في مثل هذا اليوم منذ ربع قرن.. كيف أصبح فلاديمير بوتين رئيسا لروسيا لأول مرة؟

في مثل هذا اليوم منذ ربع قرن بالتمام والكمال انتخبت روسيا فلاديمير بوتين رئيسا للمرة الأولى.
وصل بوتين إلى هذا المنصب بسرعة وعلى نحو غير متوقع، بعد بضعة أشهر فقط من العمل في السياسة الكبرى، وبعد أن تفوق على أبطال المشهد من ذوي الوزن الثقيل الذين كانت تصنيفاتهم مرتفعة لمدة عقد كامل.
كشفت وكالة “تاس” في تقرير مفصل لها (أعده الصحافيون: يوليا بوبنوفا وأنطون موروزوف وإيفان كوزنيتسوف) عن الظروف التي مكّنت بوتين من الحصول على دعم الروس، وقد شاركت في التقرير رئيسة اللجنة المركزية للانتخابات إيلا بامفيلوفا، التي ترشحت أيضا للرئاسة عام 2000، برأيها كشاهد عيان.
بوتين والمنافسون العشرة
تقول إيلا بامفيلوفا لوكالة “تاس”: “كمنافس في الانتخابات، كان فلاديمير بوتين دقيقا للغاية، ومتحفظا وودوا إلى أبعد الحدود. لم يسمح لنفسه قط بالتصرف بوقاحة مع خصومه”.
وأكدت أن بوتين “يحترم أولئك الذين يختلفون معه في وجهة النظر ويدافعون عنها بصراحة وصدق، بدلا من محاولة التكيّف معه أو الإطراء عليه أو الموافقة عليه باستمرار”. وأضافت بامفيلوفا: “لقد اقتنعت بهذا من خلال تجربتي الشخصية، فقبل انتخابه رئيسا كنت أنتقده بشدة”.
في البداية، تقدّم للترشح 33 مرشحا بوثائقهم للجنة المركزية للانتخابات عام 2000، ولكن بعد جمع التوقيعات، لم يتبق سوى 11 شخصا للتنافس على منصب الرئاسة في يوم الانتخابات الرئاسية، 26 مارس 2000.
بوتين: لا حاجة لوسطاء في الحوار بين روسيا والولايات المتحدة
إضافة إلى بوتين وبامفيلوفا، كان من بين المتنافسين زعماء الحزب الشيوعي غينادي زيوغانوف والحزب الديمقراطي الليبرالي فلاديمير جيرينوفسكي وحزب “يابلوكا” (التفاحة) غريغوري يافلينسكي، إضافة إلى حاكمي سامارا وكيميروفو قنسطنطين تيتوف وأمان تولييف، كما ضمت القائمة نفسها عمر غبرايلوف وأليكسي بودبيرزكين ويوري سكوراتوف وستانيسلاف غوفوروخين.
وبحلول ذلك الوقت، كان بوتين قد بدأ التحرك بالفعل منذ أن أصبح قائما بأعمال رئيس الجمهورية منذ 31 ديسمبر 1999، عقب خطاب بوريس يلتسين الشهير الذي قال فيه “أنا متعب وسأرحل”. وكما يحدث في كثير من الأحيان، لم ينطق يلتسين بهذه العبارة حرفيا، لكن ذاكرة الشعب احتفظت بهذا التعبير البليغ تحديدا.
تصنيف المرشح
في بداية الحملة الانتخابية، كان بوتين هو المرشح رقم 1 وبحلول نهاية عام 1999، أصبحت احتمالات تفوقه على أقرب منافسيه من حيث التصنيف، زعيم الحزب الشيوعي الروسي غينادي زيوغانوف، أكثر من الضعف. علاوة على ذلك، تمكن رئيس الوزراء (الصفة الرسمية لبوتين آنذاك) من تحقيق هذه النتيجة في أقل من 6 أشهر.
أصبحت فرص بوتين للرئاسة واضحة لأول مرة في أغسطس 1999، وكان يلتسين نفسه هو الذي بدأ الحديث عن هذا الأمر عندما رشّحه رئيسا للحكومة. بحلول ذلك الوقت، كان بوتين قد شغل مناصب عليا في موسكو لعدة سنوات، وبدأ يكتسب شعبية واسعة بين الناس بعد صد هجوم المسلحين في داغستان.
وفي أغسطس 1999، ظهر بوتين في استطلاع رأي لمركز عموم روسيا لدراسة الرأي العام VTsIOM للمرة الأولى، وبحلول أكتوبر كان 21% من الروس على استعداد للتصويت له، وبحلول نوفمبر وصلت النسبة إلى 42%. وكان أداء بوتين رئيسا للوزراء يحظى بموافقة 80% من السكان.
لكن بوتين نفسه لم يبال بهذا الأمر، وكانت مقولته الشهيرة ردا على الصحفيين آنذاك: “لا أهتم بذلك، لا ينبغي عليك أن تعمل من أجل التصنيف في استطلاعات الرأي العام، إذا كنت تعمل من أجل التصنيف، فإنه سيبدأ في الانخفاض على الفور”.
