الكاتب حسين الباردي في حوار مفتوح حول كتابه “دفاعًا عن الشعبوية”قيس سعيّد و الاسلام السياسي
شكّل الحدث الثقافي في تونس مؤخّرا صدور كتاب يبدو فريدا من نوعه في الفكر السياسي التونسي من حيث الموضوع وتناول طريقته.
الكتاب جاء بعنوان “دفاعًا عن الشعبوية”قيس سعيّد و الاسلام السياسي ومستقبل اليسار للكاتب الدكتور حسين الباردي.
وبالنظر لأهمية الموضوع المطروح وتماهيه مع الواقع السياسي و الاجتماعي استضفنا كاتب الكتاب في هذا الحوار .
1) دكتور أهنئك على صدور كتابك الجديد. هل يمكن أن تطلعنا على بقية إصداراتك؟
“دفاعًا عن الشعبوية” هو أوّل كتاب لي بالعربية. كنت نشرت سنة 2006 كتابا بالفرنسية تحت عنوان “إرادة الاستقلال” وعنوانه الفرعي : “جمعية القضاة التونسيين في مواجهة بطش السلطة”. هذا الكتاب منع من التوزيع في تونس ولم يرفع هذا الحجر إلّا بعد الثورة. في الحقيقة لمّا بدأت الاشتغال على “دفاعا عن الشَّعبوية” أنا كنت بصدد إعداد كتابين باللغة الفرنسية عن الثورة التونسية وأولي في نفس الوقت اهتماما خاصّا بالشعبويات اليسارية في أوروبا وأمريكا اللاتينية. ومع بداية الحملة الانتخابية الرئاسية لسنة 2019 فهمت أن الشعبوية كانت قد “دخلت” إلى تونس، وأدركت في ذات الوقت أن الكتابة في الشأن العربي ولجمهور عربي بلغة أجنبية هي بالضرورة كتابة نخبوية وإثراء مؤكّد للفرنسية على حساب العربية. كنت قد انقطعت عن الكتابة بالعربية منذ أكثر من عشرين سنة، بحكم استعمالي اليومي للفرنسية في إطار مهنتي ومعاملاتي الاجتماعية، الخ. انطلقت إذا في الكتابة بالعربية وطلبت من صديقي محمد شعيرات، دكتور اللسانيات واللغة العربية بجامعة باريس 8 ومترجم نصر حامد أبو زيد ونجيب محفوظ إلى الفرنسية، أن يعطيني رأيه بصراحة فيما إذا كانت عربيتي قابلة أم لا للقراءة والنشر، فكان الردّ بالإيجاب مع الحث والتشجيع على مواصلة الرحلة. وكان الأمر كذلك فواصلت البحث والكتابة لأكثر من ثلاث سنوات، وها أنا ذا أنشر كتابي والصديق العزيز قد رحل في الأثناء دون سابق إخطار ودون معاينة صدور الكتاب وقبل حتّى أن ندقّ الأقداح مرّة أخيرة على نغمات العبقري “ثيلونيوس مُنك”.
2) في أي نوع من الكتابة تصنف كتابكم الجديد؟
“دفاعا عن الشَّعبوية” ينتمي إلى صنف المقالة السياسية.
3) العنوان يبدو صادم الدفاع عن الشعبوية وكذلك مشخصنا قيس سعيد. هل هو اصطفاف فكري ام سياسي أم الاثنين ؟
سؤالك في الحقيقة يتفرع إلى ثلاثة أسئلة. أوّلاً “الصدمة” : هي في الواقع متوقعة وأصدقك القول مقصودة فقد توخيت ما يمكن تسميته تقنية “الخلع”. من غير الممكن احداث رجّة على مستوى الفهم السائد للشعبوية بالاكتفاء بالمشي على أطراف الأصابع. لابد، كما يقول نيتشه في أفول الأوثان، من “تعاطي الفلسفة كمن يضرب بمطرقة”. والعنوان اخترته بالتشاور مع صديق مختصّ في الصحافة وعلوم الأخبار كان قد لفت انتباهي إلى كون “الشعبوية من منظور مغاير” (العنوان الأصلي) أكاديمي ولا يفي بغرض “الصعق” والجذب الفوري للاهتمام. بعد نقاش ليس بالطويل قبلت المقترح وأضفت إليه “…ومستقبل اليسار”.
فيما يتعلق بالشخصنة، لا أحد بإمكانه اليوم انكار مركزية شخص الرئيس سعيّد في المشهد السياسي التونسي. نحن هنا بحظرة شعبوية حاكمة (بمعنى في الحكم وليست معارضة أو احتجاجية). هذا من جهة، ومن جهة ثانية وجب التذكير بأنّ الشَّعبوية تبنى ليس فقط أفقيّا وإنما أيضا عموديّا، أي أن مكانة الرمز الفرد، سواء كان اسمه “قائد” أو “زعيم” أو “مرشد”، تكون جوهرية في الديناميات الشعبوية. يكفي أن نلقي نظرة ولو خاطفة على أبرز الشعبويات التاريخية كي نتأكد من أهمية هذا البعد الذي تمثله القيادة الشخصية، بدءا بقرطاج حنبعل ومرورا بروما الأخوين تيبيريوس وكايوس غراكيس (رفائيل داؤون، حين ابتكرت روما الشعبوية، 2019) وصولا إلى حقبتنا الراهنة : جار بولسينارو (البرازيل)، فيكتور أوربان (المجر)، دونالد ترامب (الولايات المتحدة)، رودريغو دوتارت (الفيليبين)، رجب طيب أردوغان (تركيا)، فلاديمير بوتين (روسيا)، نيكولا مادورو “وريث” الزعيم هوغو تشافيز (فينزويلا)، نارندرا مودي (الهند)، مارين لوبين وجان لوك ميلنشون (فرنسا)، مانويل لوبيز أوبرادور (المكسيك)، رافائيل كوريّا (الاكوادور)، والقائمة لا تزال طويلة… ومهما يكن من أمر فإن قيس سعيّد لا يستأثر بكامل العنوان وإنما يتقاسمه مع الإسلام السياسي الذي يعيش حالة احتضار، أو ما يشبه الموت السريري، واليسار الذي أزعم أنه لم يستنفذ بعد طاقته الواعدة.
أمّا عن مسألة “الاصطفاف” فأنا لست ممّن يصطفون وراء أي كان مهما كبر شأنه. أُومِنُ فقط بالمساندة النقدية، مع وضع سطرين تحت كلمة نقدية، متى وجدتُ لدى السياسي الوطني-النزيه الإرادة الصادقة والقوية في الدفاع عن “شعب التحت”، أي الجماهير الشعبية والطبقات الدونية المستغلة والمهمشة والمفقرة. وأعتقد جازما أن الرئيس سعيّد تتوفر فيه هذه الشروط، النادرة للأسف في هذا الزمن الرديء، تحديدا لأنه لا ينتمي إلى ما أسميه “النخبة النظامية المتعالية” التي تدعي احتكار سندات الجدارة والمعرفة والتفوق وتحتقر من يسمّونه بـ”العوام”. لذلك وفي نفس الوقت الذي دافعت فيه بقوّة عن الرئيس سعيّد ضدّ خصومه، لم أتردّد البتة في نعته بالمحافظي فيما يخص المسائل المجتمعية (الميراث، حكم الإعدام، الحريات الشخصية…)، وهو ما حدا بي إلى توصيف الشعبوية القيسيّة بـ”الجانوسية” نسبة إلى الربّ الميثولوجي الروماني “جانوس” اثنيني الوجه خلفًا وأمامًا (ما يسمى بالفرنسية “بِيفرُنْسْ”).
4) تعرضت في كتابكم الى الشعبويات التونسية ألا تعتقد أن الشعبوية التونسية واحدة تعتمد نفس الاساليب تقريبا ونفس الخطاب؟
أحد الأهداف الرئيسية لكتابي هو تعويض مفرد الشَّعبوية بالجمع. لا وجود لـ”الشعبوية” في المطلق إلاّ لدى أعداء الشعبوية الذين يخلطون عن قصد بين الشعبوية اليمينية والشعبوية اليسارية بغاية اظهار الأخيرة كرديف للأولى ثم سرعان ما يقرؤون صلاة الميّت على الظاهرة بكاملها. ما أتفق فيه معك هو التقاء تفريعات الشعبوية في اعتماد نفس التقنيات، لا سيما الخطابية، المعتمدة في سيرورة “بناء الشعب” وقد أفردت لهذه القضية فصلا كاملا من الكتاب (الفصل الثالث). ولقد سميت هذه التقاطعات بـ”الحاوية الشعبوية”، شيء شبيه بـ”النموذج المثالي” لدى ماكس فيبير، ضمنتها التعريف الذي اقترحته لهذه الظاهرة الكونية باعتبارها “منطق سياسي يسعى إلى بناء الشعب أفقيّا وعموديّا، انطلاقا من الأسفل وعلى قاعدة التمييز صديق/عدو، نحن /هم، عبر الاتصال المباشر أو الافتراضي بالجماهير باعتماد أسلوب خطابي مبسّط لا يهمل الوجدانيات ويطرح نفسه بديلا عن هيمنة الأحزاب السياسية التقليدية والنخب النظامية المتعالية التي غالبا ما تتجاهل المطالب الاجتماعية الشعبية أو تعجز عن تلبيتها، الشيء الذي يفاقم الأزمة العضوية للدولة والمجتمع ويرشّح قوى الهيمنة النقيضة على إزاحتها من السلطة”. وإنه بالاستناد إلى هذا التعريف توصلت منذ 2019 إلى تشخيص ثلاث شعبويات تونسية رئيسية مع اسقاط الشعبوية اللبرالية-الزبونية التي مارسها نبيل القروي (“حزب قلب تونس”) من مجال اهتمامي، ليس فقط لأنني اعتبرتها آيلة لا محالة للزوال، في شكلها الذي تمظهرت من خلاله، بسبب هشاشة جذورها التاريخية (في تونس) واصطناعيّة قاعدتها الاجتماعية، وإنما أساسا لأنني لم أفرّق بينها والشعبوية المشهدية التلفزية التي كنت قد توقفت عندها في الباب الذي أفردته لدراسة “نمط إنتاج الخبر وصناعة الرأي العام”. وهذه الشعبويات الثلاث هي : الشعبويّة السلفيّة الإسلامية، من خلال شعبوية سيف مخلوف و”ائتلاف الكرامة”، التي اخترنا تسميتها بـ”الشعبوية اليمينية-الدينية العدوانية”، وشعبويّة الحزب الدستوري الحرّ التي وصفناها بـ”الشعبوية اليمينية الماضوية-الدستوريّة”، وفي المقام الثالث شعبويّة قيس سعيّد التي هي خليط من متناقضات تتأرجح بين الثوريّة والمحافظيّة، سميتها “الازدواجيّة الشعبوية”.
5) هل أضرت الشعبوية بالشعب التونسي وكيف؟
من أضرّ بالشعب التونسي هم من انقلبوا على ثورة الحرية والكرامة وعلى رأسهم طبعًا حزب النهضة الاخواني. هذا الحزب الرجعي العميل، بمعية حلفائه المتعاقبين، نكّل فعلا بالشعب منذ 2011 ودمّر الاقتصاد والبيئة وضاعف من نسبة البطالة الجموعية الدائمة، وكذا فعل بنسبة الفقر والفقر المدقع، وأغرق الدولة في الديون الكريهة وتسبب في عجز الميزان التجاري وتدهور قيمة العملة التونسية، فضلا عن نشر الدجل والجهل الظلامي والعنف الإرهابي، الخ. وقد استمرت هذه العربدة والشعوذة والممارسات المافيوزية إلى أن وُضِع حدّا لها بشكل رسمي يوم 25 جويلية 2021. هذا التذكير المبدئي ضروري لوضع الأمور في اطارها التاريخي. الآن ماذا عن الشعبويات التونسية منذ 2019 وهل ألحقت فعلا ضرر بالشعب التونسي ؟ لا أعتقد ذلك. فـ عبير موسي (وحزبها الدستوري الحر) مثلا كانت تحظى بشعبية لا يستهان بها بفضل اشهارها العداء، منذ الجلسة الافتتاحية للبرلمان القديم، في وجه الخوانجية (حزب حركة النهضة الاخواني) داخل البرلمان وفي وسائل الاعلام والتواصل اللااجتماعي ومن خلال وقفاتها الاحتجاجية واعتصاماتها وتعرضها للعنف اللفظي والمادّي… وفي مواجهة هذه الشعبوية اليمينية الماضوية انتصبت الشعبوية السلفية-العدوانية (سيف مخلوف وحزب اتلاف الكرامة) تعربد وتمارس شعوذتها الظلامية برعاية ودعم من الغنوشي وحزبه الإخواني. فكان الصدام بين هاتين الشعبويتين اليمينيتين الماضويتين. والحصيلة ارذال للبرلمان والسياسة في تونس. وقد بلغت درجة التعفن أقصاها لما سال الدم تحت قبة البرلمان الذي أَمَّ المتآمرين بنيّة عزل الرئيس سعيّد. حينها هبّت انتفاضة 25 جويلية 2021، مستهدفة بشكل يكاد يكون حصريّا النهضة الإخوانية ومقراتها في كل جهات البلاد. التقط الرئيس هذه اللحظة التاريخية الفارقة بواسطة تفعيل الفصل 80 (المتعلق بالصلاحيات الرئاسية الاستثنائية في حالة الخطر الداهم) من دستور 26 جانفي 2014 وقرّر إقالة الحكومة الفاسدة وتجميد البرلمان المهزلة ثم حلّه، وتنظيم استشارة شعبية وسن دستور جديد وشن حملة أمنية وقضائية على الفساد، الخ. وبذلك تمّ تكريس حكم الشعبوية القيسية التي هي الآن في طور المأسسة لا سيما عبر تركيز البرلمان الجديد وكذلك المرسوم عدد 10 لسنة 2023 المؤرخ في 8 مارس 2023 الذي يعبّد طريق الديمقراطية المجالسية. وعليه فإنه بالإمكان القول مع هيغل (كتاب “العقل في التاريخ”) أن تسارع الأحداث في الفترة الأخيرة في تونس كان بفعل “حيلة عَقْلٍ” لجأ إليها التاريخ لتجاوز انسداد الآفاق جميعها وليس فقط الأفق السياسي. الأدوات التي استعملها التاريخ، بدون أدنى وعي منها، هي : حزب النهضة الإخواني والحزب الدستوري الحرّ وحزب ائتلاف الكرامة، دون نسيان الاعلام المرئي الذي حقق الاخراج المشهدي للأزمة وللسقوط السياسي المدوّي. الآن إذا نظرنا إلى هذه التطورات الخطيرة من زاوية النخب السياسية والإعلامية والثقافية و”الحقوقجيّة” المهيمنة (هيمنة مأزومة تؤذن بوشوك حلول لحظة “دوران/تداول النخب” كما يقول فيلفريدو باريتو) يمكن بالفعل القول أن الشعبويات التونسية أضرّت بما سمّيتَه أنت “الشعب التونسي”، لأن هذه الأوليغارشيات تنتمي إلى خندق الخاسرين في المعادلة والشهد الجديدين، وهي بـ”طبيعتها” متخاصمة مع من تسميهم باحتقار نادر “العوام”، هؤلاء أنفسهم الذين يساندون بقوّة قيس سعيّد ويوفّرون له الدعم اللازم والخزان الانتخابي الضامن لمنحه عهدة رئاسية ثانية منذ الدور الأول. ولكن إذا اعتمدنا وجهة نظر التونسيات والتونسيين العاديين من أبناء شعب التحت (كنقيض لـ شعب الفوق من ذوي الامتيازات المادية و/أو المعنوية) فإنه لا ضرر، بل بالعكس نفع كبير وخلاص مبين.
