المطلوبون للاحتلال في فلسطين: عمليات اعتقال وملاحقة مستمرة - صوت الضفتين

المطلوبون للاحتلال في فلسطين: عمليات اعتقال وملاحقة مستمرة

بقلم:وصال أبو عليا

 

في زمن انتفاضة الأقصى مطلع الألفية الثانية، كانت كلمة “مطلوب” تحمل معنى يتجاوز الفرد المطارد؛ كانت تعني أن العائلة بأكملها، والجيران، والقرية، بل أحياناً المدينة، باتوا في مواجهة مباشرة مع آلة الاحتلال العسكرية، المطلوب لم يكن شخصاً يهرب من الاعتقال فقط، بل هو مشروع مقاومة محاصر، ورمز لصراعٍ غير متكافئ بين إرادة البقاء ووسائل القمع الحديثة.

لورنس مسحل… حكاية مطاردة من الجبال إلى السجن

الأسير المحرر لورنس مسحل من قرية دير غسانة بمحافظة رام الله والبيرة، يختصر معاناة جيل كامل من المطلوبين للاحتلال، ما يقارب العامين أمضاها مطلوباً مع أشقائه لؤي وعوض وسليمان، متنقلاً بين الكهوف والجبال، وأحياناً بين منازل لم يعرف أصحابها إلا لحظة الطَرق على أبوابهم، يقول: “كنا معرضين للاعتقال أو التصفية في كل لحظة، ووسط البرد القارس والجوع والخوف، لم نتوقف عن الشعور بأننا نحمل قضية شعبنا.”

لم تكن هذه حياة سرية عابرة، بل نمط يومي من النجاة، ففي إحدى المرات، فرض الاحتلال حصاراً شاملاً على منطقة بني زيد استمر عشرة أيام، يصف لورنس: “كنا ستة شبان نركض بين الجبال بينما تطاردنا الطائرات، وفي الأثناء سقط حجر ضخم على قدمي وكاد صاروخ الأباتشي أن يصيبني، لكننا جميعاً خرجنا أحياء.”

لاحقاً، اجتاحت قوات الاحتلال بلدة بيت ريما، وأعدمت خمسة من أبناء الأجهزة الأمنية. كان بيت عائلة مسحل أول بيت يُقتحم، وهناك اعتُقل عوض وسليمان، فيما ظل لؤي مطارداً حتى اغتيل مع ابن عمه عايد غيث في كمين خاص خلال شهر رمضان.

بالنسبة للورنس، لم يكن الاعتقال نهاية المطاردة بقدر ما كان استجابة لنداء أم، يروي: “كنت مطارداً حين استشهد أخي، وبعد أشهر اختبأت في خزان مياه ببيتنا، أمي طلبت مني أن أسلّم نفسي حتى لا ألقى مصير لؤي”، وقد اعتُقل لورنس مسحل وحُكم عليه بست سنوات، قضى منها أربعاً قبل أن يُفرج عنه في صفقة، لكن السجن كان مجرد فصل جديد من معركة طويلة.

البيت يتحول إلى ساحة حرب

لم يكن البيت الفلسطيني مجرد ملجأ، بل صار خط تماس، عائلة مسحل وحدها تعرضت لثمانية وخمسين اقتحاماً، وتحول بيتها أحياناً إلى ثكنة عسكرية، الأب والأم عاشا تحت تهديد دائم، فيما تحولت العائلة إلى هدفٍ متكرر لإجراءات عقابية لا علاقة لها بالمطاردة المباشرة.

الضغط لم يكن عسكرياً فقط، بل إنسانياً، فقد اضطر لورنس إلى إنهاء خطبته بفتاة من سلفيت بعد تهديدات الاحتلال بإبعادها إلى الأردن وتصفيته شخصياً،  وفقا لعائلته التي أكدت أن استهداف المطلوبين يصل إلى تفاصيل الحياة الشخصية، لتغدو أداة تمزيق للنسيج الاجتماعي.

أدوات قديمة بلغة جديدة

رئيس الهيئة العليا لمتابعة شؤون الأسرى والمحررين أمين شومان يؤكد أن هذه السياسات بالضغط على المطلوبين لم تتغير كثيراً، وإن تغيّر شكلها: “الاحتلال كان وما زال يستخدم اعتقال الأبناء أو الزوجات للضغط عليهم ، وما حدث مؤخراً مع رئيس مجلس قروي المغير أمين أبو عليا حين اعتُقل ابنه وطُلب منه تسليم نفسه مقابل الإفراج عنه، يوضح استمرارية هذه السياسة.”

ويضيف شومان أن ما بعد السابع من أكتوبر 2023 حمل تصعيداً أعنف: فالهدم صار سياسة فورية، وإطلاق النار على المطلوبين يحدث حتى عند استسلامهم.

أثر الظاهرة على المجتمع

إن وجود مطلوب في أي عائلة لم يكن شأناً فردياً، هذا ما أكده أحد أبناء عائلة الريماوي الذي يصف التجربة- نظرا لوجود مطلوبين في عائلته سابقا- بقوله: “وجود مطلوب يعني أن البيت معرض للهدم أو التفجير، والأقارب عرضة للاعتقال، والقرية بأكملها مهددة بالإغلاق، لذلك كثير من المطلوبين سلّموا أنفسهم خوفاً على أهلهم وإنقاذاً لعائلاتهم من السجن والحرمان.”

ويضيف الريماوي أن هذا الثمن لم يُلغِ التضامن الشعبي، فكثير من العائلات فتحت أبوابها للمطلوبين وقدمت المأوى والطعام رغم الخطر، وبهذا المعنى، تحولت سياسة ملاحقة المطلوبين إلى اختبار للمجتمع، حيث كشف أن الاحتلال لا يطارد فرداً، بل يواجه بنية اجتماعية كاملة تحمي أبناءها.

بين الأمس واليوم

الفرق بين الماضي والحاضر يكمن في التكنولوجيا، ففي الانتفاضتين الأولى والثانية، كان بعض المطلوبين يعيشون متخفين لسنوات طويلة، وصلت أحياناً إلى خمسة عشر عاماً، بفضل غياب الرقابة الإلكترونية والهواتف الذكية، لكن كما يوضح شومان:”اليوم، بفضل التطور التكنولوجي، يُعتقل المطلوبون خلال أيام، ولم تعد ظاهرة المطاردة الطويلة موجودة تقريباً.”

ويضيف أن هذا التحول جعل حياة المطلوبين اليوم أقصر زمنياً، لكنها أشد خطورة، حيث يميل الاحتلال إلى التصفية المباشرة بدلاً من الاعتقال الطويل.

الأباتشي… آلة الموت من السماء

منذ بداية الانتفاضة عام 2000، أصبحت طائرات الأباتشي عنواناً للرعب، فكان أول المستهدفين حسين عبيات في بيت لحم، ثم توالت الاغتيالات في نابلس وجنين وطولكرم، حتى المقرات لم تسلم، إذ استُهدف مكتب إقليم حركة فتح في رام الله بصاروخ أباتشي أدى إلى استشهاد الشاب مهند أبو حلاوة بعد لحظات من مغادرته المكتب، فالأباتشي لم تكن مجرد سلاح، بل رمز لمرحلة كاملة من المطاردة والاغتيال.

القانون الدولي… الغائب الحاضر

من زاوية حقوقية، يوضح كريم جبران مدير البحث الميداني في مؤسسة “بتسيلم”، أن الاحتلال يرتكب انتهاكات فاضحة للقانون الدولي: “الاعتقال الجماعي، هدم البيوت، ومنع التصاريح كلها عقوبات جماعية محرمة دولياً، لكنها باتت سياسة ممنهجة ضد الفلسطينيين.”

القانون هنا حاضر كشاهد على الانتهاك، لكنه غائب كأداة حماية، ما يعكس التناقض الدائم بين النصوص الدولية والواقع على الأرض.

صمود يواجه جيلاً بعد جيل

من لورنس مسحل وإخوته، إلى عايد غيث وحسين عبيات ومهند أبو حلاوة، مروراً بعائلات مثل الريماوي وأبو عليا، يتضح أن الاحتلال لم يطارد أفراداً فقط، بل واجه مجتمعاً كاملاً.

وبينما تغيرت الأدوات وتبدلت أشكال المطاردة، ظل الجوهر ثابتاً: مجتمع يُدفع إلى حافة الانكسار، لكنه يرفض السقوط، وفي زمن الأباتشي، كما اليوم، يظل الصمود الفلسطيني شاهداً على أن المطاردة قد تقتل الأفراد لكنها لا تستطيع أن تكسر إرادة المجتمع.

شارك المقال

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

French