وبحلول منتصف الخريف، بدأت وسائل الإعلام الحديث علانية عن بوتين كمرشح رئاسي محتمل. وحتى لو لم ينسحب يلتسين من السباق مبكرا، فإن الانتخابات كانت ستجرى عام 2000، ولكن في شهر يونيو. وبحلول نهاية نوفمبر 1999، كتبت “تاس” عن بوتين باعتباره “السياسي الأكثر شعبية بين الروس، والمرشح الوحيد للكرملين في الانتخابات الرئاسية المقبلة”، وقبل ذلك بقليل، أكد بوتين علنا خططه للترشح، وحصل على دعم يلتسين.
بحلول 31 ديسمبر من العام نفسه لم يعد هناك مجالا للشك: بوتين سيذهب إلى صناديق الاقتراع. في الوقت نفسه، لم يقم أحد بإعفائه عن مهامه كرئيس للوزراء. وكانت هناك العديد من المشكلات: فقد كانت البلاد تتعافى من التخلف عن سداد ديونها عام 1998. كتبت “تاس” في ذاك الوقت: “لقد وصل الناتج المحلي الإجمالي الروسي للتو إلى المستوى الذي كان عليه في عام 1995، حيث يبلغ متوسط دخل الفرد من السكان أقل من 50 دولار شهريا”.
للمقارنة، فقد أصبح متوسط دخل الفرد الروسي الآن أعلى بنحو 19 ضعفا، أي نحو 950 دولار.
وكانت الدخول المتواضعة بالفعل تتآكل بسبب التضخم المتسارع: ففي عام 1999 بلغ معدل التضخم 36.5%، ووصل معدل البطالة إلى أعلى مستوياته على الإطلاق وهو 13% (حاليا، للمقارنة يبلغ 2.5%). وكانت مستحقات صرف المعاشات التقاعدية وغيرها من المدفوعات تتأخر بانتظام، فيما يعيش ثلث الروس تحت خط الفقر.
أما التحدي الآخر فكان عملية مكافحة الإرهاب واسعة النطاق المعروفة باسم الحرب الشيشانية الثانية. من الناحية النظرية، يستطيع بوتين أن يصرّ على حالة الطوارئ أو الأحكام العرفية ويحوّلها لصالحه من خلال تقييد منافسيه. لكنه لم يلجأ لذلك، وقال بعد وقت قصير من تعيينه رئيسا للوزراء: “لا توجد أي شروط موضوعية لتطبيق قانون الطوارئ”.
وكان الوضع على الصعيد الدولي صعبا هو الآخر. وبحلول التسعينيات من القرن الماضي، كانت روسيا غارقة في الديون بشكل كبير، فقد اقترضت من صندوق النقد الدولي وحده ثماني مرات (بمجموع 22 مليار دولار)، وبقيت الديون الخارجية الروسية أيضا قائمة: حيث تحمّلت روسيا، بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، على عاتقها التزامات جمهوريات أخرى في مقابل الحصول على أسهم في الأصول الأجنبية.
نتيجة لذلك، بلغ الدين الخارجي لروسيا عام 1999 نسبة 60% من الناتج المحلي الإجمالي، وبحلول عام 2005، ستنخفض تلك النسبة إلى 18%.
بوتين: روسيا مستعدة للعودة إلى طاولة المفاوضات بشأن أوكرانيا
تشير بامفيلوفا إلى أن “حتى الآن، لا يزال العالم أجمع مندهشا من قدرة بوتين على الحفاظ على رباطة جأشه في المواقف الصعبة، وعدم النزول إلى مستوى عدد من الزعماء الأقزام الغربيين، الغارقين في هوس الروسوفوبيا (رهاب الروس) المريضة والإهانات الهستيرية”.
سلطة بلا فراغ
وبمجرد توليه منصب الرئيس بالنيابة، اعتبارا من الساعة 24:00 يوم 31 ديسمبر 1999، عقد بوتين اجتماعا طارئا للحكومة في الساعات الأولى، ودعا مجلس الأمن، وأكد استمرارية مسار السياسة الخارجية، وخطط لاجتماع بشأن الشيشان، ومحادثة مع قادة الأحزاب السياسية في 2 يناير، وحصل على مباركة من البطريرك.
ووعد حينها في خطابه للأمة بمناسبة رأس السنة الميلادية: “أود أن ألفت الانتباه إلى أنه لم ولن يكون هناك فراغ في السلطة بالبلاد ولو لدقيقة واحدة”.
وقد أوفى بوتين بكلمته، وظهر في مدينة غوديرميس في الشيشان في الساعة السادسة صباحا من يوم الأول من يناير، حيث قدم جوائز للعسكريين.
ومن المحيطين به، ظل بوتين يحاول أن يسمع النصائح العملية قبل المديح.
تتابع بامفيلوفا: “إن من صفاته العديدة التي تثير احتراما عميقا هي قدرته على التعامل مع الانتقادات بصدر رحب، إذا كانت صادقة وتهدف إلى تقوية روسيا، فهو يقدر الرغبة في لفت الانتباه إلى المشكلات الحادة والمزعجة التي تتطلب حلولا، لا سيما عندما يكون الأمر مدعوما بمقترحات محددة لحلها”.
بلا شعبوية تلفزيونية
تخلى بوتين عن الحملات الانتخابية المعتادة، وفضّل التركيز على العمل. وأوضح موقفه: “لا أريد الإدلاء بتصريحات شعبوية”.
ولم يشارك رئيس الدولة في مناظرات تلفزيونية، ولا يزال يحافظ على هذا التقليد، بينما يقول: “إن تقنيات الانتخابات الحديثة هي تجارة بلا ضمير إلى حد كبير، ترتبط جميعها بضرورة النظر في عيون ملايين الناس وتقديم الوعود، مع العلم التام باستحالة الوفاء بها”.
وطلب من مقربيه الموثوق بهم عدم خلق “صورة مبتذلة للمرشح”، حيث يعامل بوتين الآخرين بنفس الطريقة، يحكم عليهم استنادا لأفعالهم على أرض الواقع.
تقول بامفيلوفا: “على سبيل المثال، كنت من القلائل الذين صوّتوا في مجلس الدوما ضد تعيينه رئيسا للوزراء. وفي اجتماعات اللجان التي نوقشت فيها أوراق ترشيحه ومشاركته، لم أتردد في توجيه انتقاداتي له”.
بيسكوف: هدية بوتين لترامب شأن شخصي يخصهما فقط
وتتابع: برغم ذلك، وبعد انتهاء الانتخابات ونجاحه فيها، دعاني إلى الكرملين وقال إنه كان يتابع خطاباتي باهتمام، وعرض عليّ ترأس اللجنة المجتمعية لحقوق الإنسان التابعة للرئيس. وهكذا بدأ تعاوننا طويل الأمد”.
اعترف بوتين بأنه لم يتخيل “حتى في أسوأ كوابيسه” أنه سيشارك في الانتخابات. لكن، وكما صرح: “إذا انخرطت في أي نوع من النضال، فإنك تعتمد دائما على نتيجة إيجابية، وإلا فلا معنى للبدء”.
ورأى القائم بأعمال الرئيس حينذاك بوتين أفضل ما يمكن أن يحدث الفوز بالانتخابات الرئاسية في الجولة الأولى، لكنه لم يكن مدفوعا برأس المال السياسي، بل بالنفقات التي ستتكبدها البلاد لتنظيم الجولة الثانية: “يكاد يكون ذلك مساويا لما يتقاضاه جميع المتقاعدين في مقاطعة موسكو”.
في الممارسة العملية كان كل شيء أكثر تعقيدا. وسواء كانت هناك جولة ثانية أم لا، ظلت الأحداث متسارعة وفي ليلة 26-27 مارس كانت الأنباء تتوالى كل ساعة وتتغير النسب المئوية.
وفي الساعة التاسعة من مساء 26 مارس كانت نسبة بوتين 45.06%، أي مبتعدة بنسبة 5% عن النصر النهائي، ويقول المحللون إن فرصة إجراء جولة ثانية “جدية للغاية”. في الساعة 22:00 كانت النسبة 44.98% لصالح بوتين، 23:00 كانت النسبة 46.29%، ثم في 23:55 كانت النسبة 47.24%، وبحلول الساعة 01:00 أصبحت الفجوة حرجة بالنسبة للمنافسين وكانت نسبة الناخبين الذين صوتوا لبوتين 49.52، وفي الساعة 01:45 من صباح 27 مارس بتوقيت موسكو تخطى بوتين حاجز الخمسين بالمئة، وواصل تعزيز تفوقه فيما بعد. وفي الساعة 02:49 تم فرز نصف الأصوات، وبات من الواضح أن بوتين سيفوز من الجولة الأولى في انتخابات الرئاسة الروسية لعام 2000.
بيسكوف: آخر اتصال بين بوتين وترامب كان من أطول المحادثات في التاريخ
كانت النتائج النهائية على النحو التالي: مع نسبة مشاركة بلغت 68.7% صوت 52.9% من الناخبين لصالح بوتين، وحصل غينادي زيوغانوف على المركز الثاني، وغريغوري يافلينسكي على المركز الثالث.
وأصبحت إيلا بامفيلوفا في مكان ما من منتصف القائمة، وبحسب قولها فإن تجربة الحملة الرئاسية ستكون حاسمة في كثير من النواحي.
تتابع بامفيلوفا: “كانت تلك التجربة في ذلك الوقت بمثابة القشة التي أنقذتني من غياهب النسيان السياسي. في نهاية المطاف، ساعدتني هذه التجربة على إدراك أن هناك دائما مخرج من أي موقف، وأن الإيمان بالنفس وبنقاط القوة، وبالعمل الذي أقوم به ويثمر دائما. هذه هي المشاعر التي تعينني دائما في أصعب المواقف حتى يومنا هذا، بما في ذلك عملي على رأس هيكل حكومي عام معقد وفريد من نوعه، مثل هيئة اللجان الانتخابية في روسيا”.
المصدر: تاس