تهميش الدور الأوروبي في حرب أوكرانيا: من الاجتياح إلى ما بعد قمة ترامب-بوتين

بقلم: محمد أمين الجربي
منذ اللحظات الأولى للغزو الروسي الشامل لأوكرانيا في فبراير 2022، سارعت العديد من الأصوات في القارة الأوروبية إلى تصوير نفسها كلاعب محوري وحاسم في مواجهة هذا العدوان غير المبرر. لقد برزت أوروبا، ظاهريًا، كقوة جيوسياسية موحدة، عازمة على الدفاع عن قيمها ومصالحها. لكن سرعان ما تكشفت الحقائق على أرض الواقع، لتظهر دورًا أوروبيًا مهمشًا، بل ومُقادًا، لا سيما في ظل التطورات الأخيرة التي شهدتها الساحة الدولية. فبينما تسعى القارة العجوز جاهدة لإثبات وجودها وتأثيرها على مسرح الأحداث، يبدو أن مصير الصراع الأوكراني يُحسم بعيدًا عن طاولات النقاش الأوروبية، وفي أروقة القوى العظمى الحقيقية، الولايات المتحدة وروسيا، التي تمتلك وحدها مفاتيح الحل والعقد، وتُحدد مسار الحرب ونتائجها.
قمة ألاسكا: تأكيد صارخ على تهميش أوروبا ومصالح القوى الكبرى
لقد كانت القمة الأخيرة التي جمعت الرئيس الأمريكي دونالد ترامب والرئيس الروسي فلاديمير بوتين في ألاسكا بمثابة نقطة تحول حاسمة، لم تكن مجرد لقاء دبلوماسي عابر، بل كانت إعلانًا صريحًا ومُدويًا عن تهميش الدور الأوروبي في الأزمة الأوكرانية. ففي غياب أي تمثيل أوروبي رفيع المستوى، أو حتى استشارة مسبقة، ناقش الزعيمان مصير أوكرانيا ومستقبل الصراع، ورسما ملامح تسوية محتملة، مما يؤكد بما لا يدع مجالًا للشك أن القوى الكبرى ترى في أوروبا مجرد تابع، لا شريكًا فاعلاً أو ذا وزن في رسم السياسات الدولية الكبرى. وقد صرح ترامب بعد القمة، بوضوح لا لبس فيه، بأن أوكرانيا لن تكون عضوًا في حلف الناتو، وهو تصريح ينسف عقودًا من الطموحات الأوكرانية بالانضمام إلى الحلف الغربي، ويقوض آمال العديد من الدول الأوروبية في توسيع نفوذ الناتو شرقًا. هذا التصريح، الذي جاء من شخصية بحجم ترامب، يؤكد أن القرار النهائي بشأن مستقبل أوكرانيا الأمني بيد واشنطن وموسكو، وليس بروكسل أو كييف.
إن الصراع في أوكرانيا، وإن بدا في ظاهره صراعًا على السيادة والحدود، أو دفاعًا عن الديمقراطية والقيم الغربية، إلا أنه يخفي وراءه دوافع اقتصادية وجيوسياسية عميقة للقوى الكبرى، تتجاوز بكثير الشعارات المعلنة. فالولايات المتحدة، التي قدمت دعمًا عسكريًا وماليًا هائلاً لأوكرانيا، تجاوز عشرات المليارات من الدولارات، لا تخفي رغبتها الملحة في الوصول إلى الثروات المعدنية الهائلة التي تزخر بها الأراضي الأوكرانية، خاصة المعادن النادرة والاستراتيجية. هذه المعادن، مثل الليثيوم والتيتانيوم واليورانيوم، التي تعتبر حيوية للصناعات التكنولوجية المتقدمة والدفاعية الحديثة، تمثل كنزًا استراتيجيًا تسعى واشنطن لتأمينه لتعويض جزء من استثماراتها الضخمة في الحرب، ولضمان تفوقها التكنولوجي في المستقبل. أما روسيا، فدوافعها أكثر وضوحًا وواقعية، وتتمثل في السيطرة على المناطق ذات الأغلبية الروسية في شرق وجنوب أوكرانيا، مثل دونيتسك ولوهانسك وزاباروجيا وخيرسون، والتي تعتبرها جزءًا لا يتجزأ من مجالها الحيوي التاريخي والثقافي والأمني، وتسعى لإنشاء منطقة عازلة تضمن أمنها القومي. هذه المناطق، بالإضافة إلى قيمتها الجيوسياسية، تحتوي على موارد طبيعية وصناعية مهمة تزيد من قيمتها الاستراتيجية لموسكو.
مراحل الحرب: من الاجتياح السريع إلى الاستنزاف البطيء وتغير موازين القوى
مرت الحرب في أوكرانيا بمراحل متعددة، بدأت بالاجتياح الروسي الشامل في فبراير 2022، والذي كان يهدف إلى حسم الصراع بسرعة خاطفة والسيطرة على كييف وإسقاط الحكومة الأوكرانية في غضون أيام. بدأ الهجوم الروسي على عدة محاور رئيسية شملت العاصمة كييف من الشمال، ومناطق دونيتسك ولوهانسك من الشرق، ومحافظتي زابروجيا وخيرسون من الجنوب، مع التركيز على السيطرة على مناطق استراتيجية تمنحها موقعًا جيوستراتيجيًا مهمًا وتؤمن لها ممرات برية حيوية. إلا أن المقاومة الأوكرانية، التي حظيت بدعم غربي مبدئي، أحبطت هذا المخطط الأولي، وحولت الحرب من عملية خاطفة إلى صراع استنزاف طويل الأمد.
تلت ذلك معارك ضارية وعنيفة، أبرزها معركة ماريوبول، التي تحولت إلى رمز للصمود الأوكراني الأسطوري، وانتهت بسقوط المدينة بعد حصار مدمر استمر لأكثر من 80 يومًا، حيث تعرضت المدينة لتدمير شبه كامل مع مقاومة أوكرانية بطولية في مصنع آزوفستال العملاق، الذي يطل على بحر آزوف. بعد ذلك، شهد الصراع تدخلًا أمريكيًا وأوروبيًا مكثفًا، تمثل في إمداد أوكرانيا بالأسلحة المتقدمة والمساعدات المالية الضخمة، وفرض عقوبات قاسية وغير مسبوقة على روسيا. ومع مرور الوقت، بدأت تظهر أزمة الذخائر لدى الجانب الأوكراني، خاصة ذخائر المدفعية، مما أثر بشكل كبير على قدرته على شن هجمات مضادة واسعة النطاق والحفاظ على زخم العمليات العسكرية. ورغم ذلك، استمر التقدم الروسي، وإن كان ببطء شديد، مع حسم بعض المعارك القوية والاستراتيجية لصالح القوات الروسية، مثل السيطرة على باخموت وأفدييفكا، مما يؤكد قدرة روسيا على تحقيق أهدافها العسكرية حتى في ظل المقاومة الشرسة والدعم الغربي.
انقسام السياسات الخارجية الأوروبية والدعم العسكري المحدود
رغم المحاولات الأوروبية الحثيثة لتوحيد الموقف وتشكيل جبهة موحدة ضد روسيا، ظهرت فجوات واضحة وانقسامات عميقة في السياسات الخارجية للدول الأعضاء. دول البلطيق (إستونيا، لاتفيا، ليتوانيا) وبولندا تبنت مواقف متشددة للغاية ضد روسيا، داعمة تسليم الأسلحة الثقيلة والمتطورة لأوكرانيا، ومطالبة بفرض أقصى العقوبات على موسكو. بينما ألمانيا وفرنسا وإيطاليا، وهي القوى الاقتصادية الكبرى في الاتحاد الأوروبي، تحفظت أكثر بخصوص دعم الأسلحة الثقيلة في بداية الحرب، مخافة تصعيد الأزمة الاقتصادية وتأثيرها على إمدادات الطاقة. المجر ودول شرق أوروبا الأخرى أبدت تحفظات واضحة، ونجحت في تلطيف السياسة الأوروبية تجاه روسيا، مع التركيز على مصالحها الوطنية في مجال الطاقة والاقتصاد.
