جان بول سارتر.. الفيلسوف الفرنسي الذي كره فرنسا ورفض استعمار الجزائر - صوت الضفتين

جان بول سارتر.. الفيلسوف الفرنسي الذي كره فرنسا ورفض استعمار الجزائر

بعد حالة الاحتقان الشديدة التي شهدتها فرنسا إثر قتل المعلم الفرنسي صمويل باتي بعد عرضه رسوما كاريكاتورية مسيئة للنبي محمد -صلى الله عليه وسلم- على تلاميذه، وما تلاها من تأجج لخطاب الكراهية تجاه المسلمين بالعموم، ونتج على إثره طعن فتاتين محجبتين. بعدها، قرّر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الدفاع عن هذه الرسوم باعتبارها مثالا لحرية التعبير، فيما بدا وفق محللين تصعيدا للنبرة اليمينية من قِبل ماكرون تجاه الشرائح اليمنية المتزايدة في الداخل الفرنسي.
إثر هذا التصعيد، انطلقت حملة واسعة لمقاطعة المنتجات الفرنسية في عدّة دول عربية، معلنةً رفضها القاطع لأي إساءة تمس نبي الإسلام، الأمر الذي دفع إيمانويل ماكرون للتغريد بالعربية بقوله ” لا شيئ يجعلنا نتراجع، أبدًا. نحترم كل أوجه الاختلاف بروح السلام. لا نقبل أبداً خطاب الحقد وندافع عن النقاش العقلاني. سنقف دوماً إلى جانب كرامة الإنسان والقيم العالمية.”
وردا على تغريدته، جاءت ردود الفعل العربية والإسلامية رافضة بعمومها لهذه التغريدة، ولتصريحات الخارجية الفرنسية التي قالت إن دعوات المقاطعة جاءت من “أقلية راديكالية” ومطالبتها الفورية لوقف المقاطعة. على إثره، تتالت الردود من قبل المغردين الذين استدعوا إرث فرنسا الاستعماري، وانتقدوا “الخطاب الاستعلائي” على حد وصفهم.
وبعيدا عن الجدل الدائر حاليا، نستذكر الفيلسوف الفرنسي الراحل جون بول سارتر،  الذي كان مدافعا محبا لبلاده فرنسا، حيث قاوم النازية وشارك في الحرب العالمية الثانية، إلا أن أمرا ما قد تغير في حبه ذاك. إذ إن فيلسوف الحرية كما يُعرف، واجه إشكالات عدة مع سياسة أرضه في استعمارها للجزائر وغيرها من الدول، وكيف أثر ذلك على رؤيته لحقوق الإنسان، وعلى نقده لكثير من السياسات الفرنسية.

هل سمعت من قبل عن شخص يحب ويمقت الشيء ذاته في آن واحد؟ لا ريب أن ذلك قد يؤدي إلى الجنون أو -على الأقل- إلى الألم العميق، وقد يصبح الوضع أكثر سوءا إذا كان هذا الشيء هو وطنك. ذلك كان حال جان بول سارتر، فقد كان فيلسوفا فرنسيا ضد فرنسا، ونسلا فلسفيا لرينيه ديكارت وأحد معجبي أونوريه دي بلزاك، قاتل لفرنسا في الحرب العالمية الثانية، وكان أسير حرب في ألمانيا. إلا أن الحال تبدل بعد الحرب؛ فقد تحول إلى أشد منتقدي السياسة الفرنسية وأقساهم. فما السبب؟

عاين سارتر كيف كانت فرنسا -أرض الحرية والمساواة والأخوة- مفترسا استعماريا في الجزائر والكاميرون والهند الصينية (جزء من الإمبراطورية الفرنسية الاستعمارية في جنوب شرق آسيا). وفي الافتتاحية الأولى لمجلة “Les Temps Modernes” في عام 1945، أعلن كل من سارتر وعالم الظواهر موريس ميرليو بونتي أن أبناء المقاومة الفرنسية الذين قاتلوا لتحرير فرنسا في الحرب العالمية الثانية، والذين كانوا حينها في الهند الصينية، كانوا مثل الجنود الألمان؛ يقاتلون لأجل الفاشية. وكانت  باريس  تحمل بالنسبة له رمزا للحرية ضد آلية الفاشية، ولكن بعد أسبوع واحد فقط من وفاة هتلر، أرسلت باريس -المدينة ذاتها التي ارتبط اسمها بالرومانسية والحرية- قوات لارتكاب مجزرة دموية في مدينة “سطيف” الاقتصادية الجزائرية، وذبح الآلاف من الجزائريين. وفيما تلا من سنوات، واصلت فرنسا المتحضرة قمعها الوحشي للحركة المتصاعدة المناهضة للاستعمار، وكثيرا ما حكمت  بالإعدام على أفراد في المحاكم العسكرية.

صورة تجمع جان بول سارتر مع الثائر تشي جيفارا

وهو أمر دفع بسارتر إلى الإعلان صارخا “جميعنا قتلة” في عنوان مقالته عام 1958، وفيها كتب:
“في نوفمبر/تشرين الثاني 1956، قام فرناند إفيتون، وهو عضو في حركة مقاتلي التحرير (مجموعة عصابات أنشأها الحزب الشيوعي الجزائري)، بزرع قنبلة في محطة كهرباء حماة، وهي محاولة تخريبية لا يمكن بأي حال من الأحوال أن نساويها بعمل إرهابي. أثبتت التحليلات أن الحادث كان قنبلة موقوتة معدة بدقة بحيث لا يمكن أن يحدث الانفجار قبل مغادرة الموظفين، إلا أن ذلك كان بلا جدوى؛ فألقي القبض على إفيتون، وحكم عليه بالإعدام ورفض أي إرجاء للحكم، فأعدم الرجل. وبلا أدنى تردد أعلن هذا الرجل وأثبت عدم رغبته في قتل أي أحد، ولكننا أردنا أن نقتله وفعلنا ذلك دون أن يرف لنا جفن”.

لم تعد فرنسا بطلة للحرية بالنسبة لسارتر، بل كانت على النقيض من ذلك؛ مناهضة للحرية. فقد كانت تلعب لعبة مزدوجة؛ تحاول القيام بدور قيادي في خطاب حقوق الإنسان، وتقمع في الوقت نفسه السكان الأصليين للأراضي التي تستعمرها.

 في مقدمته لكتاب فرانز فانون لعام 1961 “معذبو الأرض”، قال سارتر إن فرنسا يجب أن تخلص نفسها من فرنسا؛ أي إن فرنسا، تلك الحرة المثالية يجب أن تفصل نفسها عن فرنسا الدولة الاستعمارية. وكان رينيه كاسين، أستاذ القانون الفرنسي، هو الممثل الفرنسي في لجنة صياغة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وعمل على تنقيح مسودته الأولى في السنوات التي تلت الحرب. ولا شك أن سارتر كان ليصاب بالغثيان إذا اطلع على هذا المشروع؛ لإعلانه أن حقوق الإنسان تفترض مسبقا درجة عالية من الحضارة، وبالتالي لا تنطبق على من هم في مراحل “بدائية” من التنمية. وذلك يفيد بأن حقوق الإنسان ليست لكل الناس، بل هي لأولئك الأكثر إنسانية.

(تذكر إعلان الخنازير في مزرعة الحيوان لجورج أورويل: “جميع الحيوانات متساوية، ولكن بعضها أكثر مساواة عن الآخرين”)

على أي حال، تذبذب سارتر لثلاثة عقود باتجاه فكرة حقوق الإنسان وبعيدا عنها، لأنه كان يشكك في نزاهة نظرية حقوق الإنسان تجاه أولئك المعذبين الذين يطلق عليهم  الشعوب “غير المتحضرة”. فإذا كان من أصدر الإعلان هي الإمبراطوريات الاستعمارية مثل فرنسا وبريطانيا، هل حقا سيكون إعلانا داعيا للسلام ومنصفا وحسن النية أم كان خلف تلك الابتسامة الإنسانية اللطيفة، مجموعة من الأسنان الحادة؟

إذا كان سارتر مجرد مفكر يساري، كان موقفه ضد النزعة الفردانية المطلقة ليكون واضحا؛ لكنه كان وجوديا كذلك، والفردانية أحد الأركان الأساسية للوجودية

كان سارتر يدافع أحيانا عن الإعلان لأنه رأى أنه على الرغم من تضييقاته، فإنه يعزز الحقوق الأساسية التي يجب أن يتمتع بها كل إنسان. وفي بيانه المعنون بـ”الإبادة الجماعية” في الدورة الثانية لمحكمة برتراند راسل الدولية لجرائم الحرب في عام 1967، أبدى قلقه البالغ إزاء حقوق الإنسان العالمية، وأدان الولايات المتحدة لانتهاكها حقوق الإنسان في فيتنام.

ولكن باعتباره ماركسيا، كان سارتر قلقا كذلك بشأن ما اعتبرها عناصر برجوازية مضمنة في الإعلان، خاصة الفردية المتطرفة، وهو ينتقد “البرجوازية” لاستخدامها طريقة تحليلية لشرح كل شيء، حيث يجب تقسيم كل واقع مركب إلى عناصر بسيطة. ويهدف التحليل البرجوازي إلى اختزال المجتمع البشري ليصبح عبارة عن أفراد معزولين. وقال سارتر في “Les Temps Modernes” إنه يعتقد أن هذا المبدأ ترأس الإعلان العالمى لحقوق الإنسان أيضا، إلا أنه عندما يفقد شعب ما أرضه وتجارته وجيله الشاب ولا يبقى معه شيء يملكه سوى نفسه، فإنه لا يحتاج إلى الفردية والممتلكات الخاصة، بل على العكس من ذلك، يحتاج إلى الجماعية بدلا من الفردانية، وإلى العودة إلى جماعته التقليدية وحقهم الجماعي في تقرير المصير.

وإذا كان سارتر مجرد مفكر يساري، كان موقفه ضد النزعة الفردانية المطلقة ليكون واضحا؛ لكنه كان وجوديا كذلك، والفردانية أحد الأركان الأساسية للوجودية. وفي محاضرته عام 1945 التي حملت عنوان “الوجودية هي الإنسانية”، أعلن أن “نقطة الانطلاق” الوجودية هي في الواقع ذاتية الفرد “ليس لأننا برجوازيون، ولكن لأننا نسعى إلى بناء عقيدتنا على الحقيقة”. وفي محاضرة “الوجود واللاشيء” (1943)، قال إن كل فرد مسؤول وجوديا عن خلق طريقته بالحياة والالتزام بها. وهو نوع من الوجود يسميه الفيلسوف اللاهوتي سورين كريكجارد التفرد أو الفردية. ويجب أن نلاحظ أنه بالنسبة لسارتر، يختلف التفرد أو الفردية عن الفردانية؛ فالنزعة الفردانية المتطرفة هي نفي أي هوية جماعية، في حين أن الفردية يمكنها أن تشمل كونك مع الآخرين.

سلافوي جيجك – مفكر يساري
ورغم أن سارتر ينتمي إلى الجانب الأيسر من الجدل حول حقوق الإنسان، إلا أن انتقاداته لا تتفق تماما مع المفكرين اليساريين المعاصرين مثل  سلافوي جيجك في كتابه “ضد حقوق الإنسان” (2005). يربط جيجك نظرية حقوق الإنسان مع الرأسمالية الليبرالية، تماما كما فعل سارتر، إلا أنه يولي اهتماما لظاهرة جديدة وهي ظاهرة التدخل الإنساني. فقد شهد نقاد مثل جيجك مؤخرا الطريقة المدمرة التي تتدخل بها الدول الغربية سياسيا واقتصاديا وعسكريا في بلدان العالم الثالث باسم الدفاع عن حقوق الإنسان.
 
وكما يقول جيجك: “من الواضح، على سبيل المثال، أن الإطاحة بصدام حسين تحت قيادة الولايات المتحدة، التي اكتسبت مشروعيتها على أساس إنهاء معاناة الشعب العراقي، لم تكن مدفوعة بمصالح سياسية واقتصادية فحسب، بل اعتمدت كذلك على فكرة محددة عن الظروف السياسية والاقتصادية التي يتم بموجبها تسليم “الحرية” إلى الشعب العراقي؛ وهي الرأسمالية الليبرالية الديمقراطية، والاندماج في اقتصاد السوق العالمي، وما إلى ذلك”.
 
لذلك ليس من السهل القول إن سارتر كان مع نظرية حقوق الإنسان مطلقا، ولا ضدها تماما. ويجب ذكر نقطتين حاسمتين: أولا؛ لنظرية حقوق الإنسان إمكانات إنسانية كثيرة، يمكن القول بأنها تحتوي على الأقل على بذور المساواة في الحقوق بين جميع البشر. ثانيا؛ إذا لم نولِ اهتماما كافيا تجاه المؤسسة الاستعمارية الرأسمالية لحماية مصالحها السياسية والاقتصادية، مع تجاهل حقوق الإنسان عندما تتنافى مع تلك المصالح، فإن نظرية حقوق الإنسان يمكن أن يساء استخدامها بسهولة من قبل تلك القوى.
يمكن القول إنه على الرغم من أن سارتر وناشطي العالم الثالث  قد ناشدوا حقوق الإنسان في مطالبهم المتعلقة بالمساواة والكرامة الإنسانية، فإن تاريخ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان يبين أنه في البداية كانت الحقوق مكتوبة من أجل الدفاع عن المواطنين الأوروبيين ضد إرهاب النازية، وليس للدفاع عن غير الأوروبيين ضد الاستعمار الأوروبي.
شارك المقال

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *