حول أفول معادلة فيشر ومفهوم جديد لسرعة تداول النقود - صوت الضفتين

حول أفول معادلة فيشر ومفهوم جديد لسرعة تداول النقود

 

 

بقلم: جمال بن جميع

هناك معادلاتٌ تتلألأ بصفاء الأمثلة المدرسية، كقطع زجاج مصقولة بالذكاء مرسومة على الورق، لكنها تتلاشى ما إن تواجه قسوة الواقع. ومعادلة فيشر، MV = PY، من هذا القبيل. صاغها في كتيب عام 1911 بعنوان قوة الشراء للنقود، وقد قيل إنها المفتاح الكوني: اضرب الكتلة النقدية (M) في سرعتها (V)، فتُستخرج الهوية الكاملة بين الأسعار (P) والإنتاج (Y). جمالٌ جبريّ، ووعدٌ بالصرامة.

غير أنّ عام 1933 أثبت خطأ صاحبها. فمع الكساد العظيم لم يعد فيشر قادراً على إنكار مثالب صنيعه. وفي مقالته الشهيرة نظرية الانكماش بالديون في الكساد العظيم، وصف الآلية الجهنمية التي فككت معادلته: هبوط الأسعار أثقل كاهل الديون، فتولدت الإفلاسات، فانطلقت الهلع البنكي، ودخلت الاقتصادات دوامة انكماش متسارعة. ثم جاء فريدمان وشوارتز ليسجلا في كتاب تاريخ نقدي للولايات المتحدة انهياراً بأكثر من 30% في سرعة التداول بين 1929 و1933.

هكذا تحولت الصيغة، التي بدت بديعة في بساطتها النظرية، إلى محرّك متوقف، صاروخٍ نظري عاجز عن اختراق غلاف الأزمات.

وهم الخطية المتخيَّلة

كان سر قوة معادلة فيشر في بساطتها، لكن تلك البساطة نفسها أخفت هشاشتها. افترض فيشر أنّ السرعة ثابتة، مطيعة، محكومة بآلية ميكانيكية. والحقيقة أنّ السرعة هدف متحرك: إنها رهينة الثقة والخوف، وبنية البنوك، والسلوك الجمعي، وذلك السحر النفسي الذي لا يُختزل في أرقام.

تؤكد النماذج الاقتصادية الحديثة (VAR، PVAR) هذه الهشاشة: حين تنفجر الأزمات، تُختنق الدوائر، تمتص الميزانيات السيولة، يحتفظ الأفراد بأموالهم، تؤجل الشركات استثماراتها، وتُحجم البنوك عن الإقراض. فتتباطأ التدفقات النقدية، ثم تركد، وأخيراً تتجمد. حينها لا يعود لتوسيع الكتلة النقدية أثرٌ متناسب: الجبر الجميل ينهار تحت ثقل الواقع.

1929: دمٌ متجلّط

كان الكساد الكبير أول غرق لهوية فيشر. لم تكن النقود تدور بقدر ما تجمّدت، كدم يتخثّر. بين 1929 و1933 انهارت السرعة بـ 30%. لم تنهَر كل البنوك، لكن كل معاملة أصابها شلل الخوف. اضطر فيشر إلى مواجهة الحقيقة المرة: معادلته الجميلة فقدت قوتها التنبؤية.

انكمش الاقتصاد على نفسه، وتباطأ نبض النقود، كأنفاس محبوسة. وصارت معادلة MV = PY، التي قُصد بها أن تكون بوصلة، مجرّد مقياسٍ أبكم.

اليابان في التسعينيات: الصاروخ المثبّت إلى الأرض

بعد ستين عاماً، قدّمت اليابان درساً مماثلاً. انهارت الأسعار عقب فقاعة العقارات والبورصة، وغرقت البنوك في جبال الديون المعدومة، وجمّدت الشركات استثماراتها. فتح بنك اليابان الصمامات، خفّض الفوائد إلى الصفر، وأغرق الاقتصاد بالسيولة. حسب فيشر، كان هذا كفيلاً بإحياء النمو.

لكن شيئاً لم يحدث. الوقود حاضر، غير أنّ الصاروخ بقي مثبّتاً إلى الأرض. ادّخر الأفراد، ترددت البنوك، وانشغلت الشركات بترميم ميزانياتها. انهارت السرعة، وتبخرت الثقة. وما بدا وقفة قصيرة تحوّل إلى مطهر طويل. تراكمت النقود كجدول راكد، عاجزة عن إنعاش النمو: لم تعد سوى وقودٍ خامد.

2008: نقود بلا محيط

أكدت الأزمة العالمية 2008 النسق نفسه. ضخت الاحتياطي الفدرالي أكثر من أربعة تريليونات دولار عبر سياساتها “غير التقليدية”. غير أنّ السرعة، بدل أن ترتفع، هبطت 17% بين 2007 و2014.

وقد لخّصت فايننشال تايمز المشهد عام 2014 بعبارة بليغة: “خلق النقود بدا كنهرٍ لم يعد يصل إلى البحر”. تضخمت ميزانيات البنوك وانتفخت الأسواق المالية، لكن السيولة لم تبلغ البيوت. كما في اليابان، كان الصاروخ مشحوناً بالوقود، لكنه أسير جاذبيةٍ نفسية خانقة.

الثابت التاريخي للهشاشة

تُردد الوقائع – 1929، اليابان التسعينيات، أزمة 2008 – لازمة واحدة: السرعة ليست ثابتاً، بل ميزان حرارة اجتماعي. ترتفع مع الثقة، تتسارع بالأمل، وتتجمد بالخوف. وقد بيّن أندرسون وبوردو ودوكا في دراسة للبنك المركزي الأوروبي عام 2023 أنّ السرعة أصبحت “مُضعفة بنيوياً” بعد كل أزمة، تحت وطأة التحولات البنكية والتنظيمية.

نحو معادلة عضوية

لنتجاوز عتمة فيشر، لا بد من الاعتراف بحقيقة مركزية: النقود لا تسير وفق ميكانيكا خطية. مسارها غامض – لوغاريتمي، أسيّ، مرتهن للتوقعات. ومن هنا أقترح الصيغة التالية:

V(t)=Vc . ln(M0/Mr)⋅e−λA(t)

M0: الكتلة النقدية المحقونة

Mr: النقود المحتجزة غير المنتجة

A(t): التوقعات السلبية (انعدام الثقة، الضبابية)

Vc: ثابت الثقة

الإشارة السالبة أمام -λA(t) تجسد الأثر الكابح للتوقعات السلبية على السرعة:

إذا ارتفعت A(t)، انكمشت السرعة.

وإذا تراجعت أو انعدمت، بلغت السرعة أقصى طاقتها.

إنها صورة الاضمحلال الأسي في الفيزياء: إشارة سالبة تجسد قوة جاذبة خفية تكبح الحركة. هكذا تغدو النقود صاروخاً يتوقف اندفاعه على الثقة، ويتثاقل بالجمود، وتعرقل مساره كثافة الغلاف النفسي.

استعارة الصاروخ

استوحت هذه الصورة من فيلم Hidden Figures، ومن قصة كاثرين جونسون، العالمة السوداء التي رسمت في أميركا العنصرية مسارات القطع المكافئ والمدارات البيضوية بصرامة إقليدية. لقّبت بـ “الحاسوب البشري” لدقة حساباتها.

ومع ذلك، بقي الصاروخ أحياناً عاجزاً عن الانطلاق، مكبلاً بالجاذبية رغم المعادلات والوقود. وكذلك النقود المعاصرة: تُغذى بالمليارات، لكنها عند الأزمات تبقى مثبتة على منصتها. 1929، 1990، 2008: إطلاقاتٌ مجهضة، وصواريخ عاجزة عن اختراق غلاف الريبة.

ومع تسيولكوفسكي، أب علم الفضاء، تزداد المقارنة وضوحاً: كما يتوقف دفع الصاروخ على نسبة كتلته الابتدائية إلى النهائية، تتوقف سرعة النقود على نسبة المحقون إلى المحتجز. وكما تُثقل الجاذبية الصعود، تخنق الريبة والتوقعات السلبية التداول.

سكنى المعادلة

من فيشر إلى فريدمان، ومن اليابان إلى أزمة 2008، تتقاطع البراهين: MV = PY باتت متقادمة زمن الأزمات. فالسرعة ليست ثابتاً؛ إنها نَفَس، تنفس هش.

معادلتي الديناميكية تقدم نحو آخر: اقتصادٌ يُرى كصاروخ اجتماعي. يُشحن بالوقود، لكنه لا يحلّق إلا إذا منحه الأمل دفعته ولم تخنقه الأثقال.

لقد أبانت الأزمات عن ذلك: 1929 جمّدت السرعة؛ اليابان كشفت ثقل الاكتناز؛ 2008 عرّت عقْم السيولة. لكن التاريخ يعلّم العكس أيضاً: ألمانيا الفايمارية 1923، المجر 1946، فنزويلا اليوم. هناك لم يتوقف الصاروخ؛ بل انفجر باندفاع لا يمكن كبحه.

ركود أو تضخم جامح، الدرس واحد: النقود ليست آلية بل مسار متحرك، ليست هوية ثابتة بل صيرورة حيّة.

وقد لقّنتني تردّدات أستاذي يوماً أمام معادلة فيشر هذه الحقيقة: الاقتصاد ليس رقماً، بل نفس متمرد، ولن يحتويه رقم أبداً.

شارك المقال

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

French