قصة عروة بن الورد و سلمى الكنانية التي أضحت إرثاً عربياً
كان عروة بن الورد من أكرم العرب، وأحسنهم أخلاقًا، وكان من الفرسان المعدودين في الجاهلية، كما كان زوجًا محبًا مخلصًا وفيّا، ويظهر ذلك جليًا في قصته مع سلمى الكنانية.
سبي سلمى الكنانية:-
خرج عروة بن الورد في إحدى الغارات، فأصاب ما أصاب، وسبى امرأة من كنانة اسمها سلمى، وتكنى أم وهب، فأعتقها وتزوجها، ومكثت معه أكثر من عشر سنوات، وكان يحبها حبًا شديدًا، ويحسن معاملتها، وكان موقنًا أنها تحبه كذلك.
خوف سلمى على عروة من الغزو:-
لقد كانت سلمى تحب عروة وتخاف عليه، لذلك فإنها كانت تلومه كثيرًا على الخروج للغزو، وتطلب منه أن يكف، فهي تخشى أن يموت في إحدى الغارات، ولكن عروة كان مصممًا على الخروج للغزو، فهو يريد أن يخلد ذكره، وأن يجمع المال ليساعد الضعفاء والفقراء والمحتاجين، وقد خلّد عروة هذا الموقف المتكرر في حياته مع سلمى، بقصيدة من أروع القصائد، بيّن فيها رأيه ودوافعه في الغزو، وذكر رأي سلمى، وفيها يقول:
حيلة سلمى لتعود لأهلها:-
بالرغم من حب سلمى لعروة بن الورد؛ غير أن حبها لحريتها ولوطنها كان أكبر، لذلك احتالت على عروة حتى ترجع حرة، ولا تصبح من السبايا.
فظلت تطلب منه أن يحج بها، وتظهر له سعادتها؛ حتى لا يرتاب من طلبها.
فلما وافق، أعلمت قومها بموعد قدومهما للمدينة، وطلبت منهم أن يفدوها من عروة، وأخبرتهم أنه سيوافق لأنه لا يشك في رغبتها في البقاء معه.
حيلة أهل سلمى:-
كان أهل سلمى يخالطون قومًا بينهم وبين عروة مودة وكان يتعامل معهم دائمًا.
فاجتمعوا بعروة، وظلوا يسقوه الخمر فلما ثمل -سكر- طلبوا منه أن يفتدوا سلمى، وأخبروه أنه لا يصح أن تكون امرأة معروفة النسب من السبايا.
وبعد الفداء يمكن أن يخطبها منهم، وهم سيوافقون، وتتم الزيجة.
فوافق على أن يخيروها بين الفداء أو البقاء معه، فأشهدوا عليه.
فلما كان الغد، ذكّروه بالاتفاق وأحضروا الشهود، فلم يكن أمامه سوى الوفاء بوعده.
ولقد كان رد سلمى عندما خيروها بين البقاء معه والفداء كالصاعقة التي هزت كيان شاعرنا، فلقد اخترت أن تفارقه، ثم قالت بعين دامعة :”يا عروة أما إني أقول فيك وإن فارقتك الحق والله ما أعلم امرأة من العرب ألقت سترها على بعل خير منك، وأغض طرفًا وأقل فحشً، وأجود يدًا، وأحمى لحقيقة، وما مر علي يوم منذ كنت عندك إلا والموت فيه أحب إلي من الحياة بين قومك؛ لأني لم أكن أشاء أن أسمع امرأة من قومك تقول قالت أمة عروة كذا وكذا إلا سمعته ووالله لا أنظر في وجه غطفانية أبدًا فارجع راشدًا، إلى ولدك وأحسن إليهم “
فسلمى لم تفارق عروة لأنه سيء، بل على العكس، فقد مدحته، ولكنها تركته لأنها لا تريد أن يلحق العار قومها، وحريتها أغلى من أي شيء.
ماذا قالت سلمى عن زواجها بعد عروة ؟
بعدما عادت سلمى إلى قومها تزوجت بابن عمها، ولم يكن يحسن معاملتها كعروة، وفي يوم طلب منها أن تثني عليه كما أثنت على عروة، فأخبرته أنها لا تقول سوى الحق، وإنها لن تكذب، لذا فمن الأفضل أن لا تقول فيه شيئًا.
فصمم على ذلك وجمع القوم، ليسمعوا ثناء سلمى عليه، فإذا بها تقول :”أنعموا صباحا إن هذا عزم علي أن أثني عليه بما أعلم
ثم أقبلت عليه، فقالت: والله إن شملتك لالتحاف وإن شربك لاشتفاف وإنك لتنام ليلة تخاف وتشبع ليلة تضاف وما ترضي الأهل ولا الجانب”
فلامه القوم على ذلك.
ندم عروة بن الورد على سلمى الكنانية:-
إذا كانت سلمى قد أسفت على عروة كثيرًا ومدحته وأثنت على حسن عشرته، وذمت ابن عمها في المقابل، فلقد أسف عليها عروة أسفًا شديدًا، وندم على فراقها ندمًا شديدًا، وذرفت عيناه الدموع، وجادت قريحته بقصيدة رائعة سجل فيها قصته مع سلمى الكنانية، ومنها:
إن هذه القصة تكشف لنا البُعد الإنساني في حياة عروة والجانب الأخلاقي، فالرجل لا تظهر أخلاقه إلا عند معاملته لزوجه، فكيف إذا أحسن معاملتها وهي سبية! وكيف لو ظلت تثني عليه حتى بعد فراقه! ألا يجعلنا ذلك نجزم أن عروة كان حقًا كريم الأخلاق، ويستحق بجدارة لقب أمير الصعاليك!
عروة بن الورد في سطور:-
هو عروة بن الورد العبسي، الغطفاني، القيسي، المضري.
أما والده؛ فهو الورد بن زيد بن عبد الله بن ناشب من بني عبس القيسية المضرية، ينتمي إلى نسب أصيل معروف ومشهود له، وله في تاريخ قبيلته أثر لا يمكن محوه، فبحسب ابن الأثير، فقد كان للورد دوراً بارزاً في حرب داحس والغبراء الشهيرة بين عبس وذبيان، كما تصدى لمهمة قتل هرم بن ضمضم المري الذي تناوله عنترة العبسي في معلقته المعروفة.
والدة عروة غريبة عن عبس، فانتماؤها لقبيلة يمنية صغيرة مغمورة تدعى “نهد”، وهو الشيء الذي خلَّف في نفس عروة أثراً بالغاً، باعتبار أمه نزيعة (نزائع القبائل غرباؤهم الذي يجارون قبائل ليسوا منهم بحسب ابن منظور)، وهذا ما مثَّل طعناً في كرم منبت عروة، وهو الأمر الذي قد يكون أحد أسباب جنوحه إلى الصعلكة