربما استفزاز مباشر.

أما الركيزة الثانية في “خريطة الطريق”، أي مهمة دولية في غزة، فتصطدم بحدود عملية ومالية واضحة. عمليات حفظ السلام الأممية تواجه أصلاً تقليصات حادة بسبب تهديد واشنطن بقطع تمويلها، وهي المساهم الأول في ميزانية المنظمة. وفي ماي الماضي، أعلنت الإدارة الأمريكية نيتها خفضًا جذريًا، وربما إلغاء جزء من مساهماتها، ما يشلّ أي قدرة على نشر قوات جديدة. يضاف إلى ذلك عراقيل إدارية، مثل القيود الأمريكية على منح التأشيرات لوفود فلسطينية، ما يعرقل حتى النقاش في أروقة الأمم المتحدة. بهذا، تصبح فكرة إرسال قوات دولية إلى غزة أقرب إلى أمنية معلّقة منها إلى مشروع قابل للتنفيذ.

وأخيرًا، فإن غياب القوى الكبرى غير الغربية عن صياغة النص يكشف هشاشة إضافية. لا الصين ولا روسيا شاركتا في صياغة الإعلان في جويلية، ومع ذلك يُفترض أن أي قوة حفظ سلام فاعلة تحتاج إلى غطائهما. العاصمتان مستعدتان للعب دور إذا كان ذلك يضعف المحور الأمريكي–الإسرائيلي، لكن استبعادهما من البداية يعكس محدودية المبادرة الفرنسية–السعودية: أُريد لها أن تبدو إجماعًا واسعًا، لكنها افتقدت الركائز القادرة على فرض احترامها على الميدان.

اعترافات متتالية جارفة أم دبلوماسية فارغة؟

لطالما حملت كلمة “اعتراف” وجهين: الشرعية القانونية التي تمنحها، والاستخدام السياسي الذي توظّفه به العواصم. أكثر من 140 دولة اعترفت بفلسطين منذ ثمانينيات القرن الماضي، لكن هذا الرقم ظلّ يُنظر إليه كعامل هامشي في موازين القوى، بسبب غياب القوى الغربية الكبرى. الموجة الأخيرة جاءت لتكسر هذا القفل. ففي 2024، افتتحت مدريد ودبلن وليوبليانا وأوسلو المسار، فاتحات ثغرة في قلب أوروبا. وفي جويلية 2025، لحقت باريس بالركب، مدعومة بحملة تواصلية ضخمة (مع التذكير بأن فرنسا، عمليًا، تتعامل مع فلسطين كدولة منذ زمن). لكن هذا “إعادة الاعتراف” الفرنسي، مثل سابقاته، لم يُحدث بعد الأثر التراكمي المأمول: إسرائيل ما تزال تحتفظ بالتفوق العسكري، الولايات المتحدة ترفض بشدّة، ولا عقوبات اقتصادية أو دبلوماسية تواكب هذه الخطوات الرمزية.

مع ذلك، لا يمكن تجاهل البعد القانوني. ففي القانون الدولي، الاعتراف بدولة يعني الاعتراف بشخصيتها القانونية الكاملة: يمكنها توقيع المعاهدات، فتح السفارات، والتمتّع بالحصانات الدبلوماسية. هكذا، تستطيع السلطة الفلسطينية الاستناد إلى وضع موسّع في مساعيها أمام المحاكم الدولية، خاصة المحكمة الجنائية الدولية حيث تُفتح ملفات جرائم حرب. هنا يتحدد جبهة موازية: تحويل الأصوات الدبلوماسية إلى أدوات قضائية لمواجهة شرعية الاستيطان والتهجير والحصار.

هذه الدينامية لا تقتصر على أوروبا. ففي أمريكا اللاتينية، من البرازيل إلى تشيلي، استُخدم الاعتراف كسلاح سياسي لإبراز الاستقلالية في مواجهة واشنطن. أما في إفريقيا، فجاء التصويت الكاسح في الأمم المتحدة انعكاسًا لاستمرارية دعم شعبي ورسمي متجذّر في إرث حركات التحرر الوطني ومناهضة الاستعمار. بعبارة أخرى، الاعتراف لم يعد بادرة أوروبية بحتة، بل صار حقيقة سائدة في الجنوب العالمي، الذي يرى في فلسطين مرآة لنضالاته الخاصة.

على الصعيد الفلسطيني، الأثر ملتبس. محمود عباس والسلطة يصفّقان لكل اعتراف جديد باعتباره نصرًا دبلوماسيًا، لكن الشارع يستقبل هذه الأخبار ببرود. كثيرون يذكّرون أن دولة فلسطين حظيت بالاعتراف منذ 1988 من أغلبية واسعة، ولم يمنع ذلك توسيع الاستيطان أو تكرار الحملات العسكرية. المنظمات المحلية تتحدث بأسف عن “دولة ورقية”، تُحتفل بها في البيانات بينما تغيب عن الواقع الميداني.

ويبقى أمام أوروبا مأزق استراتيجي. فإما أن تحوّل الاعتراف إلى أداة ضغط — عبر تعليق الاتفاقيات التجارية، تجميد التعاون العسكري مع إسرائيل، أو ربط دخولها للسوق الأوروبية بوقف الاستيطان. وإما أن تكتفي بالتصفيق والخطابات، مثبتة أن الدبلوماسية ليست سوى مسرح تُرفع فيه الأيدي في نيويورك بينما الجرافات تواصل عملها في الضفة وغزة، ويُستكمل مسلسل الإبادة بحق الفلسطينيين. هذا الخيار وحده سيحدد إن كانت موجة الاعترافات تشكّل منعطفًا حقيقيًا، أم مجرد وهم جديد يضاف إلى سجل الوعود الكاذبة التي لاحقت القضية الفلسطينية منذ عقود.

الكاتب الصحفي والمحلل السياسي نزار الجليدي
الكاتب الصحفي والمحلل السياسي نزار الجليدي
شارك المقال

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

French