قراءة في الفيلم الأردني فرحة للمخرجة الأردنية دارين سلام
بقلم :سعاد زريبي. تونس
لقد ارتبطت السينما دائما بهويات الشعوب وخصوصيات واقعهم و أحيانا حروبهم و أوجاعهم تلك هي قصة السينما الفلسطينية التي دفعتها الحرب الى أن تتخذ من مشهد العنف صورة رسمية في أفلامها . في هذا الاطار السردي العام للسينما الفلسطينية ندرس هاهنا فيلم فرحة للمخرجة الفلسطينية دارين سلام ،أخرج الفيلم سنة 2020 يصور الفيلم قصة طفلة اسمها فرحة فيلم تنقل المخرجة في الفيلم قصة فتاة فلسطينية عاشت في احدى القرى الفلسطينية أيام النكبة في 1948 .
فرحة هو اسم الطفلة الفلسطينية لكن نادين سلام جعلت من صورة الفيلم هي صورة فلسطين قبل أيام النكبة أثناءها و بعدها. فرحة هي فتاة صغيرة في مقتبل العمر ،كانت شديد التعلق بالتعليم و حبها دخول المدرسة بالمدينة و رفضها الشديد للتقاليد الريفية و خاصة فكرة تزويج البنات . تحلم فرحة بأن تصير معلمة و تفتح مدرسة بقريتها . يصور الفيلم ،في بدايته ، في لقطة عامة جمال الطبيعي للقرية في خضرتها ، في سكون بيوتها و هدوء سكانها و بهجة أطفالها من خلال تصوير العرس الفلسطيني. لكن لم يدم هذا الاستقرار الى اخر الفيلم اذ سرعان ما تنقلب مشاهد الفيلم بإنفتاحه على صورة دخول الإنكليز و الذي شكلت صورة الدخان الصادر من احدى عربات جنود المحتل أبرز المشاهد رمزية في دخول مرحلة جديدة في الفيلم ،في حياة فرحة و في حياة الفلسطينيين . دخان أدخل في الصورة بسوادها اختناق بصري ،قطع كل جماليات الطبيعة و كل معاني الحياة الساكنة . دخل على اثره سكان القرية في هلع مفزع فرق بيهم و هجرهم من بيوتهم . لم يكن هذا الأمر مصير فرحة اذ وصعها والدها في قبو و ذهب من أجل الانضمام الى المقاومة على أمل أن يعود .. هل سيعود ؟ و متى سيعود ؟ السؤال الذي لم نتمكن الى حدود اللحظة الحاضرة مصير والد فرحة .
لئن بقيت فرحة في نظر والدها في مأمن عن بطش الاحتلال و أسلحتهم الا أن وجودها في القبو جعلها وجها لوجه مع الحقيقة :حقيقة أعمال المحتل و حقيقة ما حدث للفلسطينين من قتل بشكل شنيع من خلال مشهد إبادة عائلة فلسطينية :الأب ،الأم و أطفالهم و تعذيب طفل حديث الولادة … تقرر بعدها فرحة فتح باب القبو وتخرج لكنها لم تجد أحد من افراد القرية :والدها ،صديقاتها أو جيرانها … هجرت كل العائلات ،افرعت من سكانها كما قتلت كل مباهج الحياة لكنها تقرر في النهاية أن تتطهر من وجعها ثم تبدأ رحلتها في الخروج من القرية … هل انتهت قصة فرحة ؟ ربما لم تنتهي قصة فرحة في عقول المشاهد الى جدود اللحظة الراهنة و حاصة أن الفيلم مستوحى من قصة واقعية لفتاة فلسطينية إسمها رضية . عاشت رضية هذه القصة ولكنها بعد أن قررت اللجوء الى سوريا نشرت قصتها من أجل حفظ ذاكرتها وذاكرة ما حدث لفلسطين في 1948
لئن مثل البعد التاريخي للفيلم أساس بناء الفيلم الا أن الفيلم تجاوز التوثيق التاريخي للمرحلة من أجل تصوير رمزي مكثف للصراعات الداخلية للفتاة تحاكي صراعات خارجية عاشها سكان القرية و مكانها و لكن إضرابات تاريخية جعلت الأحداث تغير مجرى التاريخ و الجغرافيا .
لقد استطاعت دارين سلام أن تحول القصة التاريخية الى تحفة فنية تجعل من الوجع و الأمل يتناميان في المشهد بشكل متواز و متداخل : ظلمة القبو و شح الحياة فيه و النور المنبعث من تحت الباب أو من نافذته ، العطش و نزول الغيث ، الطمأنينة و القلق ،الحصار و الإنتظار ثنائيات جعلت من الفيلم يحمل حقلا رمزيا كاملا يولد في وجه فرحة في لقطة مقربة و ينتهي بفلسطين في صورة رمزية القبو وساكنته في لقطة عامة .
في صورة كلاسيكية في تاريخ السينما اتخذت المخرجة من صورة العين من أجل تصوير شهادتها على ما يحدث حيث تلعب صورة العين في لقطة مقربة على الشهادة و الحقيقة .
يحتل مقطع القبو قرابة اثنان وخمسون دقيقة لم تعيشها المخرجة أو طاقمها وبطلتها فحسب بل مثل هذا المقطع بل لقد نجحت سلام في تحويل الحصار الى مشكل يعيشه المتفرج و الجمهور السينمائي . لم تكن فرحة وحدها محاصرة أو فلسطين فحسب بل دفعت المخرجة بالمتفرج العالمي داخل ظلمة القبو من أجل التعرف على حقيقة ما يحدث لكل المحاصرين أو كل من هجرت عائلتهم و تركوا في مواجهة أقدارهم .
لقد مثل الصمت و الظلمة الثنائي المفهومي المسيطر على المقطع لم تكسر سلطتهم سوى بصراخ الولادة أو بصوت اطلاق النار على العائلة في فناء المنزل أو صور المطر في ليل حالك . يجمل الصمت و الظلمة أمرين إثنين :الصمت العالمي إزاء ما يحدث للفرح الفلسطيني و الحياة الفلسطينية أما الظلمة فهي صوت الظلم و حقيقة الحصار التي تعيشه فرحة و فلسطين معا . لكن في مشهد رمزي تجد فرحة في نزول المطر و في فتحة النافذة مصدرا من أجل بل العروق من مواصلة الحياة و المقاومة . المشهد الذي يذكرنا بصورة الفانوس في أعلى لوحة غورنيكا لبابلو بيكاسو الشاهد على الظلم ،الحيف و جور الحرب.
حولت دارين القصة التاريخية الى قصة وجدانية وإنسانية تجمع الاثنين : الحقيقة ،الألم . حولت المخرجة الوثيقة التاريخية “النكبة” الى عمل فني مشحون بالرمزية من أجل زحزحة القضية من كل التجذبات السياسية الى قصة إنسانية كونية تشهد على ظلم الاستعمار و تصور المأساة التاريخية بشكل شعوري و انساني .