المحلل السياسي نزار الجليدي يكتب/ المسرح السياسي وخداع الرأي العام: ما خفي من العلاقة بين فرنسا وإسرائيل... - صوت الضفتين

المحلل السياسي نزار الجليدي يكتب/ المسرح السياسي وخداع الرأي العام: ما خفي من العلاقة بين فرنسا وإسرائيل…

✍️ تحليل سياسي

لم تعد السياسة الفرنسية، كما عرفها العالم، شأناً داخليًا تقرّره صناديق الاقتراع أو تُحدده إرادة شعبية تعكس قيم الجمهورية. تحت رئاسة إيمانويل ماكرون، تآكلت مفاهيم السيادة والعدالة والحياد، لتطفو على السطح شبكة نفوذ عابرة للدولة، تنسج قراراتها من خلف الستار، وتُعيد صياغة الحقيقة عبر واجهات إعلامية وقانونية وأمنية.

في هذا السياق، يُمكن قراءة أغلب “الأزمات” بين فرنسا وشركائها الغربيين كفصول من مسرحية ديبلوماسية مكتوبة بعناية، تؤدى لإيهام الشعوب بوجود خلافات، بينما تُبنى الاستراتيجيات الحقيقية في الخفاء بتوافق تام. قضية اتفاق “AUKUS”، التي فجّرت غضبًا فرنسيًا بعد إلغاء أستراليا عقدًا دفاعيًا لصالح تحالف جديد مع واشنطن ولندن، كشفت أن ما بدا توترًا سياديًا، كان مجرد واجهة إعلامية. فقد عادت العلاقات بسرعة إلى طبيعتها، واستمرت الشراكات العسكرية والاستخباراتية، ما يعكس وحدة المنظومة الغربية حين يتعلق الأمر بمصالحها الكبرى.

هذا النوع من “الخلافات الاستعراضية” يتكرر أيضاً في العلاقة مع إسرائيل. ورغم التصريحات الرسمية المنتقدة أحياناً، فإن التعاون الأمني والعسكري والتكنولوجي بين باريس وتل أبيب مستمر بوتيرة عالية. شركات فرنسية لا تزال تمدّ الجيش الإسرائيلي بتقنيات توجيه ومراقبة، وسط صمت تام من السلطات. هذه الازدواجية تكشف عن خلل بنيوي في الخطاب السياسي الفرنسي، حيث يتم تجميد مبادئ مثل “حقوق الإنسان” و”القانون الدولي” حين تصطدم بمصالح الحلفاء.

بل أكثر من ذلك، تُمارس العدالة الدولية بانتقائية سافرة: مذكرة التوقيف الدولية بحق فلاديمير بوتين نُفّذت بدقة ووجدت دعمًا فرنسيًا كاملاً، بينما تُغضّ باريس الطرف عن جرائم نتنياهو، رغم تشابه الوضع القانوني. فرنسا، العضو في المحكمة الجنائية الدولية، تلتزم الصمت حين يتعلق الأمر بضحايا غزة، وكأن القانون أداة يمكن استخدامها حسب الهوية السياسية للجاني.

في خلفية هذا الصمت النشط، يظهر الدور المتعاظم للوبيات الصهيونية داخل الدولة الفرنسية، وعلى رأسها المجلس التمثيلي للمؤسسات اليهودية (CRIF). لم يعد هذا المجلس مجرّد هيئة مدنية تمثل الجالية، بل تحوّل إلى فاعل سياسي وأمني له علاقات رسمية مع الشرطة والمخابرات الداخلية. نفوذه يمتد إلى مستويات اتخاذ القرار، ومراجعة المحتوى الإعلامي، وفرض رواية معينة عن الصراع في الشرق الأوسط. حتى الهيئة الناظمة للبث الرقمي (ARCOM) منحته صفة “مبلّغ موثوق”، ما يخولّه حذف المنشورات الرقمية المخالفة لرؤيته، في انتهاك صريح لمبدأ حرية التعبير.

هذا الاختراق لم يقتصر على المؤسسات، بل طال الأفراد. عدد من الصحافيين والسياسيين في فرنسا تم تلميعهم، أو في المقابل إسكاتهم، بناءً على موقفهم من إسرائيل. المعركة على الرواية لم تعد تدور في الهامش، بل أصبحت قلب الحياة السياسية والثقافية. كل ما يُخالف السردية الرسمية يُشيطن باسم “مكافحة معاداة السامية”، حتى وإن تعلق الأمر بتوثيق جرائم حرب موثقة.