الدعم العسكري الغربي: بين الكم والنوع
رغم ضخامة الدعم العسكري الذي تلقته أوكرانيا من الدول الغربية، إلا أن تأثيره على موازين الحرب ظل محدودًا نسبيًا. فقد حصلت كييف على مجموعة من الأسلحة المتقدمة، أبرزها:
– دبابات Leopard 2 الألمانية: تُعد من أقوى الدبابات القتالية في العالم، وتتميز بقدرتها العالية على المناورة والتصويب الدقيق، وقد تم تسليمها لأوكرانيا لتعزيز قدرتها على تنفيذ هجمات مضادة في الجبهات الشرقية والجنوبية.
– صواريخ Storm Shadow البريطانية: صواريخ جو-أرض بعيدة المدى، قادرة على ضرب أهداف استراتيجية خلف خطوط العدو، وقد استخدمتها القوات الأوكرانية لاستهداف مراكز القيادة ومستودعات الذخيرة الروسية.
– بالإضافة إلى أنظمة دفاع جوي متطورة مثل باتريوت الأمريكية، ومدافع هاوتزر ذاتية الحركة، وقذائف مدفعية موجهة بدقة.
ورغم هذا التنوع في العتاد، فإن التفوق العددي الروسي، إلى جانب تكتيكاته المضادة، حال دون تحقيق اختراقات استراتيجية حاسمة. فالمعارك الكبرى مثل باخموت وزاباروجيا وخيرسون بقيت تحت السيطرة الروسية أو شهدت تغيرات محدودة، مما يعكس محدودية تأثير الأسلحة الغربية في ظل تعقيدات الميدان.
الاستراتيجية الروسية الحالية وتأثير العقوبات: صمود اقتصادي غير متوقع
الاستراتيجية الروسية اليوم تتركز على السيطرة الكاملة على دونيتسك ولوهانسك، الجناح الشرقي لدونباس، الذي يمثل قلب المنطقة الصناعية والاقتصادية لأوكرانيا. كما تسعى لتأمين محافظتي زابروجيا وخيرسون على الساحل الجنوبي المطل على البحر الأسود، وربط هذه المناطق بقاعدة القرم، مما يؤمن لها ممرًا بريًا حيويًا ويسيطر على السواحل الأوكرانية على بحر آزوف والبحر الأسود. بالإضافة إلى ذلك، تهدف روسيا إلى إزالة سلاح أوكرانيا بشكل شبه كامل من خلال تدمير قدراتها العسكرية المتطورة، ومنع استلام أسلحة غربية حاسمة، وتحويل أوكرانيا إلى دولة ضعيفة عسكريًا وغير قادرة على تهديد أمنها القومي. روسيا تحاول اختصار الحرب عبر سياسة فصل أوكرانيا عن دعم التسليح، لكن روسيا تعول على استنزاف أوكرانيا اقتصاديًا وعسكريًا لجعلها دولة بلا قدرة دفاعية حقيقية، وبالتالي إجبارها على القبول بشروط موسكو.
لقد فرضت الدول الغربية، بقيادة الولايات المتحدة وأوروبا، عقوبات اقتصادية غير مسبوقة على روسيا، شملت تجميد الأصول، وحظر التعاملات المصرفية، وتقييد صادرات التكنولوجيا، بهدف شل اقتصادها وإجبارها على التراجع عن أوكرانيا. ورغم قسوة هذه العقوبات وحجمها غير المسبوق، إلا أنها لم تؤثر بشكل كبير على الاقتصاد الروسي كما كان متوقعًا من قبل الدول الغربية. فبفضل إدارة مالية حكيمة من البنك المركزي الروسي، وارتفاع أسعار النفط والغاز في الأسواق العالمية، وتمكن روسيا من إيجاد أسواق بديلة لصادراتها في آسيا والشرق الأوسط، حافظت روسيا على استقرارها الاقتصادي بشكل لافت. بل إن احتياطي الدولار الروسي ظل قويًا، حيث تجاوز 600 مليار دولار في عدة فترات، مما يؤكد فشل العقوبات في تحقيق أهدافها المرجوة في انهيار الاقتصاد الروسي، بل على العكس، أظهر الاقتصاد الروسي مرونة وقدرة على التكيف فاقت التوقعات الغربية.
