فدوى طوقان.. ورحلتها الصعبة - صوت الضفتين

فدوى طوقان.. ورحلتها الصعبة

صعبة كذكرياتها في “رحلة جبلية.. رحلة صعبة”، كانت بدايات الشاعرة الفلسطينية فدوى طوقان، فقد عاشت ابنة نابلس كل المتناقضات، فأقبلت عليها الدنيا في صغرها قبل أن تحاصرها العادات والتقاليد ثم قهر الاحتلال الإسرائيلي لتخط قصائد تنضح فرحا حينا وحزنا أحيانا كثيرة.

أبصرت فدوى عبد الفتاح آغا طوقان النور بمدينة نابلس كبرى مدن شمال الضفة الغربية عام 1917، لأسرة غنية وذات نفوذ، وتلقت تعليمها الابتدائي في مدرسة الفاطمية أوّلا، ثم العائشية من بعد، ولم تتجاوز مدة دراستها خمس سنوات، إذ حرمها بعض أهلها من مواصلة تعليمها، وفرضت عليها الإقامة الجبرية في المنزل.

 

المدرسة الفاطمية بنابلس التي تلقت فدوى طوقان تعليمها الابتدائي فيها (الجزيرة نت)

 
 

زهرة الفل
في روايتها “رحلة جبلية.. رحلة صعبة” تقول فدوى: “كان التواصل الوحيد الذي جرى لي مع الغلام هو “زهرة الفل” التي ركض إليّ بها ذات يوم صبي صغير في (حارة العقبة) وأنا في طريقي إلى بيت خالتي”.

و”حلت اللعنة التي تضع النهاية لكل الأشياء الجميلة” بعد أن فطن شقيقها يوسف للأمر، “وأصدر حكمه القاضي بالإقامة الجبرية، وهددني بالقتل إذا غادرت عتبة المنزل، وخرج من الدار لتأديب الغلام”.

كانت رياح العادات والتقاليد تعصف بفدوى، رغم أنها تنحدر من أسرة ثرية ومثقفة، وليس سهلا على فتاة في ريعان شبابها حينئذ أن تبوح بكل ما لديها، فآثرت الصمت على المجابهة، وتركت الأيام تحل عقدها.

التزمت فدوى البيت، وأضيفت هذه المعاناة إلى معاناتها السابقة من اعتلال صحتها وجفاء أهلها لها، فغلبتها الوحشة على نفسها، واستبدت بها الكآبة إلى أن عاد شقيقها إبراهيم من الجامعة الأميركية في بيروت، فرق قلبه لها، وعلمها قواعد الشعر والنحو والبلاغة، وشجعها على كتابة الشعر لما رأى فيها من مقدرة وحس مرهف، وكان نجاحها مبهرا لشقيقها المعلم ولعدد من شعراء عهدها.
وإبراهيم هو من خط بأنامله قصيدة “فدائي” و”موطني” التي أصبحت النشيد الوطني الفلسطيني. فكتبت فدوى قصيدة امتنان بعنوان “تاريخ كلمة” تمتدح أخاها إبراهيم.

استهلت فدوى كتاباتها بقصائد متينة، أرسلت بها إلى المجلات الأدبية في القاهرة وبيروت موقعة بأسماء مستعارة،  فنشرتها، وبذلك تعززت ثقة فدوى بنفسها وبما تكتبه، وانطلقت نحو المستقبل بآمال عريضة دارت في خلدها.

إلا أن هذه الآمال سرعان ما تحولت إلى آلام، فقد مات المعلم وهو شقيقها إبراهيم عام 1941، فخطت كتابها الأول “أخي إبراهيم”، وحكت به ممتنة له بكل حرف، وعادت من جديد حبيسة الجدران ومتشائمة، إلا من الشعر الذي عاهدت نفسها بأن يبقى رفيقها طوال الدرب.

 

 

تحولات الحياة
وتطلّب هذا العهد من فدوى، أن تبقى متواصلة مع الشعر والشعراء، فقرأت في شعر المهجر لإيليا أبو ماضي وعلي محمود طه، وأظهر ديوانها الأول “وحدي مع الأيام” (1952) مدى تأثرها الكبير بهؤلاء الشعراء الرومانسيين.

وخلافا لديوان “وحدي مع الأيام” الذي هيمن عليه الإحساس بالعزلة والكآبة العميقة التي ألمت بها عقب وفاة إبراهيم، فكان ديوانها الثاني “وجدتها” (1956) مختلفا تماما، عكس انبساطها بالحب والحرية التي طرأت على مجتمعها، وكذلك امتاز الديوان بغلبة شعر التفعيلة الذي أصبح الشكل السائد في شعرها منذ ذلك الحين.

وقد زامنت فدوى طوقان -كما يقول الشاعر الفلسطيني وابن مدينتها لطفي زغلول- مع ما طرأ من تحديث على القصيدة العربية العمودية التي انتقلت إلى القصيدة الحرة “التفعيلة”.

وبعد أن فقدت الشاعرة الفلسطينية الحب كما ظهر في ديوانها “أعطنا حبا” (1960)، حفزها ذلك على السفر إلى إنجلترا لدراسة الأدب الإنجليزي هناك عام 1962.

وما هي إلا سنوات حتى عادت فدوى من غربتها إلى الوطن، ولتنأى بنفسها عن ضجيج الخارج وحزن الداخل ومعاناة البيت الأثري القديم، بنت لنفسها بيتا في الغرب من مدينة نابلس، وأحاطته ببستان من الأزهار وأشجار النخيل كي تطلق فيه روح الفن والإبداع.

لكن هذه الفرحة والخلوة التي أرادتها فدوى لم تدم طويلا، فهي التي عايشت هزيمة حرب 1967، فتأثرت بالعمل النضالي الفلسطيني ومقاومته للاحتلال، وهو ما عزّز تواصلها مع المجتمع وعقد اللقاءات والانفتاح على الآخر.

وتحولت بقصائدها إلى الهم العام، بعد أن خيّم عليها الهم الخاص بوفاة شقيقها نمر في حادث سقوط طائرة، فرثته بقصيدة “أمام الباب المغلق” التي صارت عنوانا لديوان آخر لها.

وتناولت في شعرها في ذلك الحين تضحيات الفلسطينيين ونضالاتهم، وأصدرت ديوانيها “الليل والفرسان” و”على قمة الدنيا وحيدا”، وعبرت فيهما عن امتنانها لشهداء فلسطين وصمود أسراها رجالا ونساء، ثم نقلت مأساة مدينتها ونكبة أهلها وحزنها على شهدائها.
 

 
امتازت طوقان بالعقلانية بالفكر والسلوك، بعيدا عن الخرافات التي انتابت المجتمع النابلسي آنذاك

 
 

رحلتها الصعبة
ومما برز كثيرا في حياة طوقان هو روايتها الشهيرة “رحلة صعبة.. رحلة جبلية” (1985)، التي كانت عبارة عن الجزء الأول من سيرتها الذاتية، وتغطي الفترة الممتدة بين سنة مولدها وما قبل يونيو/حزيران 1967. وتحدثت فيها بجرأة كبيرة عن حياتها الخاصة، كما لم تغفل عن ذكر الحياة الاجتماعية والسياسية لمدينة نابلس وأطباعها “واختلافها مع  الكثير من التقاليد، التي أغلقت العلم والفكر التنويري الذي أحبته فدوى وامتازت به”.

وحاز كتابها ذاك على التقدير والإعجاب من قبل القراء والنقّاد، وفيه يقول الشاعر الفلسطيني سميح القاسم: “منذ أيام الراحل العظيم طه حسين، لم تبلغ سيرة ذاتية ما بلغته سيرة فدوى طوقان من جرأة في الطرح وأصالة في التعبير وإشراق في العبارة”.
وفي عام 1987 صدر ديوانها “تموز والشيء الآخر”، وأطلقت قصيدة “مراهقة”، وقصيدة “النورس ونفي النفي” المهداة إلى أرواح الشهداء دلال المغربي ورفاقها إلى جانب “مبارك هذا الجمال والعذاب”.
وكان ذلك العام هو عام الانتفاضة الفلسطينية الأولى، وكتبت فدوى قصيدة “شهداء الانتفاضة”، حتى إذا جاء عام 1993 صدر الجزء الثاني من مذكراتها بعنوان “الرحلة الأصعب”، وهو يغطي السنوات القليلة التي أعقبت عام 1967، ويتحدث عن نشاط فدوى السياسي والثقافي الوطني المقاوم للاحتلال، وعن علاقاتها بالشعراء من عرب 48.
وأخيرا وليس آخرا قصيدتها الغاضبة “من صور الاحتلال الصهيوني آهات أمام شباك التصاريح”، وفيها تصف كيف شتمها ومن معها الجندي الهجين بقوله: “عربٌ فوضى، كلاب…”
وفيها تقول:

ألفُ هندٍ تحتَ جلدي
جوعُ حقدي
فاغرٌ فاهُ سوى أكبادِهم لا
يُشبعُ الجوعَ الذي استوطنَ جلدي

وكان لهذه القصيدة وقع على المحتل الذي رأى فيها فرصة لمهاجمة فدوى، ومعاقبتها لكونها تحرّض على سفك الدماء، لكنها أدانته من فمه، ودعته لأن يقرأ ما يمليه شاعرهم المفضل حاييم بباليك في قصيدته “باركوخبا”، التي لم يجد فيها حرجا من دعوته الصريحة شرب دم الأعداء.
وامتازت طوقان بالعقلانية بالفكر والسلوك، بعيدا عن الخرافات التي انتابت المجتمع النابلسي آنذاك، خاصة في عرضها الدقيق والشامل للتمييز في النوع الاجتماعي، ورفضها التام لذلك التمييز في بلدها وخارجه، حتى إنها “أخذت على المجتمع الإنجليزي تقصيره عن تحقيق المساواة التامة بين الجنسين في مختلف ميادين الحياة”.
وفي عام 2000 أي قبل وفاتها بثلاث سنوات، صدر لها ديوانها الأخير “اللحن الأخير” الذي ظهرت فيها تأملاتها للحياة والحب والحرية التي شكلت جُل اهتماماتها.
 

أبيات من قصيدة “زهرة الفل” على القبر

 
 

فرحة الموت
ولكن الموت الذي لطالما تخوفت منه طوقان قد جاء، رغم أنه كان حاضرا في معظم قصائد ديوانها الأول “وحدي مع الأيام” موت إبراهيم، وموت الفراشة وموت العدالة.

وظلت شاعرة الحرية والتحرير -كما يقول الكاتب الفلسطيني علي حمد- صامدة إلى أن ألقى بها المرض على فراش الموت أياما وأشهرا عانت فيها فدوى ما عانت، حتى صعدت روحها إلى بارئها في الثاني عشر من ديسمبر/كانون أول عام 2003.
ولكن يبدو أن لفدوى حكاية أيضا مع الموت، فكان اشتياقها لأخيها إبراهيم حاضرا، ولربما كانت مشاعرها تفيض فرحا بدفنها إلى جانبه في قبر لمَّ شملهما معا، بعد غياب قصري استمر أكثر من ستة عقود. وخُط على قبرهما أبياتها الشهيرة من قصيدتها “زهرة الفل”:

كفاني أموت على أرضها
وأدفن فيها
وتحت ثراها أذوب وأفنى
وأبعث عشبا على أرضها
أبعث زهرة
تعيث بها كف طفل نمته بلادي
كفاني أظل بحضن بلادي
ترابا وعشبا وزهرة

لكن قبل هذا الموت، كانت” شاعرة فلسطين” نالت عددا كبيراً من الجوائز، جائزة رابطة الكتاب الأردنيين 1983، وجائزة ساليرنو للشعر من إيطاليا، ووسام فلسطين وجائزة كافافيس الدولية للشعر عام 1996، وغير ذلك الكثير.

شارك المقال

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *