وطني الجديد…
بقلم الكاتبة الجزائرية مريم عرجون
أشباح تهوم عمياء حيرى لا هي بالنعيم ولا بالجحيم، إنهم الجثث الباردة على الدروب الشاردة، عاشوا وماتوا لا منتمين، فتلاشوا كذرات الغبار مع قهقهات الزمان، وبقايا الظلام، و في عصر التلاعب بالصور الخاوية، عصر الدراما الذي يظل سره المكنون لغز بلا جواب لتعاويذ دجال الزمن، و هذيانه المحموم المخضّب بالعواء، فتسرق الأيام أعمارنا، وشبابنا في لمح البصر، و لن تستطيع أن تقبض على تلك اللحظة الخاصة، مهما تربصت بها و طاردتها، لحظة نمو الأشياء، هي ترقبنا بسخرية بل بشماتة، تتركنا حتى ينال منا التعب، و الإنهاك تماما لنغفو موجوعين، وتلتقط هذه اللحظة الغامضة ساعات موتنا الصغير، لتنمو فيها الأشياء تكبر، و تتغير، ونحن نخوض معركة البناء للجزائر جديدة من خلال السعي، و طموحات الشعب الجزائري في استكمال التجارب الرائدة للأمة الجزائرية، و حين نفيق نفاجئ بالتغيير على كل شيء حولنا، و ربما فينا، نراه في جسد الوردة، و لون بشرتها، و أوردة قلبها الجميلة المعقدة، نلاحظه على أغصان الأكاسيا التي لفحها البرد، إذ تنهمر الأمطار الخضراء لتغسلها ثم تصبغها تماما، نفترسه في شعر قطتنا الصغيرة، وكمية الطعام المضاعفة التي تتناولها، وكذلك على شعائر شبقها، و تكاثرها، كما نراه في رؤوسهم الصغيرة الغارقة في الثلج الأبيض، و في قسمات وجوههم المتقلبة، حالهم كحال التغيير الذي يباغت هذا الوطن، ويباغتنا، و يحرر شهيق الشغف من صدورنا، فهو كمثل ذاك التغيير الذي يبدو في تفاصيل الأطفال، يطول شعر وطني قليلا، ويتهيأ لاحتمال عادة التمشيط الكريهة له، تتسع العينان، و يزداد لمعانهما، وترى الآذان تشرئب نحو موجات الموسيقى السياسية القريبة، و البعيدة، و معها يتمايل جسد الوطن الذي امتلأ، حين غفونا قليلا !
كما تزول الحروف الزائدة من سياقات عباراته القصيرة العذبة، و يكتسب الصوت رنينا محببا يرقص القلب لعلته، و فوضاه و تتسع خطوات السيقان، والجدران، والطرقات، و تتضاعف سرعتها يحدث هذا للوطن و نحن نيام دوما، توقظنا أقدامه الصغيرة و هي تنغرس في بطوننا، نفيق على آلام جميلة، و أياديه الصغيرة تقبض على شعرنا وحلمنا، وعمرنا تشده و تلويه بعنف طفولي، فتثير أصابعه ضحكاتنا، و هو يلتقط علبة الاماني يحاول فتحها، يناولنا واحدة و يحطم ثلاثةً، تنطلق أسئلتنا الكبيرة، و نحن نرقبه يحدق في أول بطيخة رآها و هي تقطّع، و يرى أول مرة شكلها الجديد بقلبها الأحمر الشهي، يكبر الوطن مثلنا و نحن نيام، ثم يستيقظ ليستثيرنا و هو يعبث بأزرار أجهزة التحكم بزمن الطفولة، والمراهقة، والشباب، والرشد، والشيخوخة، فيقطع متعتنا بما نشاهد، و هو يفتش بعشوائية في جيوبنا عن رحيل الزمن الضرير.
كنت أرى كل شيء يحدث أمامي، كنت أقبض على تلك اللحظات الخاصة بالتغيير رأيت العينين و هي تنطفئ لوطني و رأيت خطوط الجبهة و هي تنزف، و تتعمق أكثر، شاهدت اليدين و هما تضمران، و تبدآن بالارتعاش المزمن، لمحت مرة صدره و هو يتقلص، و يصدر أنينا وحشرجات بدت لي مؤلمة، كما لاحظت السيقان تصطك ضعفا، و هرما، و الخطوات تتباطأ، و تتمايل، و تخطوا بلا انتظام، حتى كبر الوطن وكبرنا لنموت متوضئين بحبه الكبير له.
هذا الوطن المهموم الذي يحمل الأخطاء المُرَّةُ ويحمل ضجيجه الحلو الذي يتغنى بمفاتنه الإِرّة، الجالس في دائرة موته، ولا يفارقه صوته الصارخ بالصَّحْوَةُ، و المنتشر كالعطر الجامح ما بين الكتفين، منشغل بغزل جزائر جديدة، و قوية، و في كل خيط تاريخا لأمة آنية، تقطع أشواطا في مسار إصلاحات الوطن والقافية، ومهما كانت رؤيانا مختلفة، ووجهات نظرنا إلا أن هناك إرادة سياسية عازمة، وحاسمة ومؤمنة بالتغير، لن تعود للخلف، ولا مكان للتراجع عندها، تحمل حمولةَ عظامنا التي تترجل من ثقافة “الكل يُعيب” إلى “الكل يكدح” وتنظف جمجمة الفكر المهمل ببقايا أغنية غاوية فينا، ويخرج الوطن من هاوية ذاوية.
وعلى قول أبو القاسم الشابي إذا الشّعبُ يَوْمَاً أرَادَ الْحَيَـاةَ… فــلا بــدّ أن يســتجيب القــدرْ، فنحن هم الشعب ونحن الحياة ونحن صناع الوطن.
فهل ترى يقبل الوطن أن يقاسمنا البكا اللافح لصموده، ونجاحه، وصعوده، وكل حالات بروده؟