تبعية الدفاع الأوروبي: قيد يمنع الاستقلالية والسيادة
على الرغم من سعي أوروبا الحثيث لأن يكون لها دور مستقل وفاعل في الأزمة الأوكرانية، وتصريحات بعض قادتها بضرورة بناء قدرة دفاعية أوروبية مستقلة، إلا أن هذا السعي يصطدم بحقيقة تاريخية وجيوسياسية راسخة: تبعيتها العضوية للولايات المتحدة في مجال الدفاع. فمنذ نهاية الحرب العالمية الثانية وتأسيس حلف الناتو، اعتمدت الدول الأوروبية بشكل كبير على المظلة الأمنية الأمريكية، التي وفرت لها الحماية من التهديدات الخارجية، وخاصة من الاتحاد السوفيتي ثم روسيا. هذا الاعتماد الطويل الأمد أدى إلى تراجع كبير في قدرات الدول الأوروبية الدفاعية الذاتية، سواء على مستوى الإنفاق العسكري، أو تطوير الصناعات الدفاعية، أو حتى التخطيط الاستراتيجي المستقل. لقد أصبحت الجيوش الأوروبية، في معظمها، تعتمد على التكنولوجيا الأمريكية، وعلى القيادة الأمريكية في العمليات العسكرية الكبرى، وعلى التنسيق الوثيق مع واشنطن في كل ما يتعلق بالأمن والدفاع.
هذه التبعية العضوية تجعل من الصعب للغاية على أوروبا اتخاذ قرارات مستقلة تتعارض مع المصالح الأمريكية، خاصة في قضايا الأمن القومي الكبرى التي تمس التوازنات الدولية. ففي الأزمة الأوكرانية، على سبيل المثال، كان الموقف الأوروبي، وإن بدا موحدًا في البداية، تابعًا بشكل كبير للخط الأمريكي. العقوبات التي فرضت على روسيا، وحجم المساعدات العسكرية لأوكرانيا، وحتى الخطاب السياسي الموجه نحو موسكو، كلها كانت تتوافق بشكل كبير مع الأجندة الأمريكية. وبالتالي، فإن أي محاولة أوروبية للعب دور وسيط مستقل أو فاعل في الصراع الأوكراني تبقى محدودة بمدى توافقها مع الأجندة الأمريكية، ولا يمكنها أن تتجاوز الخطوط الحمراء التي تحددها واشنطن. هذا الوضع يضع أوروبا في مأزق، فهي من جهة تتأثر بشكل مباشر بتداعيات الحرب على أراضيها واقتصاداتها، ومن جهة أخرى لا تملك القدرة الكاملة على صياغة حلول مستقلة أو فرض رؤيتها الخاصة على مسار الصراع.
التأثيرات المدمرة على الشعب الأوروبي: تضخم، طاقة، وانكماش اقتصادي
لم تكن حرب أوكرانيا مجرد صراع عسكري وسياسي بعيد عن أوروبا، بل امتدت تداعياتها لتضرب صميم الحياة اليومية للمواطن الأوروبي، وتكشف عن هشاشة الاقتصاد الأوروبي واعتماده على مصادر الطاقة الروسية. فقد شهدت القارة ارتفاعًا غير مسبوق في معدلات التضخم، الذي وصل إلى مستويات قياسية لم تشهدها منذ عقود، مما أدى إلى تآكل حاد في القوة الشرائية للمواطنين وارتفاع جنوني في تكاليف المعيشة. أسعار المواد الغذائية، والإيجارات، والخدمات الأساسية، كلها ارتفعت بشكل كبير، مما أثر سلبًا على الأسر ذات الدخل المحدود والمتوسط، وزاد من معدلات الفقر في بعض الدول.
كما ارتفعت أسعار الطاقة بشكل جنوني، خاصة الغاز الطبيعي والكهرباء، بعد قرار أوروبا تقليل اعتمادها على الغاز الروسي. هذا الارتفاع أثر سلبًا على الصناعات الأوروبية، التي تعتمد بشكل كبير على الطاقة الرخيصة، مما أدى إلى إغلاق بعض المصانع وتقليل الإنتاج في أخرى، وزيادة تكاليف التشغيل بشكل كبير. الأسر الأوروبية أيضًا عانت من ارتفاع فواتير الطاقة، مما أضاف عبئًا ماليًا كبيرًا عليها. وقد تفاقمت هذه الأزمة بعد تفجير خطي نقل الغاز الروسي نورد ستريم 1 و2 في سبتمبر 2022، مما أدى إلى انخفاض إمداد الغاز الروسي بنسبة تزيد عن 80٪. أسعار الغاز قفزت لأكثر من 4 أضعاف، مع ارتفاع في فاتورة الكهرباء والوقود بمستويات قياسية. البدائل المتاحة من نرويج، قطر، الولايات المتحدة وأذربربيجان لم تملأ الفجوة، بسبب القيود اللوجستية والبنية التحتية المحدودة، وستستمر أزمة نقص الغاز حتى عام 2025 على الأقل، مما يعني استمرار الضغط على الاقتصاد الأوروبي والمواطن العادي.
هذه الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، التي فاقمتها الحرب، كشفت عن هشاشة الاقتصاد الأوروبي واعتماده على مصادر الطاقة الروسية، مما جعله يدفع ثمنًا باهظًا لصراع لا يملك فيه زمام المبادرة. وقد دفع هذا الوضع بعض الاقتصادات الأوروبية الكبرى، مثل ألمانيا، إلى الانكماش، مما يهدد بحدوث ركود اقتصادي أوسع في القارة. إن التداعيات الاقتصادية للحرب لم تقتصر على التضخم وارتفاع أسعار الطاقة، بل امتدت لتشمل تراجع الاستثمارات، وتباطؤ النمو، وزيادة البطالة في بعض القطاعات، مما يضع مستقبل أوروبا الاقتصادي على المحك.
## تداعيات الحرب على الأمن الأوروبي: وهم الاستقلالية في ظل التبعية
لطالما سعت أوروبا، منذ نهاية الحرب الباردة، إلى بناء قدرة دفاعية مستقلة، بعيدًا عن الهيمنة الأمريكية، وهو ما تجلى في مبادرات مثل “الجيش الأوروبي” أو “الاستقلالية الاستراتيجية”. لكن حرب أوكرانيا كشفت بوضوح عن مدى هشاشة هذا الطموح، وعن أن الأمن الأوروبي لا يزال مرتبطًا بشكل عضوي بالولايات المتحدة. ففي اللحظات الحاسمة، عندما واجهت أوروبا تهديدًا مباشرًا لأمنها، لم يكن هناك بديل عن الاعتماد على القوة العسكرية الأمريكية، وعلى القيادة الأمريكية داخل حلف الناتو. لقد أظهرت الحرب أن القدرات الدفاعية الأوروبية، رغم التقدم الذي أحرزته بعض الدول، لا تزال غير كافية لمواجهة تحديات بهذا الحجم بمفردها. هذا الواقع فرض على أوروبا التخلي عن جزء كبير من طموحاتها في الاستقلالية، والعودة إلى مظلة الناتو بقيادة واشنطن.