6) في الفصل الذي خصصته للمساهمة في بناء شعبوية يسارية هل مازلت تعتقد ان اليسار قادر على الحكم وهو الذي لم يحكم طوال 50سنة؟
إذا كان المقصود بالسؤل هو أن اليسار لن يحكم تونس في المستقبل لأنه لم يحكمها في الماضي، فهذا رجم بالغيب يمكن أن ينقلب على قائله، باعتبار أن الشعب لم يُجربه (أي اليسار) كي يحكم عليه في حين أنه خَبِر ويلات اللبرالية والتعاضد البيروقراطي المفروض فوقيّا والنيولبرالية والإسلام السياسي المتحالف مع أدعياء الاجتماعية-الديمقراطية، وكل هذه الخيارات والسياسات (باستثناء الإنجازات البورقيبية) فشلت فشلا ذريعا في رفع التحديات الكبرى الاقتصادية والبشرية والاجتماعية والثقافية والبيئية…، بدليل أنها صيرتنا أشبه بالمتسولين على أعتاب المؤسسات المالية العالمية (رأس حربة الامبريالية المالي) والملوكيات العربية البلوتوقراطية، ولا داعي في ذكر بقية مؤشرات التخلف على المستويات جميعها… أمّا إذا كان المقصود هو التأكيد على صعوبة احتمال وصول اليسار إلى الحكم في المدى القريب وحتى المتوسط، بسبب معوّقاته الذاتية، فهذا ما أتفق معه تماما وكنت قد أكدت في كتابي على استحالة انجاز مهمة تثوير اليسار بالاعتماد على الذوات الفردية مهما كانت استثنائية طاقاتها وقدراتها الابداعيّة، وبالتالي لا مناص من تظافر كل الجهود أفرادا وجماعات ليس فقط من أجل “ترتيب البيت الداخلي” وإنما إعادة بنائه بالكامل انطلاقا من الأسس. وفي هذا الاطار طرحت في كتابي بعض المقترحات الفكرية والسياسية للنقاش بهدف بعث حركة شَعبوية يساريّة ثوريّة يمكن تلخيص مشروعها في كلمتين: الاشتراكية الإيكولوجية، علما وأن الديمقراطية التحتية (المجالسية) هي الصفة الملازمة للاشتراكية، والراديكالية هي بمثابة التوأم السيامي للإيكولوجيا. وهذا طبعا يفترض بشكل مسبق البدء سريعًا بإزاحة “مشايخ اليسار التقليدي” المحليين، والتخلص من المرجعيات “الأرثوذكسية” المتكلسة التي أساءت للماركسية الأصيلة أكثر مما نفعتها، والالتحام (وليس فقط الانفتاح) ميدانيّا، فعلا لا قولاً فقط، بكل الطبقات والفئات الدونية المستغلة والمضطهدة والمميزة طبقيّا وعرقيّا وجنسيّا، أو ما يسميه فراي بيتو “البوفريتاريا” بالشكل الذي يرسم بجلاء الحدود الفاصلة بين الـ نحن والـ هم، الأصدقاء والأعداء، وتبسيط الخطاب وتطويعه وشحنه أيضا بالوجدانيات الضرورية، واعتماد الوضوح الأقصى والايجاز الأكبر في صياغة برنامج التغيير الثوري باتجاه الخروج من الرأسمالية وحضارتها الاستخراجوية، الانتاجوية، الاستهلاكوية، وإعادة الانسان والطبيعة إلى قلب العملية الإنتاجية والاجتماعية… من الصعب هنا تلخيص كل ما ورد في الكتاب، ولكن هذا عموما ما يمكن اعتباره أحد مداخل ورشة التجديد وإعادة البناء التي طال انتظارها.
7) تحدثت عن شعب التحت كيف تعرف قرائنا على هذا المفهوم؟
فكرة تقسيم الشعب إلى تحت وفوق ترجع إلى العشرية الأخيرة من القرن التاسع عشر في الولايات المتحدة الأمريكية التي شهدت آنذاك تكوين حزب الشعب (بيبلز بارتي) في أوساط المزارعين الفقراء المهمشين بولايات الجنوب والغرب الأمريكي الذين نجحوا في التحالف مع عمّال المصانع بالشمال، وانتفضوا ضدّ التفقير والتمييز الطبقي والتهميش، مستهدفين بشكل خاص الافراط في مركزية السلطة الفدرالية واعتمادها الدغمائي على “معيار الذهب” في صك العملة وانتهاج البنوك استراتيجية إغراق المقترضين في التداين المتنامي واللامتناهي والترفيع المستمر في معلوم النقل من طرف بارونات شركات السكك الحديدية… وبشكل عام معاداة الأوليغارشية، أي النخبة السياسية والمالية والصناعية والإعلامية، التي تتركب ممّن “لا يعيشون بفضل عملهم” وإنما بواسطة استغلال قوة عمل الآخرين، أولئك “الذين ينتعشون ويزدهرون بدون أن يشاركوا في الإنتاج” ويمتهنون المضاربة والاختلاس والفساد. من هنا كان شعار الحزب : “المساواة في الحقوق للجميع، ولا امتياز لأحد”. يقول لنا الكاتب الأمريكي الشهير توماس فرانك أن الخطاب الشعبوي الأمريكي وقتها كان خطابا طبقيّا بامتياز مبني على تحالف مزارعي الجنوب ببروليتاريا الشمال الأمريكي (الشَّعبوية ذاك هو العدوّ : قصّة وجيزة عن كره الشعب والخوف من الديمقراطية من عام 1890 إلى زمننا الراهن، آغون، 2021).
هذا المفهوم لشعب التحت طفا على السطح من جديد في أمريكا بداية القرن الواحد والعشرين مع حركة “أوكيباي وول ستريت” (احتلال وول ستريت) التي كان شعارها الـ99 في المئة (من عموم الشعب العامل) في مواجهة الـ1 في المئة (من المليارديرات المتواكلين). وفي تونس يبدو أن شعب التحت يتركّب من العمال والعاملات والفلاحين والفلاحات الفقراء (بما فيه صغار البحارة) وكذلك الموظفين والموظفات الصغار والمتوسطين (ما يسمّى بالطبقة-الوسطى السفلى) والعاطلين والعاطلات عن العمل والمعطّلين والمعطّلات عن العمل من بين أصحاب الشهائد العليا والعمّال المهاجرين المستقرين بتونس والعمال التونسيين المقيمين بالخارج… الغالبية الساحقة من أفراد هذه الطبقات الدونية (سوبالترن) ينقسمون إلى أجراء شهريين لا يمتلكون وسائلهم الإنتاجية، أو عمال يوميين، أو خمّاسة أو عشّارة أو متقاعدين يتقاضون جرايات بخسة لا تكفي لاقتناء أدوية الأمراض المزمنة التي هم مصابين بها، أو عاطلين عن العمل يحلمون بامتطاء القوارب المتهالكة بحثا عن لقمة العيش بالضفة الشمالية للمتوسط حيث ينتظرهم الاستغلال “المتحضر” والعنصرية والتمييز والتشغيل السرّي غير المصرح به، هذا إن لم يكونوا قد تحوّلوا خلال الرحلة إلى مادة غذائية تقتاتها الأسماك…
لا وجود للشعبوية بدون رسم الحدّ الفاصل بين شعبي التحت والفوق بشكل جلي وثابت، أي مستمر في الزمن. تلك هي الطريقة الأنجع الكفيلة ببناء الفاعل السياسي الجمعي الذي سيتولى انجاز التغيير الراديكالي وتحرير العمل المأجور من عبودية رأس المال وحضارته التي شارفت على تدمير الكرة الأرضية بالكامل بعد أن شيأت الانسان ذاته بتحويله إلى “رأسمال بشري” يبيع نفسه المستلبة في سوق النخاسة النيولبرالية.
بالإمكان الاتصال بالكاتب على العنوان التالي:
populisme.bardi@gmail.com