بين النّور و العتمة:”ليلة سمّامة الضوّاية”…
“على هذه الأرض ما يستحق الحياة”، كلمات تشدّك إليها شدّا وأنت تمر من أمام هضبة محمود درويش التي تطالعك قبل الدخول إلى المركز الثقافي للفنون والحرف بسمّامة، فعلا على سمّامة أشياء كثيرة تستحق الحياة.
رقصة علمي تونس وفلسطين على إيقاع الريح وبوح الفزاعات التي تزيّن أسفل الهضبة ومحيط المركز الثقافي ووقفة الأمنيين والعسكريين يؤمنون زوار الفضاء الثقافي والأمل في يقارع الحزن على أعتاب عيون الرعاة، تفاصيل تستأهل أكثر من حياة.
فصل آخر من حكايا الرعاة يولد من رحم التهميش والنسيان، وبعد عيد الرعاة وسوق سمامة يتجلّى الصمود والتحدي في “ليلة سمامة الضواية”، التظاهرة التي استنطق فيها الرعاة النور على تخوم العتمة.
حكاية جديدة تحيا الحياة في كل حروفها، ويتراقص الأمل في ثنايا إبداعاتها التي خلقتها نسوة زادهم الحلم وحب الأرض التي حضنت عبراتهم وضحكاتهم وصرخاتهم الأولى.
من أنقاض العتمة، نسج الرعاة في المركز الثقافي بسمامة خيوط النور التي امتدت لتعانق أنينهم وشكواهم وصدى أهازيج “الهطايا” وتماهت فيها الموسيقى التي تسربت إلى الجبل لتقارع أصوات الإرهابيين وأنفاسهم الآسنة.
هنا، غير بعيد عن جبل سمامة، تواجه الحياة عتمة تتلوّن وتتبدّل لتتّخذ في كل مرة شكلا جديدا، من الألغام إلى الإرهاب فالتهميش والعدم، هو سجال بين النور والعتمة، لا غالب فيه إلا الأرواح التي توشّحت بالأمل.
جولة بين تفاصيل هذه الأرض الصامدة وتيه بين التعبيرات المختلفة لكل زواياها، تقطعه أنغام القصبة حينما تملأ الأثير وتعانقها ايقاعات الطبل لتسري حالة من البهجة في صفوف الحاضرين، وصلة من العزف القادم من عمق التراث الموسيقي التونسي كانت دليلا إلى داخل المركز الثقافي حيث احتفى الرعاة بالرسام الهولاندي “فان غوغ” على طريقتهم.
ليلة سمّامة الضوّاية.. أكثر من تعبيرة
وفي جبل سمامة صدحت ذكرى “فان غوغ” عاشق الضوء وتشكّلت ملامح عرض فني حرفي تظافرت فيه عناصر الفرجة، ومن لوحته “ستاري نايت” أي ليلة النجوم المضيئة استلهم حرفيو الجبل ابداعاتهم.
سلال وتحف قدّت من الحلفاء وزرابي بربرية تروي قصصا كثيرة وحصير وتحف من الطين وحلي من العنبر والفضة وأوشحة وحقائب “تريكو” ومنحوتات حديدية، تلوينات مختلفة من الاقتباس عانقت النور غير مبالية بتجليات الظلام.
التراث البربري بمختلف تمثلاته كان حاضرا في ماجادت به قريحة الحرفيين الذين أوّلوا الخصائص الفنية للوحة “فان غوغ” دون أن يحرّفوا روحها أو جوهرها فصارت مزيجا من إلهامه ووحيهم.
عمل فني وحرفي ذو أبعاد تنموية شاركت فيه أكثر من سبعين حرفيّة ووشحته ملاحظات عديد الفنانين التشكيليّين والمصمّمين والشعراء والعازفين بإشراف من عدنان الهلالي وشيراز بلغيث اللذين اهتما بتفاصيل مشروع “ليلة سمامة الضواية” حتى تحوّلت الفكرة إلى واقع ترجمته التصاميم التي عرضت صبيحة الأحد عند سفح جبل سمامة.
وإن رسم “فان غوغ” طبيبه “بول غاشيه” الذي رعاه في المسافة الأخيرة من حياته، فإن “ليلة سمّامة الضواية” شهدت قافلة طبيّية نظّمتها الجمعية التونسية لمرضى السرطان بمشاركة أطباء اختصاص، قافة توافد عليها أهالي سمامة ينشدون الحق في الصحة.
حرفيات من بوزڨام والڨلاّل وفريانة والوسّاعية أوجدت أناملهن منتوجات من الحلفاء والصوف تعانقت مع منحوتات الفنّان يامن عبدلّي التي تزينت بنجوم الحلفاء التي خلقتها إيمان ميساوي لتسر اللوحة المعلقة الأنظار.
وللرسم والخزف نصيب من التظاهرة من خلال ما شكّله الشقيقان مجدي وشيماء عبدلّي، والـ”بريك دانس” و”الراب” أيضا حضران في هذه التظاهرة من خلال وصلة رفض صدح بها الثلاثي فارس وعوّاد ووسام الهلالي، راقصين على أنغام الطبل والقصبة رقصة تمزج بين “الحجالي” و”البريك دنسو” سمّوها “جالي دانس”.
وقبل يوم من عرض إبداعات سمامة كان الزّوّار القادمون من العاصمة والجهات الأخرى على موعد مع التاريخ من خلال جولة في آثار سبيطلة وموعد آخر مع الفرح مع سهرة فينية لرعاة سمامة.
وفي ريف الوساعية على سفح جبل سمامة كان الحضور وجها لوجه مع الحياة والأمل والفن، وفي رحاب المركز الثقافي تعانق الفن والطب والحرف وتذوّق الزوار وجبات طبيعية صُنعت من أجبان ومشتقات التين الشوكي وأطباق الحشائش البرّية وكثير من الحب.