إن هذه التبعية لا تقتصر على الجانب العسكري فحسب، بل تمتد لتشمل الجانب الاستراتيجي والسياسي. فقرارات أوروبا بشأن العقوبات على روسيا، أو حجم المساعدات العسكرية لأوكرانيا، أو حتى الخطاب الدبلوماسي، غالبًا ما تكون متوافقة مع الرؤية الأمريكية. هذا التوافق، وإن كان يظهر أوروبا كجبهة موحدة، إلا أنه يخفي وراءه حقيقة أن أوروبا لا تزال تلعب دور التابع في هذه الأزمة. فبينما تسعى واشنطن لتحقيق أهدافها الجيوسياسية والاقتصادية في المنطقة، تجد أوروبا نفسها مضطرة لدفع الثمن، سواء كان ذلك على شكل أعباء اقتصادية، أو تضحيات سياسية، دون أن يكون لها صوت حقيقي في تحديد مسار الصراع أو نتائجه النهائية.
مستقبل أوكرانيا: بين مطرقة المصالح الأمريكية وسندان المطالب الروسية
مع استمرار الحرب، يتضح أن مستقبل أوكرانيا لن يُحدد في كييف أو بروكسل، بل في واشنطن وموسكو. فالمصالح الأمريكية في المعادن الأوكرانية، ورغبتها في إضعاف روسيا، تتصادم مع المطالب الروسية بالسيطرة على المناطق ذات الأغلبية الروسية وإنشاء منطقة عازلة. هذه المصالح المتضاربة هي التي ستحدد شكل التسوية النهائية، وليس تطلعات الشعب الأوكراني أو رؤية الاتحاد الأوروبي. فالتصريحات الأخيرة لترامب، التي تشير إلى أن أوكرانيا لن تكون جزءًا من الناتو، هي مؤشر واضح على أن واشنطن قد تكون مستعدة لتقديم تنازلات معينة لروسيا، مقابل تحقيق مصالحها الاستراتيجية. هذا السيناريو يضع أوكرانيا في موقف صعب، حيث قد تجد نفسها ضحية لتفاهمات بين القوى الكبرى، دون أن يكون لها رأي حاسم في مصيرها.
إن الاتحاد الأوروبي، الذي راهن على دعم أوكرانيا والانضمام إلى صفوفه، يجد نفسه الآن في موقف حرج. فمن جهة، لا يستطيع التخلي عن أوكرانيا بشكل كامل، لما لذلك من تداعيات على مصداقيته وأمنه الإقليمي. ومن جهة أخرى، لا يملك القدرة على فرض رؤيته الخاصة على مسار الصراع، أو تحدي الإرادة الأمريكية والروسية. هذا الوضع يجعله مجرد متفرج على مسرح الأحداث، يدفع الثمن الاقتصادي والاجتماعي للحرب، دون أن يكون له تأثير حقيقي على نتائجها. إن خروج زيلينسكي والاتحاد الأوروبي من المعادلة، كما تشير التطورات الأخيرة، هو نتيجة حتمية لعدم امتلاكهم لأوراق القوة الكافية لتحديد مسار الصراع، ولتبعية أوروبا للولايات المتحدة في مجال الدفاع والسياسة الخارجية.
الدور الأوروبي في الأزمة الأوكرانية: بين الطموح والواقع
منذ بداية الأزمة الأوكرانية، حاولت الدول الأوروبية، وخاصة فرنسا وألمانيا، أن تلعب دورًا محوريًا في الوساطة وحل النزاع. فلقد كانت مبادرات مثل “صيغة نورماندي” و”اتفاقيات مينسك” محاولات أوروبية خالصة لإيجاد حل سياسي للأزمة. لكن هذه المبادرات، رغم أهميتها، لم تنجح في منع التصعيد العسكري، ولم تتمكن من فرض حل دائم. وهذا يعود، جزئيًا، إلى عدم امتلاك أوروبا لأدوات القوة الكافية لفرض إرادتها على الأطراف المتصارعة، وخاصة روسيا. فبينما تمتلك الولايات المتحدة قوة عسكرية واقتصادية هائلة، تمكنها من فرض عقوبات مؤثرة أو تقديم دعم عسكري حاسم، فإن أوروبا، رغم قوتها الاقتصادية، تفتقر إلى هذه الأدوات بشكل مستقل.
لقد أظهرت الحرب أن أوروبا، رغم طموحاتها في أن تكون قوة جيوسياسية مستقلة، لا تزال تعتمد بشكل كبير على الولايات المتحدة في مجال الأمن والدفاع. وهذا الاعتماد يحد من قدرتها على اتخاذ قرارات مستقلة، ويجعلها في كثير من الأحيان تتبع الخط الأمريكي، حتى لو كان ذلك يتعارض مع مصالحها الاقتصادية أو الأمنية على المدى الطويل. فالعقوبات على روسيا، على سبيل المثال، أثرت بشكل كبير على الاقتصاد الأوروبي، خاصة في مجال الطاقة، بينما كانت تداعياتها على الاقتصاد الأمريكي أقل حدة. وهذا يثير تساؤلات حول مدى استقلالية القرار الأوروبي، ومدى قدرتها على حماية مصالحها الخاصة في ظل التبعية للولايات المتحدة.
أزمة الطاقة الأوروبية: ثمن باهظ للتبعية الجيوسياسية
تعتبر أزمة الطاقة التي ضربت أوروبا بعد الحرب في أوكرانيا من أبرز الأمثلة على الثمن الباهظ الذي دفعته القارة نتيجة لتبعيتها الجيوسياسية. فلقد كانت أوروبا تعتمد بشكل كبير على الغاز الروسي الرخيص، الذي كان يمثل شريان الحياة لصناعاتها واقتصاداتها. لكن مع تصاعد التوترات وفرض العقوبات، اضطرت أوروبا إلى البحث عن بدائل للغاز الروسي، مما أدى إلى ارتفاع جنوني في أسعار الطاقة، وتضخم غير مسبوق، وانكماش اقتصادي في بعض الدول. هذا الوضع كشف عن هشاشة النموذج الاقتصادي الأوروبي، وعن مدى اعتماده على مصادر الطاقة الخارجية، وخاصة الروسية.
لقد أثرت أزمة الطاقة بشكل مباشر على حياة المواطنين الأوروبيين، حيث ارتفعت فواتير الكهرباء والغاز بشكل كبير، مما أثر على قدرتهم الشرائية وزاد من معاناتهم الاقتصادية. كما أثرت الأزمة على الصناعات الأوروبية، حيث اضطرت بعض المصانع إلى تقليل إنتاجها أو حتى الإغلاق بشكل كامل، مما أدى إلى فقدان الوظائف وتراجع النمو الاقتصادي. وهذا يثير تساؤلات حول مدى قدرة أوروبا على تحمل هذه التكاليف الباهظة، ومدى استدامتها على المدى الطويل في ظل استمرار الأزمة.
حسم الصراع: بين واشنطن وموسكو وخروج زيلينسكي والاتحاد الأوروبي من المعادلة
في الختام، يبدو أن الصراع في أوكرانيا سُيحسم في نهاية المطاف بين القوتين العظميين، الولايات المتحدة وروسيا، مع خروج أوكرانيا نفسها والاتحاد الأوروبي من المعادلة بشكل متزايد. فالتصريحات الأخيرة لترامب حول عدم انضمام أوكرانيا للناتو، ورغبة واشنطن في تأمين المعادن، ومطالب روسيا بالسيطرة على الأراضي، كلها مؤشرات تدل على أن التسوية النهائية ستكون نتيجة لتفاهمات بين موسكو وواشنطن، وليس بين كييف وبروكسل. هذا الواقع يؤكد أن أوروبا، رغم طموحاتها، لا تزال أسيرة لتبعيتها الجيوسياسية، وأن مصيرها في الأزمات الكبرى لا يزال مرهونًا بقرارات القوى العظمى. إن حرب أوكرانيا لم تكن مجرد صراع إقليمي، بل كانت كاشفًا حقيقيًا عن موازين القوى العالمية، وعن الدور الهامشي الذي تلعبه أوروبا في رسم مستقبلها الأمني والاقتصادي.