ذكرة سفر….
بقلم: مريم عرجون.الجزائر
إحساسي كعالم محطم يحاصره دخان ممزق، وأنا جسد نازف لا شيء فيه يستدعي الحِياكَةُ، تارة يجثم عابرا سكون الظلام المبهوت، وتارة ساحبا جسده المشلول الذي حنطته رفات الدموع على سكة رحلة سفر، سكة الكل فيها يتنظر، وبينما أنا في مقعدي الساخط، أستجدي وطني بعضا من ذَوْد، إذ ببروق عمري يتراخى، و يتساقط أشواط، أشواط بسبب الحائط، أرى مسافر على مسافر يبكي، والكل ذاهب وسيار، تاركا قصائد معلقة على أشجار عارية، دموعها تغرغرت في محطات ناعسة، وأبوابها دامسة يفزع لها الدرب، ازدحمت بالملايين، و وجوههم البائسة التي تحفظ عن ظهر قلب، و شحاذون حب تهشموا بالفؤوس فجنوا كجنون هتلر، وتقوسوا طويلا في محطات السفر، صوت المراثي لهم نازف، وصمت المراثي لهم نازف، والمئات من حقائب السفر تهرول مرتجفة في المطارات، والأرصفة التي أورثتنا الدمع العليل الذي قد كلحا، و هناك أيضا مئات المحطات المغبرة، والموحشة تقف ضاحكة من هياكل الجَوًى التي ترجو الخلاص من قُبلةٍ مشلولة مرتجفة على أكتاف تذاكر السفر، وما بين كل الرحلات المشلولة المغادرة، شحوب حقيبته وأنا، تائهين ما بين نقطتين، هو تأشيرة سفر للمدن الباردة، وأنا تأشيرة سفر لوطني، وطني الذي جاء بنبض قلبه فرسم نبض قلبي نبضان بالرغم أنه جاء متأخرا يوم كنت قتيلا مرتداً و تائها في حضرة الذاكرة، وكان كعمود إنارة يطل على مقبرة، غريب بيننا هذا التضاد هو راحل مني وأنا راحلة إليه، انه نزف بطيء للمشاعر، كيف ألُمُ أشواقي النائمة، و أقنعه انه وطني وأنا التائهة فيه، و هل خلقنا لهذا السفر؟
تذكرةُ سفرٍ أحجزها كي أزور وطني هاته الليلة، لأقضيها في عينيه وأتحرر من فوضى الشعور الذي لا يستوعبه جسدي، يوما فيوما، وشهرا فشهرا، انطفأت، انكسرت، اشتعلت، ثم اكتشفت أني أسافر لأفتش عنه في كل ليلة، و أني أزدادُ به تورطاً، وتعلقاً، وإدماناً، فأنا دونه جثة هامدة، وجسد تنقصه الحركة، و إن نضج المشاعر تختار ميعادها بعد عقم اللقاء، وأحيانا أمزق تذكر السفر هاربة منه إلى مدن الظلام كي لا أراه، لكني ألقاه عطرا سرى في حنايا، وطاف نبضا في دمي و أفقدني شرايين قلبي، فأطوف، و أطوف، وأطوف على السراط المستقيم الكفيف، مهزوزةً عاجزة أمام هذا الشلال الهادر من الشعور المخيف، النابض بي الذي عاد يرهقني، ويعصف بي، يجعلني أرتعش، ويضرب جسدي، بل يمارس كل أساليب الاضطهاد، فأتخبط بين جدران الشوق في هذا الليل الذي يشبهني، لأن قانون الحب عندي كعاصفة تجتاح صدري، أرغم نفسي على النوم عميقا، بعدما تركني وحيدا في الليالي المهلكات أمام شلال الشوق، أحمل سوى طيفه كي أتوحد به، وأحيانا أرى طيفه حزين إنه لا يبدو بخير، و حالي يسوء بسوء حاله، ليتني أحتويه لأقتل تلك المشاعر الحزينة التي تكدر صفوه وتبكيني، لست أدري يا شهي الحواس لكن هاك كتفي، اطلق لي عنانك وإن عجزت دعنا نبكي معا، احتويني، واتركني أتذوق مذاق الحب، وأنعش روحي، وأستنفذ كل طاقات الشوق، فإن طوفان الرغبة يجرفني، وتدفعني حرارة التاق، و جسدي يحتاج الكثير منك ليدفع صدع الحرمان، زملني بك، وتمرد داخلي، وأضبط تمردي بغمرة منك حتى يتحد فيها الجسدان بقلب واحد، فصوت الشوق تردده يزداد علوا ليخلق ضجيج شوق يشتعل، يسبب طوفانات تنزع الروح.
فيا طير الغربة في بعدك يولد فينا حنين طريد، فنغدو حيارى، والقلب العَاكِف شحاذا حافيا على بوابات ذاكرة فِي جوفها عَجَبٌ، فَلا عَجَبٌ إن كان وطني في مقلتيك الشهيتان، و ضبابهما الذي يغشي آلامي، و إعصار الشوق فيهما بعثر كليّ وبعثر عمري إلى رماد، فهلا اقتربت، و ذوبت في فمي حبتا الكرز من جديد، وعانقت متاهات صمتي، أدعوك لأن نقتسم الصمت، و الأسئلة، و كوب الشاي البارد، و صفحات الرواية المجنونة، تعال ننكر كلّما حولنا من خوف، و قتامة و غموض، و نلتقي مجددا في خلوة عشق لا و لن تنتهي إلا بمعصية حب أعمى، فهلا تغمرني بأقصى درجات الجنون حتى أتحرر من أعباء الضعف، و املأ صدرَ المسافةِ قرباً، و طف داخلَ قلبي كما تشاء، هذا القلبَ الذي يفيض بك الآنَ حضوراً بفيض من لهب، فاقترب وبح بأسرار الهوى وخذ القرار، لأحجز تذكرة سفر أزورك فيها الليلة، فأنا عندما أحببتك لم أتخذِ القرارَ بل كان كفرض صلاةٍ لا نقاشَ فيه.
وقل لي يا طير الغربة، كيف يرتاح الفاقدون في بعد عشاقهم؟