“الإمام شامل” المجاهد الداغستاني
هو مُجاهد من المُجاهدين العظام في زمن إشتدت فيه حاجتنا إلى المجاهدين العظماء، تعرض للشهادة في مواطنها، وأَبَى إلا أن يغترف من كأسها الطاهر المطهر، لكنه مات على فراشه بعد ملحمة طويلة، ومعارك جليلة أذاق فيها الروس القياصرة الذل والهوان، وهُزموا أمامه مرارًا، هذا وروسيا آنذاك من القوى العالمية في الطبقة الأولى، وكانت في أوج عنفوانها وغطرستها، قد هزمت نابليون وتقدمت حتى دخلت باريس سنة 1816م.
مولده
والإمام شامل من داغستان، ولد في قرية منها سنة 1212هـ/1797م، ونشأ فيها نشأة الأبطال الفرسان، على أنه درس بعض العلوم على مشايخ من بلاده.
منذ أن دخل الشيشانيون الإسلام عمدوا إلى الدفاع عن الإسلام ورفع لوائه إلى يوم الناس هذا، ولم تفلح معهم كل محاولات التغريب والتنصير، وهناك شعوب دخلت قبلهم في الإسلام لكنها أجبرت على التحول إلى النصرانية كما إجتاحها الروس القياصرة مثل شعب الكرج (جورجيا)، التي دخلها الإسلام منذ عصر التابعين، لكن الشيشانيين أثبتوا أنفسهم.
صديقه في الجهاد
كان لشامل صاحب يكبره بخمس سنوات يُسمَّى غازي محمد ملا، وكان رفيق دربه، فكانا يدرسان معًا على المشايخ، ويدوران على المساجد، وابتدآ الجهاد معًا، وكان لبدء الجهاد سبب مؤثر، وهو أن غازي ملا رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام ثلاث مرات وهو يدعوه للجهاد ضد الروس.
والروس آنذاك هم الذين ابتدءوا بالاعتداء، حيث كانت القيصرة كاترين تملكهم، فأرسلت الجيوش إلى تلك المناطق، وتتابع القياصرة من بعدها على إرسال الجيوش.
لما رأى غازي محمد ملا النبي صلى الله عليه وسلم في المنام ثلاث مرات يأمره ببدء الجهاد، تحدث إلى الداغستانيين بهذا فأجابوه، وجاهد الروس ثلاث سنوات من سنة 1829م، ثم حوصر في بلدته غمري هو وشامل ومن معهما، فقتل غازي محمد ملا، وهرب شامل.
ثم استطاع أن يجمع فلول الداغستانيين ويبتدئ الجهاد ضد الروس سنة 1834م إلى سنة 1839م، وفي تلك السنة دلَّ عليه بعض أمراء الداغستان الخونة وحاصره الروس بقوة ضخمة فيها مدافع لم يكن يملك الداغستانيون شيئًا حيالها، حيث كان الروس يدكون البيوت بها دكًّا، لكن شاملاً استطاع الهرب أيضًا.
استمر المد والجزر بين شامل والروس سنوات طويلة، وقتل منهم جنودًا وقادة كثيرين، وهذا يعد عملاً رائعًا بالنسبة لقوة الشيشان الصغيرة أمام جحافل الروس، لكنه الإيمان الذي يصنع العجائب.
إنجازاته
ومن المعارك التي تستحق الذكر أن الروس أرسلوا ولي عهد القيصر في جيش فيه كبار القادة وثلاثون ألف جندي، كل هؤلاء توجهوا إلى بلدة صغيرة، فغطى الشيشان أبواب بيوتهم ونوافذهم بالطين، فصارت البيوت كتلة واحدة، وغيروا سقوف بيوتهم إلى سقوف خفيفة رقيقة وغطوها بالتراب لتبدو كأنها هي السقوف الأصلية، فكان الروس يقفزون فوق السقوف فيقعون في البيوت ليجدوا الشيشانيين المريدين أو المجاهدين في انتظارهم، فيعملون فيهم ذبحًا وقتلاً، فرجع الجيش خائبًا خاسرًا بسبب هذه الحيلة الذكية.
مكافأة مقابل رأسه
حينما رصدت روسيا 45,000 روبل للإيقاع بشامل، كتب شامل خطابا إلى الجنرال الروسي على خط المواجهة، يقول فيه: كم كانت سعادتي حين علمت أن رأسي تساوي هذا الثمن الضخم، ولكنك لن تكون سعيدا حينما أخبرك أن رأسك بل رأس القيصر ذاته لا تساوي لدي كوبيكا واحدا.
لكن شامل لم يكن يستطيع أن يصمد أمام هذه الحملات المتتابعة أكثر مما صمد، فقد بقي في الجهاد قرابة ثلاثين عامًا؛ لذا كانت نهاية قصة الجهاد العظيمة هذه أن إستسلم للروس بعد أن حوصر في خمسمائة من أتباعه فقط من قبل جيشٍ يُقدَّر بأربعين ألف جندي؛ لأنه رأى أن حقن دماء من بقي من أتباعه أولى له بعد أنه خانه عدد من أمراء الداغستان وخانته دولة الشراكسة القبرطاي، وسلم نفسه للروس سنة 1859م -بعد ممانعة كبيرة من بعض أتباعه- فأخذوه إلى روسيا، فبقي فيها مكرمًا تسع سنوات من قبل القيصر والقادة.
وفاته
توفي في المدينة المنورة في عام 1871م
ما زالت ذكرى الإمام شامل تعيش في وجدان وذاكرة الداغساتانيين، فلا يخلو مكان من صوره، ويسمون كثير من أبنائهم باسمه تيمنا به حتى اليوم. فهم يعتبرونه بطلا قوميا خاض محاولة بدت مستحيلة لوقف الزحف الروسي على أراضي مسلمي القوقاز.