في ظل هذا الواقع، تبدو “العلمانية الفرنسية” كما أرساها قانون 1905 فكرة جوفاء. الحياد الديني الذي يُستخدم كحجة لحلّ جمعيات إسلامية ومنع مظاهرات مؤيدة لفلسطين، يتبخّر عندما يتعلق الأمر بجمعيات تدافع عن جيش أجنبي، وتُسهم فعليًا في تبرير قتل مدنيين. ازدواجية التطبيق هنا تحوّل العلمانية من مبدأ دستوري إلى أداة إقصاء انتقائية.

ومن الأسئلة التي تفرض نفسها بحدة في هذا السياق: هل ماكرون هو فعلاً رئيس دولة ذات سيادة؟ أم مجرّد مدير تنفيذي لشبكة مصالح دولية ترى في فرنسا منصّة لا دولة؟
تحت غطاء الاتحاد الأوروبي، وبتأثير لوبيات سياسية ومالية عابرة للقارات، يبدو القرار السياسي الفرنسي اليوم مجرد انعكاس لتوازنات غير فرنسية. بل إن كثيرًا من الأصوات داخل فرنسا—بما في ذلك من داخل المعسكر الماكروني نفسه—باتت تُشكّك في مدى استقلال قصر الإليزيه.

الجواب على هذا السؤال يتجلّى في طريقة إدارة ماكرون لنفسه قبل إدارته للدولة. فالرجل، القادم من قلب المؤسسات المالية، لا يُقدّم مشروعًا وطنيًا بقدر ما يسوّق لنفسه داخل سوق نخبوي مغلق. همه الأول هو صورته، وانطباع الشركاء الخارجيين، لا تطلعات الشعب الفرنسي. في هذا السياق، يُصبح دوره أقرب إلى العلاقات العامة منه إلى القيادة السياسية.

حتى في زمن الحرب والمجازر، يحرص ماكرون على “التوازن”، فلا يُدين، ولا يساند، بل يتحدّث بلغة مطاطية تناسب كل الأطراف. هذه الحيادية الزائفة ليست حيادًا، بل انخراط غير مباشر في إدامة واقع استعماري، تُموّل فيه آلة القتل وتُقمع فيه المظاهرات السلمية. لقد وصلت الأمور إلى حد إصدار وزارة الداخلية تعليمات بمنع تظاهرات قانونية داعمة لفلسطين، واعتقال متظاهرين، رغم امتلاكهم تصاريح رسمية. القمع هنا ليس حالة استثنائية، بل سياسة ممنهجة.

في موازاة ذلك، يلعب الإعلام الفرنسي دورًا وظيفيًا في دعم الرواية الرسمية. من يُستضاف في البرامج؟ من يُسمح له بالحديث عن غزة؟ ومن يُقصى بحجة التوازن؟ لم يعد الإعلام سلطة رابعة بل شريكًا مباشرًا في التعتيم والتضليل، حيث تُمنح الميكروفونات لـ”خبراء أمنيين” مرتبطين بإسرائيل، بينما تُقصى الأصوات الحرة بحجة “التحريض”.

ما يحدث في فرنسا ليس إلا جزءًا من شبكة هيمنة ناعمة تعمل بذكاء عبر أدوات القانون والإعلام والتقنيات الرقمية، وتسعى لإخضاع الرأي العام الأوروبي. خطاب “مكافحة معاداة السامية” تحوّل إلى مظلة لقمع المقاومة المشروعة، وتجريم التضامن مع الشعوب المحتلة. وفي هذا المسرح الكبير، يلعب ماكرون دوراً باهتاً، صغيراً على إدارة التوتر، وعاجزاً عن إعلان قطيعة مع منظومة تُعيد إنتاج الاستعمار بأدوات ناعمة.

فرنسا، في عهد ماكرون، لم تعد دولة ديمقراطية فعليًا، بل فضاء يُدار بمراسيم تنفيذية وأوامر فوقية، وتُصاغ سياساته الخارجية بما يُرضي النخب المالية والعسكرية لا بما يخدم مصلحة المواطنين. ولعل أكثر ما يلخص المشهد

“ماكرون لا يحكم، بل يدير صورته في مرآة النخب، على حساب السيادة، والمبادئ، ومكانة فرنسا.”

 

أبرز المحطات التاريخية في مسار  التوتر الفرنسي–الإسرائيلي

 

*1956  التحالف العسكري خلال العدوان الثلاثي

كانت فرنسا حليفًا وثيقًا لإسرائيل في هذه المرحلة، حيث شاركت معها وبريطانيا في العدوان الثلاثي على مصر بعد تأميم قناة السويس.في المقابل، كانت فرنسا المزوّد الرئيسي للسلاح لإسرائيل، بما في ذلك الطائرات المقاتلة ودعم مشروعها النووي.

*1967 – قطيعة ديغول بعد “حرب الأيام الستة”

بعد عدوان جوان 1967، أعلن الرئيس شارل ديغول أن إسرائيل “دولة عدوانية وتوسعية”، وفرض حظرًا على بيع السلاح لها.

اعتبر الموقف الفرنسي حينها نقطة تحول، خصوصًا في ظل الميل الأوروبي نحو دعم إسرائيل.

*1973 – موقف فرنسا خلال “حرب أكتوبر”

خلال حرب أكتوبر، رفضت فرنسا دعم إسرائيل عسكريًا، بل اتخذت موقفًا أقرب للحياد.باريس سمحت بمرور النفط العربي نحو أوروبا ولم تنخرط في الجسر الجوي الأمريكي لدعم إسرائيل.

*1980  اغتيال الدبلوماسي الفرنسي فرانسوا دوماك

كان دوماك مكلفًا بمراقبة النفوذ الإسرائيلي في إفريقيا، واغتيل في باريس في ظروف غامضة.الصحافة الفرنسية وبعض المحققين تحدثوا عن دور للموساد الإسرائيلي في العملية.

*1982– الاجتياح الإسرائيلي للبنان

عبّرت الحكومة الفرنسية عن غضبها العلني من غزو بيروت، وانتقدت بشدة مجازر صبرا وشاتيلا.استُقبل عرفات لاحقًا في باريس، في تحدٍ واضح للرغبات الإسرائيلية والأمريكية.

*2000–2005 – الانتفاضة الفلسطينية الثانية

رغم الانتقادات الظاهرة، التزمت فرنسا بـ”الاعتدال”، وواجهت ضغوطًا أمريكية وإسرائيلية بعد اتهامات بمعاداة السامية بسبب تنامي دعم الشارع الفرنسي للفلسطينيين.اندلعت أزمة إعلامية بعد تصريحات لماكرون الأسبق جاك شيراك حول سوء معاملة الفلسطينيين.

*2006 – حرب لبنان الثانية

اتهمت إسرائيل فرنسا ضمنيًا بأنها تُعرقل دعمًا أوروبيًا واسعًا لها.فرنسا انتقدت الاستخدام المفرط للقوة ضد المدنيين اللبنانيين، وشاركت لاحقًا في قوة “اليونيفيل”.

*2021 – الهجوم على حي الشيخ جراح وغزة

ماكرون تبنّى موقفًا باهتًا تجاه التصعيد الإسرائيلي في غزة، مع تصريحات عامة عن “حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها”، مقابل تجاهل الضحايا المدنيين الفلسطينيين.

واجهت الحكومة الفرنسية موجة انتقادات محلية ودولية إثر قمع مظاهرات داعمة لفلسطين في باريس.

*2023–2024 – العدوان على غزة

رغم شدة المجازر المرتكبة، بقي موقف ماكرون مائعًا وغامضًا، ما تسبب في أوسع موجة غضب شعبي فرنسي ضد الحكومة بسبب “التواطؤ”.بالمقابل، واصلت فرنسا تصدير مكوّنات عسكرية تُستخدم في سلاح الجو الإسرائيلي.

الملخص:

التاريخ الفرنسي الإسرائيلي تأرجح بين تحالف استراتيجي (1956) وتوترات أخلاقية وسياسية (1967، 1982)، لكن في العقود الأخيرة، بات الخطاب الفرنسي أقرب إلى التحايل على المبادئ بدل مواجهتها.

التوترات لم تعد صدامية، بل خضعت لرقابة المصالح، وسط نفوذ متزايد للوبيات داعمة لإسرائيل داخل فرنسا.

شارك المقال

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *