رجل تحتاجه تونس أكثر من حاجته إليها.... - صوت الضفتين

رجل تحتاجه تونس أكثر من حاجته إليها….

أحب المفكر التونسي الجميل المازري حداد، فهو أنبل واجهة لتونس في أوروبا، قامة فكرية وسياسية رائعة، فهو فيلسوف وكاتب واستاذ جامعي وصحفي يملك ثقافة موسوعية راقية شغل منصب سفير لبلاده في منظمة اليونسكو ،واستقال من منصبه يوم قبل أن يغادر البلاد الرئيس الراحل زين العابدين بن علي في 14 يناير 2011.

بقلم: خالد سعد زغلول

 

صاحب الكتب والمؤلفات العديدة الهامة ومؤسس أحد أهم مراكز الفكرية في أوروبا ( المركز الدولي للدراسات الجيو سياسية والاستشرافية CIGPA).  يستحق الآن أن يكون إحدى مكونات النظام السياسي في وطنه لبناء تونس الجديدة فالرجل لا يسعى للمناصب ولا للثروة لكن الظرف الراهن يقتضي أن يلعب مازري الحداد دوره التاريخي في هذه الحقبة الحساسة من تاريخ البلاد والتي يتربص بها أصحاب الأجندات السياسية وبعض الدول التي لا تريد لتونس الخير.. ومازري حداد بما يملك من مقومات الزعامة والفكر وتراكم الخبرات التي لديه وشبكة العلاقات الدولية الروسية والأوروبية والعربية، التي يتمتع بها، قادر أن يكون إحدى السدود المنيعة ضد المتربصين بهذا البلد الطيب.

في الواقع ،شهادتي مجروحة في حقه لقربي منه ولحبي الشديد واحترامي الكبير له، فهو على المستوى الأخلاقي والإنساني من أرجل الرجال الذين عرفتهم في حياتي بعد أن كان صديقا لوالدي رحمه الله شيخ الفدائيين المصريين والمناضل الكبير سعد زغلول، عرفته من خلال مؤتمراته ومواقفه وكتاباته كما عرفته في اللقاءات العادية، عرفت عنه مواقفه الإنسانية والأخلاقية العديدة مع شخصيات تونسية وعربية أنقذها في فرنسا من محنتها وكل هذا يقوم به في تكتم وسرية لا يريد منها سوى مرضاة ربه.. ولم يكن يبيح بها لكني كنت اعلم ما يقوم به من بعض من ساعدهم، أما أنا فله معي مواقف نبيلة تحسب له لن انساها ابدا..اكتشفت في هذا الرجل التونسي والعربي الأصيل ،الإنسان الحقيقي الصادق والطيب، الرؤوف بالمظلومين والرحيم بالمساكين كريم النفس ونبيل الخلق، شديد التواضع تجاه الناس لكنه عزيز الكبرياء شديد المراس أمام علياء القوم فلا يخشى إلا الله، لا يعرف المجاملات حتى أنه رفض مصافحة سفير قطر في اليونسكو سنة 2011 ..وفي إحدى مؤتمراته التي يعقدها في باريس دعا وزير الداخلية كلود جيون فلما رأى الوزير الفرنس قد “لبخ”  في كلامه ضد ليبيا استلمه مازري ووبخه أمام الحاضرين واعطاه درسا في السياسة والاخلاق بل وانتقد فرنسا بشراسة في عهد ساركوزي ولم يستطع الوزير الرد خجلا وغادر القاعة غير مأسوف عليه.. مازري حداد رجل صادق نزيه وكم أضره صدقه ونزاهته في حياته كثيرا لكنه على العهد مستمر.. فالرجل غني عن التعريف وحياته كلها صراعات وكفاح فهو الرجل التي صقلته المحن.

 

أما تاريخه ومواقفه السياسية فمشرفين للغاية، فقد بقي مازري الحداد على مسافة من نظام بن علي عكس غيره من السياسيين وماسحي الاحذية المشهورين. فقد بادر في سنة 1989 بنقد سياسة بن علي القائمة على التفرد والشخصنة وتلك  نفس الظواهر التي اطاحت بنظام بورقيبة. في وقت كان معظم التونسيين يمدحون (صانع التحول) فكان بين 1989 و1991 من المفكرين القلائل الذين انتقدوا علنا في الصحافة التونسية الطابع الاستبدادي الذي نحاه النظام. فنادى بالحوار مع اطراف المعارضة واحترام الحريات الفردية وحقوق الإنسان. وبعد منعه من التعبير في تونس واصل نضاله في جريدة ليبيراسيون الفرنسية الوحيدة التي كان ينشر فيها مقالاته. بعد انتظار طال ثلاث سنوات تحصل على اللجوء السياسي في فرنسا سنة 1995. وكان يحظى باحترام جميع المعارضين التونسيين في المهجر ومن أبرزهم محمد مزالي رئيس الوزراء الاسبق وأحمد بنور، أحمد المناعي ، أحمد بن صالح، صالح كركر، راشد الغنوشي وفي تونس منصف المرزوقي، ومصطفى بن جعفر.

قال محمد مزالي عنه في مذكراته انه “العقل المدبر للمعارضة التونسية وكان أحد القلائل الذي دافع عني بعد خروجي من تونس سنة 1986 ولم يكن مازري الحداد دستوريا ولا انتهازيا من الذين فقدوا مصالحهم بسقوط نظام بورقيبة بل كان مفكرا حرا وطنيا يناضل من اجل حرية التعبير وحقوق الإنسان”. وفي كتاب الباحثة الكندية ليز جارون الصادر سنة 1998 بعنوان ” الصمت التونسي” أعتبرت مازري الحداد أهم مكونات حركة المعارضة لنظام بن علي. وفي حوار شامل نشرته صحيفة لوسوار البلجيكية ندد الحداد بالهوس المرضي للنظام من المعارضة ومن الخطر الإرهابي داعيا إلى ضرورة احترام الحريات وتكريس الديمقراطية التي أعلن عنها بيان السابع من نوفمبر. وفي أواخر التسعينات ،ساهم البشير بن يحمد مؤسس مجلة جون أفريك ووزير الخارجية في عهد بورقيبة محمد المصمودي في التقارب بين بن علي والمازري الحداد لدعوته للعودة إلى تونس بعد منفى طال 11 سنة والذي قطعه في عام 2000 أياما قليلة قبل وفاة بورقيبة حيث شيع الرئيس الأول للجمهورية التونسية مع كل التونسيين إلى مثواه الاخير. تعرض في كتابه (لم تهدم قرطاج) الذي نشر في باريس سنة 2002 إلى نقد النظام وتحديدا في مجالات العدالة والإعلام والتعليم كما لم يستثن وجوه النظام النافذين وانتقد بشدة  المعارضة التونسية وخصوصا الاتجاه الإسلاماوي الذين  اتهمهم بما وصل اليه النظام من انغلاق وغطرسة سياسية وواصل دعمه الحذر والمستقل لنظام بن علي معللا موقفه بتدرج البناء الديمقراطي ورفضه لدعوات الثورة خاصة الصادرة عن الراديكاليين. تعرض لحملة من رموز نظام بن علي بعد الانتخابات الرئاسية لسنة 2004 على اثر صدور مقاله في جريدة جون أفريك باللغة الفرنسية حيث قارن الجنرال بن علي بفرانكو ديكتاتور إسبانيا الفاشي داعيا إلى حوار سياسي مفتوح مع المعارضة الوطنية وعفو تشريعي عام عن كل المعارضين وعودة المهجرين بما فيهم الاسلاماوين. وكانت حملة بارونات التجمع عليه عنيفة فجاء الرد في نفس المجلة تحت عنوان -سفينة بن علي امنة لكن اين تذهب سفينة المازري الحداد- بعد جملة من الحملات المغرضة عينه الرئيس بن علي سنة 2009 سفيرا لتونس في اليونسكو ، كان منصبا شاغرا منذ سنة 1994 ولم يتأخر رد التجمع الدستوري الديمقراطي ومعارضي مازري الحداد في القصر لكن بن علي اتخذ قراره بتعيين الدكتور الحداد مندوبا دائما لتونس في منظمة اليونسكو. وفي 13 يناير 2011 أعلن مازري الحداد استقالته من منصبه كسفير لتونس في منظمة اليونسكو بعد خلافه مع بن علي حول إدارة الأزمة  التي كانت الشرارة الأولى لثورات الربيع العربي التي طالما تنبأ بها وحذر من مخاطرها على تونس والعالم العربي برمته.

استشرافه لتداعيات الربيع العربي

على مدى ثلاثين عاما ألف مازري الحداد كتبا وسلسلة من المقالات الاستشرافية تتنبأ بتصدر الحركات الاسلاماوية المشهد السياسي وبتغلغل أيديولوجية حركة الإخوان المسلمين في عالمنا العربي وحذر في كتاباته من هذا الخطر على أمتنا العربية والاسلامية حيث يرى ان الاسلاماوية خطر على الاسلام كعقيدة قبل أن يكون خطراً على الدولة والمجتمع. بل يعتبرهم أشد فتكا من أعداء الإسلام ذاتهم. وقد صدق فقد أفرزت هذه الحركات مجموعة من الارهابيين الذين أضروا الاسلام والمسلمين اشد ضررا.

وقبل شهرين من الانتخابات الأولى بعد ما أطلق عليها الثورة التونسية في 23 أكتوبر 2011 نشر الحداد كتابه (الوجه الخفي للثورة التونسية)  الذي قدمه المفكر سمير أمين ،والذي تنبأ فيه الحداد مسبقا بتدمير ليبيا وتونس ومصر واليمن وسوريا واستهداف الجزائر كما تنبأ بفوز الاسلاميين في الانتخابات التشريعية في تونس وفي كل العالم العربي وهو ما اعتبره آنذاك تفويضا من الإدارة الأمريكية لكل الحركات الإسلامية المسماة بالمعتدلة لاعتلاء سدة الحكم في بلدان الربيع العربي.  بدون ان يكون من انصار نظرية المؤامرة وبدون التنقيص من حدة الاسباب الموضوعية اجتماعيا واقتصاديا التي ادت إلى انتفاضة العالم العربي، اتهم صراحة الولايات المتحدة وامارة قطر التي لقبها بقطرائيل  بسبب انحيازهما ومساعدة الحركات الإسلامية للصعود إلى الحكم.  بالنسبة لمازري الحداد الربيع العربي هو مشروع الشرق الأوسط الكبير، مشروع المحافظين الجدد الذي بداه جورج بوش في العراق واصفا الرئيس اوباما بحمامة بأجنحة الصقور. وفي مقال نشر في الجريدة الجزائرية لوكوتيدان وهران استعمل عبارة الشتاء الإسلامي وخاصة الجملة الصادمة – الله أكبر وبرنار ليفي رسوله- وهو الذي وصف الربيع العربي بسايكس بيكو الثاني قبل المفكر المصري الراحل محمد حسنين هيكل بشهور عديدة والذي كان في الأشهر الأولى ينظر للربيع العربي في قناة الجزيرة.

 

في شهر يونيو 2012 أطلق مبادرته الشهيرة في 7 نقاط وجهها إلى الجيش التونسي لإنقاذ تونس من براثن الاسلاميين واتهمه آنذاك الرئيس المؤقت والمعين المنصف المرزوقي بالنداء الى الانقلاب. وبعد وقت قصير هنأ شعب مصر واشاد بما قام به المشير عبد الفتاح السيسي لإنقاذ بلاده من غطرسة الاخوان. فالمازري الحداد لم يدافع عن وطنه فحسب بل تحمل مشقة مسؤولية الدفاع عن ليبيا وسوريا ومصر واليمن أيضاً مثلما كان من انصار صدام حسين خلال غزو الأمريكي للعراق. وفي سنة 1991، كان الحداد عضو دائم في لجنة رفع الحصار عن العراق، التي كان يترأسها صديقه الشهيد طارق عزيز.

وبعد أكثر من عشر سنوات في المنفى بباريس، عاد مؤخراً الى وطنه العزيز، حيث استقبل بحفاوة كبيرة وقدم في مناسبات فكرية آخر مؤلفاته، كتابه الصادر في باريس بعنوان: (جهادي ضد الإسلام السياسي وحلفاؤه الأغبياء). وكتابه الثاني: (من صراع الحضارات الى حرب الإستبدال ) المتعلق بالأزمة الأمريكية الروسية بأوكرانيا، والذي قدمه له هوبير فدرين وزير الخارجية الفرنسي الاسبق.

وفي الختام ، أود أن أوضح بأنني عرفت مازري الحداد عن قرب حق المعرفة كصديق ،أحببت أن أقدم شهادتي في حق هذا الرجل الحر ذو المروءة والشهامة وأنا ابن المناضل الفدائي والزعيم القومي سعد زغلول أؤكد أن المازري الحداد قومي عربي ليس بالشعارات بل بالأقوال والأفعال والتضحيات التي لا يسع المكان لذكرها اليوم. وأعتقد كمصري وكعربي أن تونس اليوم في حاجة الى مازري الحداد أكثر من حاجته اليها.

شارك المقال

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *