الصراع الطيبي الاهناسى فى العصور المصرية القديمة
صوت الضفتين-تونس
تعتبر الحضارة المصرية من أعظم وأرقى الحضارات فى العالم القديم وذلك نظرا لما خلفته لنا من آثار عظيمة مازالت باقية تقاوم الدهر واقفة شامخة محدثة عن نفسها, فقد مرت مصر خلال العصور القديمة بفترات قوة وفترات ضعف, و كانت الامور مستقرة فى عصور معينة بينما شهدت اضطرابات ووقلاقل خلال فترات آخرى, من هذه الفترات عصر الانتقال الأول, حيث تقلصت سلطة الحكومة المركزية فى السيطرة على البلاد, وأُطلق على هذا العصر” عصر اللامركزية الأول حيث تزايد الوجود الأجنبي في البلاد حيث الهجرات الأسيوية وتسلل النوبيين إلى البلاد, وقد شهد هذا العصر صراع بين مملكة أهناسيا المدينة فى مصر الوسطى وحكام طيبة فى الجنوب.
تذكر بردية تورين 19 ملك من إهناسيا حكموا 409 عام خلال عصر الإسرة التاسعة, ويُرجع المؤرخ “مانيتون” أصل هذه الأسرة إلى مدينة إهناسيا , ويُرجع “بترى” أصل هذه الأسرة إلى الأصل الليبي مستندا في ذلك على وفود العناصر الأجنبية الى مصر في فترة الفوضى وإلى بعض الخراطيش التي ظهر أصحابها ملتحيين بلحى وشوارب قصيرة , بينما يرى محمد بيومي مهران أنها ترجع للأصول المصرية القديمة، وبدأت الأسرة عندما استأثر الملك خيتى الأول بالسلطة, حيث كان أمراء إهناسيا حكاماً محليين في البداية للإقليم العشرين قبل أن ينصبوا أنفسهم ملوكاً، ويبدو أن حكام الأقاليم الباقية اعترفوا بهم كملوك ومن بينهم حكام طيبة، وهذا تم في ظروف غامضة بعد الدخول في صرعات لم يتم الوصول إليها بعد، واكتسبوا شرعيتهم من كونهم ورثة شرعيين للعرش لملوك الدولة القديمة، ويدل على ذلك اتخاذ أثنين منهم لقب (نفر كا رع) وهو لقب الملك بيبى الثاني.
اما الاسرة العاشرة فتذكر بردية تورين 19 ملك في هذه الأسرة حكموا 185 عام, ومن الصعوبات التي تواجه المؤرخين في تلك الفترة أن المادة الأثرية الوحيدة لتتابع الملوك حتى بدأية الأسرة الحادية عشرة كانت بردية سات بطرس برج رقم (1116).
- تؤكد نقوش مقابر أسيوط أرقام 10،18،19 بأن ملوك إهناسيا قد قاموا برحلات قصيرة من آن لآخر حول بلادهم، فقد كان من الخطر أن يترك الملك مقر حكمه لفترة طويلة، لهذا السبب تقلصت سيطرت البيت الإهناسى إلى مملكة صغيرة في شمال صعيد مصر حيث تقع العاصمة.
- عندما بدأ حكام طيبة في توطيد سلطتهم اتخذوا من طيبة حاضرة لهم بدلا من العاصمة القديمة أرمنت مما آثار حفيظة حكام أرمنت فثاروا ضد حكام طيبة، مما جعل حلفاء طيبة يضربون الحصار حول ارمنت، فتحرك عنخ تيفي نحو أرمنت لتحريرها وفك الحصار عنها وقد نجح في ذلك، ثم عاد نحو الجنوب وقام بمهاجمة الجبلين (على بعد 18 كم شمال إسنا) حيث كان ” إيتي” حاكم الجبلين مواليا لحاكم طيبة, وقد نجح حاكم طيبة إنتف الثاني من السيطرة على الأقاليم الجنوبية الخمسة خلفا لوالده سهرتاوى إنتف الأول الذي استمر حكمه قرابه الخمسين عاما، ونجح في بسط نفوذه شمالا قرب أخميم(بانوبوليس) شرق النيل، كوم اشقاو(افرديتوبوليس) غرب النيل، أي حتى الإقليم التاسع شرق النيل، والإقليم العاشر غرب النيل، وكان المكسب الأهم في هذا الصراع هو السيطرة على أبيدوس تلك المدينة التي كان لها دورا تاريخيا ودينيا كبيرا ، حيث كانت تمثل قلعة الجنوب، ومن الأدلة الأثرية لهذا النصر المؤزر هما لوحتين لموظفين من عهد إنتف الثاني الأولى تخص موظف يدعى (ثاتي) الذي يذكر ان ملكه إنتف الثاني قد بسط سلطانه وسيطر على مصر العليا حتى ابيدوس، أما الثانية فهي تخص ضابط في الجيش الطيبي يدعى “جاري” والذى يؤكد امتداد النفوذ الطيبي حتى كوم اشقاو (افريدتوبوليس).
وتتلخص مراحل هذا الصراع فى الأتي:- - الصدام الأول
ورد في السطرين 72 ، 73 من تعاليم “خيتي” لإبنه “مريكا رع” أول أشاره للصدام الفعلي بين المعسكر الإهناسى والطيبي، فقد ذكر صاحب التعاليم “واتجهت (هاجمت) ثنى حتى حدودها الجنوبية، وغمرتها كفيضان كاسح، بالرغم من أن الملك المبجل مر(…..) رع لم يفعلها”
وقد لُوحظ أن الخطاب الذى وجهه الملك خيتي الأول لأبنه كان خطاب مختلط بمشاعر الذنب والفخار، وذكر هجومه العنيف على أبيدوس، ويضيف أن هذا الفعل لم يفعله سلفه، ويبدو أن المحاولة الفاشلة التي أُشير أليها كانت في عهد الملك مرى أي ب رع عندما كان ملوك إهناسيا يحاولوا بسط سيطرتهم على البلاد . - الصدام الثاني:
ورد في نصوص مقبرة حاكم أسيوط ” إيت إيب” إشارات عن الحروب التي خاضها حكام أسيوط إلى جانب إهناسيا ضد حكام طيبة وحلفائها، التي ذكرها النص بالأقاليم الجنوبية، ولا تخلوا نصوص تلك المقبرة من التهشير والتكسير الذى جعل من الصعوبة بمكان قرأه النص بدقة. - الصدام الثالث :
ظهرت بوادر الصدام الثالث عندما زحف “واح عنخ انتف” ليغزو “ثنى” ويبدو أن الملك خيتي قد عاصر هذا الحدث، وأنه كان في نهايةعهد حليفه ” إيت إيب” والدليل على ذلك أن النص الأصلي الذي يفتخر به ” إيت إيب” بانتصاراته على الطيبين وحلفائهم تم تغطيته بطبقة من الملاط، واستبدله بنقش آخر أقل حدة وأكثر تواضعاً لكى لا يثير سخط الأعداء، وهناك احتمال آخر أن الحاكم الطيبي استغل انتقال الحكم من الملك خيتي لأبنه ” مريكا رع” وعاود غزو “ثنى”، وقد ظهر هذا في نقوش مقبرة خيتي الثاني حاكم أسيوط في السطر رقم 10.
من خلال نصوص مقبرة خيتي الثاني بأسيوط يمكن استخلاص بعض النتائـــج :
-أن ثمة موقعة حربية حدثت، واشترك فيها الملك بنفسه، وأن مكان تلك الموقعة في مكان غير معروف في الجنوب، وقد دخل الملك الإهناسى إهناسيا المدينة مع حليفه حاكم أسيوط، وأن المدينة استقبلته محتفلة ومهللة.من المحتمل أن ما حدث هو استعداد لمعركة حربية، حيث لم يتضمن النص كلمات صريحة تدل على صدام عسكري بين المعسكر الطيبي والإهناسي، وأن حركة الأسطول كانت من الشمال للجنوب، وأن بعض سفن مؤخرة الاسطول فقد كانت في شمال أسيوط، أما القوة الرئيسية للأسطول فرست عند أسيوط، وهذا يوحى بعملية تطويق لأسيوط تم أعادة تنصيب حاكمها خيتي الثاني، الذى ربما اضطر إلى التقهقر شمالاً أمام زحف الطيبين.
