من طفل يكسر إلى سيريالي يلعب…
الشاعر عبد الاله الصالحي، يصدر ديوانه الشعري الثاني"سيرك الحب"
الناقدة د. فوزية ضيف الله
بعد مرور 18 سنة، يُغامر الشاعر العربي عبد الاله الصالحي، بإصدار ديوانه الشعري الثاني عن دار أوكسيجين، وسماه “سيرك الحب”. ربما ما بين العنوانين ثمة حيرة سوف ترهق القراء وكل الأصدقاء الذين أهدى لهم قصائده في هذا الديوان الثاني، كأنما ثمة سياق آخر ضد السياق، يريد عبد الاله التفرد بخلقه والاقامة فيه، على جهة السكن الشعري المجنون. فذلك الطفل الذي “كلما لامس شيئا كسره” صار بعد 18 سنة قادرا على تصور الحب سيركا، أي أنه لم يخرج عن مسارات اللعب الفني، وهو يتعلم أن منبع العبقريات الابداعية هو اللعب نفسه. كان الشاعر يلعب بالأشياء والكلمات فيكسرها محدثا طنينا وضجيجا حوله وحول من تصله أشعاره، فصار خارج المشهد، يُشاهد لعبة الحياة بما فيها من وجوه مختلفة، فيختصرها في “سيرك”. ربما لم ينتقل الشاعر من سردية الفعل الى سردية الفرجة، ومن مغامرة اللعب الى مغامرة المشاهدة، يحذق ترتيل التفاصيل بكواليسها، ويقلب أمواج الحياة بين حاناتها وشوارع مدنها الغريبة، يحاول استئصال الاحساس بالعدم، لكنه تمكن من شعره ومن حرفه ومن رسمه ومن خطواته في شوارع باريس المتلونة والبارعة في حذق اللعب.
يتمرغ الشعر في القمامة، عند الشاعرعبد الاله الصالحي، فيقول في حوار له جمعه بحسن عبد الموجود، نشر في القسم الثقافي بجريدة “عمان” ليوم 8 جويلية 2023: “قبل نشر ديواني الأول عام 2005، ألقيت ثلاثة دواوين في سلة المهملات”. ربما قد ينكر الشاعر ما خطت يداه، وذلك هو ما فعله عدة شعراء سابقين، من بينهم أفلاطون، فكلما طغت درجة الوعي بمسألة الابداع، كلما تنكر لمخلوقاته الشعرية، فأتلفها بأي طريقة كانت. يندرج كل ذلك في صف مخاض سيريالي، شحنته روح متمردة، وشخصية نبذت المألفوف، وجالست من الفكر والأدب ما جعلها تمتطي سحابة غريبة، في بلاد الغربة التي يحاول أن يتأقلم فيها مع ملامح اوروبية تدفع بحرفه نحو تأملات خارجة لتوها من قاطرة القسوة، اللامبالاة، الاختلاف، الاغتراب، ولكما لامسنا معنى من المعاني التي حولت الحياة في نظره الى “سيرك للحب”.
ان اقتران عبارة “السيرك” بالحب، في هذا العنوان، لا يبدو فقط عنوانا استفزازيا، لكنه يعبر عن معالم واقعة بين واقع ما عاشه الشاعر ويعيشه، وسيريالية ما يهرب اليها، يتحسس فيها جمالية هذا السيرك المخاتل. ربما للعنوان دلالات أخرى نفسية، وخاصة فلسفية، أولها أن الحياة المعاصرة قد صارت مسرحا وملهاة، بكل ما فيها من قبح ومن توحش ومن اغتراب، حتى أنه حول هذه المشاهد العنيفة انشائية شعرية، وكأنها حيلة في كسب الحياة. فعوض أن تلعب بنا الحياة، هاهو الشاعر عبد الاله الصالحي، يحولها الى سيرك متنقل، مشحون بالحب، على قياس اللحظة والعصر والمقام والمكان. كما لو أنه علينا أن نغير وجهة النظر، ويمكن أن نشارك في اللعبة حتى المتعة، فهذه ألعاب تفترض الجدية في أقصى هزلها، مثلما حدثنا عن ذلك الفيلسوف غادامار.
يتحول مفهوم المشاركة الشعرية في الحياة وما فيها، من مشاركة بريئة لطفل يكسر كل ما يُلامسه، إلى انشائية سريالية، تزداد غبطة بين سيرك وآخر، وتزداد قوة ونضجا بين خسارة عاطفية وأخرى. يمكن للشعر أن يكون سلاحا ضد كل الهزائم، وهو ترياق فيه الداء والدواء، ونبيذ ينعش ويسكر، لكن الشاعر العربي، صار مراوغا، يحذق كيف يموقع نفسه، وربما هو يستدعي كل أصدقائه للمشاركة في هذه اللعبة، لانه لا معنى للعب دون مشاركة، ولا معنى لفرجة دون مشاهدين.