نزار الجليدي يكتب: مصافحة على المسرح وعداوة خلف الكواليس: مودي وشي في عرض بإخراج بوتين
مصافحة مودي وشي في قمة شنغهاي: إخراج بوتين ورسائل تقارب تكتيكي
في قمة منظمة شنغهاي للتعاون (31 أوت – 1 سبتمبر في تيانجين)، أثارت المصافحة بين ناريندرا مودي وشي جينبينغ الانتباه برمزيتها: أول تقارب علني منذ سنوات بين الخصمين. لكن هذا “الذوبان” التكتيكي لم يكن وليد اللحظة. فالرسوم الجمركية الأمريكية المفروضة على الهند، على خلفية مشترياتها الضخمة من النفط الروسي، عجّلت بهذه الصورة المسرحية التي حوّلها فلاديمير بوتين إلى عرض قوة دبلوماسية. الهدف: التذكير بأن موسكو لا تزال صاحبة القرار في مآل حرب أوكرانيا ومعادلة العقوبات الغربية.
من تيانجين، جالت الصورة العالم: شي جينبينغ ومودي يتصافحان تحت أنظار بوتين الراضية. مشهد يوحي بمحو سبع سنوات من التوترات الحدودية بين الصين والهند. لكن خلف هذه اللقطة المحسوبة بعناية، لم يتغيّر شيء على الأرض في الهيمالايا. فالتقارب ليس مصالحة حقيقية، بل نتاج سياق جيوسياسي دفع إليه واشنطن، حين استهدفت الصادرات الهندية وانتقدت تجارتها النفطية مع موسكو، لتدفع بغير قصد عملاقَي آسيا إلى تقارب ظرفي. أما بالنسبة لروسيا، فهو مكسب: تحويل القمة إلى واجهة لـ”نظام بديل” واختبار هشاشة الغرب في مواجهة حرب أوكرانيا.
بين الهند والصين: ذوبان تكتيكي محسوب للصورة والأعمال
سبع سنوات بلا مصافحة رسمية. منذ مواجهات وادي جالوان الدامية عام 2020، ظلّت العلاقات بين الصين والهند مجمّدة عند حدود المناوشات الدبلوماسية والتوتر العسكري. في تيانجين، يومي 31 أوت و1 سبتمبر 2025، صاغ مودي وشي عرض تقارب مدروس: مصافحة طويلة، خطابات محسوبة، ووعود اقتصادية. كل التفاصيل صُممت لإظهار أن القوتين قادرتان على تجاوز خلافاتهما.
الديكور السياسي كان واضحًا. شي جينبينغ افتتح قائلاً: “علينا أن نواجه الهيمنة ونمارس التعددية الحقيقية”، قبل أن يهاجم “الدول المتنمّرة”. الرسالة وُجّهت مباشرة إلى واشنطن، لكنها أيضًا أهدت لمودي صورة “الشريك المحترم” بدل الخصم اللدود. بدوره، ردّ رئيس الوزراء الهندي متحدثًا عن علاقة “تطورت بشكل ملموس”، مشددًا على أن “السلام والهدوء على الحدود” شرط لأي تقدم. ولإعطاء ثقله للرسالة، لخّص رؤيته في ثلاث كلمات: “أمن، ترابط، فرص”.
وعلى المستوى الاقتصادي، خرجت القمة بنتائج ملموسة. بكين دفعت نحو تعزيز “بنك تنمية” تابع للمنظمة وتسوية التبادلات التجارية باليوان، خطوة إضافية نحو “نظام مالي بديل”. مسؤولون صينيون لمحوا إلى اهتمام متجدد بمشاريع صناعية مشتركة مع الهند، خصوصًا في السيارات والإلكترونيات، في ظل أسواق عالمية تزداد تجزؤًا. الأمين العام للمنظمة أكد إنشاء مراكز أمنية جديدة واعتماد “استراتيجية 2035″، ما عزز صورة تكتل منظم.
لكن هذه الأجواء لا تحجب الواقع. لم يُحل أي نزاع حدودي؛ الدوريات ما زالت تتقابل في لداخ، والشكوك متواصلة. لقاء تيانجين أقرب إلى “كوريوغرافيا” سياسية منه إلى مصالحة حقيقية. الهند، التي تبحث عن متنفس أمام الضغوط الأمريكية، نالت صورة علاقة هادئة مع الصين، من دون أن تتنازل عن مواقفها. أما بكين، فكسرت عزلة مزعومة وأثبتت أنها قادرة على الحوار مع نيودلهي رغم التنافس البنيوي.
في هذا المسرح الدبلوماسي، لكل طرف دور. شي يريد إظهار منظمة شنغهاي كواجهة لـ”نظام عالمي جديد”، مودي يسعى للظهور براغماتيًا أمام شركائه الآسيويين، وكلاهما التقيا في مشهد هدفه ليس دفن النزاع، بل وضعه تحت السيطرة. ذوبان تيانجين لم يكن مصالحة؛ بل هدنة تكتيكية، صُممت للكاميرات ولصفقات الأعمال.
ارتداد الرسوم الجمركية الأمريكية وقضية النفط الروسي
تقارب تيانجين ما كان ليحدث لولا الضغط الأمريكي. ففي 27 أوت، قررت واشنطن فرض رسوم جمركية قد تصل إلى 50٪ على جزء كبير من الصادرات الهندية، مهددة ما يقارب 37 مليار دولار من المبادلات السنوية. إدارة ترامب بررت القرار برفض نيودلهي تقليص مشترياتها الضخمة من النفط الروسي. الرسالة كانت واضحة: إمّا التعاون في ملف الطاقة… أو دفع الثمن.
لكن النتيجة جاءت معاكسة. الهند تمسكت بخطها، واليوم حوالي 40٪ من استهلاكها النفطي مصدره روسيا. هذه الإمدادات ليست ظرفية، بل قائمة على عقود متينة، مثل تلك التي تربط “روس نفط” بالعملاق الهندي “ريلاينس”. بالنسبة لناريندرا مودي، التراجع في هذا الملف يعني التضحية بأمن الطاقة لبلد يضم 1,4 مليار نسمة.
المناورة الأمريكية خلقت أثرًا سياسيًا فوريًا: عززت رغبة نيودلهي في إظهار استقلالها الاستراتيجي. وزارة الخزانة الأمريكية اتهمت الهند بأنها “تغذي آلة الحرب الروسية”، لكن بدلاً من الانحناء، كثّفت نيودلهي إشارات التحدي. حتى في الكونغرس، انتقد بعض النواب سياسة البيت الأبيض. النائب الديمقراطي رو خانا قالها صراحة: “هذه الرسوم تدفع الهند بين أحضان الصين وروسيا”، محذرًا من خسارة شريك رئيسي لصالح المعسكر الآخر.
بالنسبة لمودي، الفرصة مزدوجة. داخليًا، يقدم نفسه كمدافع عن السيادة الطاقوية وحق الهند في الشراء بأفضل الأسعار. خارجيًا، يفتح لنفسه هامش مناورة: مواجهة واشنطن، إعادة فتح قنوات مع بكين، والجلوس في تيانجين بجانب فلاديمير بوتين من دون أن يبدو معزولًا. الرمزية قوية: الهند لم تُضعفها العقوبات، بل استخدمتها لرفع قيمتها في اللعبة الدولية.
الاستراتيجية واضحة: الصمود في ملف النفط الروسي، قبول هدنة تكتيكية مع بكين، والإبقاء على قنوات حوار مع واشنطن. الهند تعرض نفسها كقوة واقعية متوازنة، قادرة على التعامل مع جميع الأقطاب من دون الارتهان لأي منها. عمليًا، هذه المعادلة هشة، لكنها تكفي لتحويل عقوبة أمريكية إلى فرصة دبلوماسية.
الكوريوغرافيا الروسية: ورقة ضغط على أوكرانيا و وسيلة لرفع العقوبات
بالنسبة لفلاديمير بوتين، لم تكن قمة تيانجين مجرد اجتماع إقليمي، بل مسرحية محسوبة بدقة. الصورة التي جمعته بشي جينبينغ وناريندرا مودي، تحت راية منظمة شنغهاي للتعاون، كفت لإعطاء انطباع بوجود كتلة غير غربية متماسكة. في خطابه، أكد الرئيس الروسي أن “هذا يضع الأسس السياسية والاجتماعية–الاقتصادية لنظام جديد من الاستقرار والأمن في أوراسيا”، مضيفًا أن المنظمة تجسد “التعددية الحقيقية” وأن تعزيز استخدام العملات الوطنية يجب أن يحل محل التبعية للدولار الأمريكي.
روسيا استغلت هذا الإخراج لتبعث رسالة مباشرة إلى الغرب: روسيا ليست معزولة. فبينما تتراكم العقوبات وتطول الحرب في أوكرانيا، يحوّل بوتين منظمة شنغهاي إلى مضخم دبلوماسي لصوته. اعتماد “إعلان تيانجين” وإطلاق مشروع بنك للتنمية الإقليمية يصبّان في هذا الاتجاه. بكين بدورها دعمت الرؤية، متحدثة عن تسويات مالية باليوان ومروّجة لفكرة أدوات نقدية بديلة. خبراء الاقتصاد بدأوا يتحدثون عن “إلكترو-يوان” قد ينافس مستقبلاً نظام الدولار المهيمن.
في هذا السياق، جاء التقارب الصيني–الهندي كمضاعف للأثر. فمصافحة مودي وشي جينبينغ منحت بوتين صورة المحور في نظام متعدد الأقطاب، حيث روسيا ليست منبوذة بل مطلوبة كشريك. الكرملين يختبر بهذه الرسالة صلابة الغرب، مؤكدًا أن بدائل موجودة لكل من يرفض إملاءات العقوبات.
في واشنطن، بدت الردود الرسمية متواضعة. ترامب قال إنه غير “مهموم بمحور صيني–روسي”، مضيفًا — بارتباك — أن “التفوق العسكري الأمريكي” كافٍ لطمأنة الحلفاء. لكن خلف هذا اللامبالاة المعلنة، الواقع أقل راحة: فالهند، التي كانت ركيزة الشراكة الهندية–الأمريكية، أظهرت استعدادًا للتجاوب مع صيغ تعزز مواقف بكين وموسكو. العواصم الأوروبية، المثقلة أصلًا بتداعيات حرب أوكرانيا وضغط الرأي العام المنهك من التضخم الإقتصادي، رأت في صورة تيانجين إشارة مقلقة.
فالملف الأوكراني هو الميدان الحاسم. بوتين يعلم أن الاقتصاد الروسي يصمد أمام العقوبات، مدعومًا بالصادرات الطاقوية نحو آسيا واستعداد مسبق للاكتفاء الذاتي. وبظهور شي ومودي إلى جانبه، يستطيع الادعاء بأنه لاعب لا غنى عنه في صياغة النظام الدولي المقبل. الهدف واضح: إقناع ترامب، ومن خلاله الأوروبيين، بأن التعامل مع موسكو أمر محتوم، وبأن عليهم القبول بشروطها الدنيا والتفكير في تخفيف نظام العقوبات.
في تيانجين، لم تختر الهند الصين؛ اختارت التذكير بأنها ليست أسيرة أي معسكر، وأن استقلاليتها لها ثمن. لكن روسيا، عبر إخراجها للمشهد، كانت الرابح الأكبر: حوّلت صورة جماعية إلى أداة ضغط على الغرب.