من خلال نصوص خيتي الثاني حاكم أسيوط يمكن الخروج بنتيجة شبه مؤكدة وهى انتقال ساحة الصراع في ذلك الوقت نحو الشمال حتى الحدود الجنوبية للإقليم العاشر(كوم اشقاو حالياً) بعد أن كان في مدينة “ثنى” في عهد ” إيت إيب”
من خلال ربط المصادر ببعضها حيث سيطرة طيبة امتدت حتى الإقليم العاشر في ذلك الوقت، وأن الشطب كانت إدارياً يتبع أسيوط يمكن الوصول لنتيجة أن حكام أسيوط أصبحوا في موقف حرج، وأن أسيوط باتت مهددة من قبل المعسكر الطيبي، وهذا سبب غموض نصوص خيتي الثاني حاكم أسيوط، حيث لم يتم الإشارة صراحة إلى موقعة حربية أو انتصار حقيقي على المعسكر الطيبي.
لا يدل الضعف الذى أصاب المعسكر الإهناسى إلى أنهم هُزموا في معركة مع الطيبين في ذلك الوقت، بدليل أن الملك ” مريكا رع ” قد بنى هرمه في سقارة وأكمله، كما أن نصوص خيتي الثاني تعطى انطباعاً بأن أسيوط مازالت مستقلة في ذلك الوقت وتقوم بدور مهم في الصراع، وأن حاكمها(خيتي الثاني) يقوم بأعمال إنشائية في معبد “وبواوات” معبود أـسيوط كما ورد في السطور(20-21) من نصوص مقبرته، وقد احتفظ حاكم أسيوط بسيطرته على مناطق الإقليم الحادي عشر لفترة من الزمن توقفت خلالها المعارك العسكرية وسادت هدنة مؤقتة لالتقاط الأنفاس بالنسبة للمعسكر الإهناسى، والاستعداد بالنسبة للمعسكر الطيبي، ليدخل الصراع مراحل بعد ذلك في مرحلة أكثر خطورة وعنف، ومن المرجح أن تلك الهدنة تزامنت مع خليفة الملك “واح عنخ” وهو “نخت- نب-تب- نفر- انتف” حيث لم تذكر نصوص عصره أي معارك حربية مع المعسكر الإهناسى، ومن هذه النصوص لوحة لموظف يدعى” ثوتي” من ابيدوس التي تذكر اهتمام الطيبين بمناطق نفوذهم ومدها بالمواد الغذائية.
من خلال نصوص البيت الطيبي وحلفائه فقد خلف الملك الطيبي السابق الملك” منتو حتب الثاني- نب حبت رع”، وقد توفي الملك الإهناسى” مريكا رع” ووقع عبء مواجهة المعسكر الطيبي على خلفه الذى حمل رقم 9 في بردية تورين، ولم يظهر أسمه.
من المرجح أن إنتف الأول حرص على وجود سلام مع الشمال في بدأي ة عهده لكى يعزز من ويوطد حكمه، وأن أحداث معركة تانيس قد وقعت في فترة حدوث تمرد واضطراب في عهد الملك الإهناسي ” مريكا رع” الذى استطاع السيطرة عليه بمساعدة خيتي الأول في أسيوط، وقد أشارت البردية إلى موقع بحرى يسمى “جاري” في أثناء الحملة على تانيس، وقد ساد في تلك الفترة سلاما ظاهرياً، ويبدو ان الفترة التالية هي فترة صراع، وتذكر لوحة إنتف إلى تمرد في تانيس في العام الرابع عشر من حكم منتو حتب الأول، وقد ظلت الحدود ثابتة في هذا الوقت، ومن المرجح بأن الهزيمة التي حلت بملوك إهناسيا كانت في عهد نب حبت رع منتوحتب الثاني الذى أخذ لقب ” نب تا وي ” أي سيد الأرضين.
بقلم: د. محمد ابراهيم محمد, خبير الأثار المصرية