ما الذي يجري في تونس ؟ فحاكمها غاضب، و شعبها غاضب، و طبقتها العاملة غاضبة، و شارعها منرفز، و نخبتها متوترة…الإضرابات تكتسح مواقع العمل ، و القضاة مضربون، و العاطلون مزمجرون، و الفلاحون منقسمون…رجال الأعمال خائفون و ربات البيوت متذمرات من غلاء الأسعار، و حتى مزارع الحبوب لم تسلم من النار…ماذا يحدث؟؟
بالأمس كان التونسيون معروفين بالهدوء و السلم حتى أنهم حصلوا على جائزة نوبل للسلام ، و كان الحوار يذوب خلافاتهم و يلين تشددهم، و فجأة تغيرت حالهم و انقلب سلوكهم من المرونة إلى الحدة و من اللطف إلى الغلظة. لم يعد يعجبهم شيء، و فقدوا الثقة في بعضهم، و أصبح مجرد الحوار عملية شاقة بل مستحيلة…و بالأمس كانوا يتصرفون في ثرواتهم القليلة بحكمة و رشد، و اليوم لا يترددون في تبديدها و الامتناع عن انتاجها أصلا…لا يكفون عن الاقتراض و طلب المساعدات و مع ذلك لا يتوقفون عن الحديث عن السيادة و الند للند… ند من مع من أيها الحالمين بعيون مفتوحة؟؟
يتحدث التونسيون في حلقات دردشاتهم التي لا تنتهي عن تميزهم و عن ذكائهم و عن سبقهم، و يقارنون أنفسهم بالبلدان المتقدمة و الأنظمة الديمقراطية…و عندما يقودون سياراتهم تحسبهم ممتطين حميرا في زحمة السوق، و عندما يكونون في مواقع العمل يتثاءبون من القلق و الكسل، و عندما يضطرون للوقوف في الطوابير يبحثون عن كل الوسائل للمرور بصفة موازية…أما إذا أخرجوا النفايات من منازلهم فإن أغلبهم يرميها في أول منعرج خارج منزله…
و يجد التونسيون متعة لا تضاهى عندما يناقشون القوانين و الترتيبات، و يتفنن جزء كبير من نخبتهم في التفلسف و التحذلق و التقعر لصياغة نصوص منمقة مستوحاة من دساتير أعرق الديمقراطيات لفرضها على واقعهم المختلف تماما، بل إن القيادات السياسية تعتبر نفسها مبدعة لنظريات جديدة و أفكار لم يسبقها إليها أحد، و عندما يكونون وجها لوجه مع نظرائهم الأمريكان و الأوروبيين يخفضون منسوب المكابرة و يلتزمون الحدود…
و للتونسيين مع الحاكم قصة عجيبة، فهم يخافونه و يعتبرونه ظالما في كل الأحوال لأنهم سمعوا جيل بعد جيل أن الحكام السابقين كانوا ظالمين غشومين و لاسيما البايات الذين تركوا بصمة التسلط و الظلم و القهر منقوشة في النفوس، و كذلك الزعيم بورقيبة الذي يحبونه لكنهم يلومونه على الانفراد بالسلطة مدة طويلة، أما بن علي فقد اقتلعوه من الحكم لأنه لم يستخلص الدرس من الحكم البورقيبي بل زاد عليه نهب أصهاره و أنصاره…و عندما أصبح الحكم ملقى على قارعة الطريق سلموه إلى المجهول نكاية في السلطة و امعانا في الانتقام منها…لكنهم وجدوا أنفسهم في نفس المكان، فلا هم أحسنوا اختيار حكامهم و لا هم خرجوا من دائرة الخنوع ثم الانتفاض!! و هاهم غاضبين على كل شيء و رافضين لحالتهم دون أن تكون لهم رؤيا لمستقبلهم. فما العمل؟؟
هل يفرزون منقذا ملهما من صفوفهم؟ أم يسترجعون شيئا من الرشد للحوار و الخروج من المأزق؟ أم ينتظرون النزول إلى القاع للاستفاقة؟ أم يواصلون حالة التشرذم و الحروب الدونكيشوتية؟ …إن الأمر بأيديهم و قد قال لهم ربهم الأعلى:” و لا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة “.