الديمقراطية في زمن غياب النخـب !!
صوت الضفتين_ أقلام_الضفتين_ الطاهر سهايلية
مستقبلها بعد الحراك الشعبي..
لا يزال الجدل قائما حول أولوية الحديث عن الديمقراطية في الجزائر، إذ يرى البعض، إن لم نقل الأغلبية وخاصة الفئات الحاكمة، باستثناء بعض الأطراف التي يمكن أن تحسب على التيّار العلماني، أن الحفاظ على الأمن والاستقرار في البلاد أولى من الخوض في نقاش حول الحريات التي تهدد باتساعها تلك الأولويات، خاصة بعد اجتياح أزمة كورونا البلاد، معطّلةً بذلك صدور مسودة الدستور المقترحة من طرف اللجنة التي عيّنها الرئيس تبون، يأتي هذا وسلسلة الاعتقالات لا تزال تحصد الأصوات والأقلام المستقلة.
يطرح هذا المقال عدة أسئلة، لكن سنحاول تلخيصها في سؤالين مهمين : الأول يتمحور حول سبب عجز الجزائر في إنتاج نخب وشخصيات مدنية يعول عليها في تجاوز أزماتها المتعددة وخلق البدائل التي تؤسس لبناء نهضة وطنية فكرية وتربوية وسياسية واقتصادية؛ أما الثاني فيطرح استفهاما حول المنهجية التي يجب تبنّيها للخروج من هذه الأزمة.
تبدو منظومة الحكم الحالية غير مستعدة للتغيير من الخارطة السياسية القديمة، خاصة بعد قبولها إعادة رسكلة أحزاب السلطة السياسية التي كانت في الحكم (جبهة التحرير الوطني والتجمع الوطني الديمقراطي)، في مقابل تأجيل النظر في اعتماد كيانات وليدة. بالتّالي أضحت مهمة النخب المجتمعيّة، على اختلاف توجّهاتها، فرض نفسها وتقديم بدائلها، حتّى وإن كانت مجبرة على تحمل مختلف التضحيات، عن طريق اقتحام الساحة السياسية بدل انتظار فتح المجال طوعيّا من طرف السلطة الحاكمة، والتي لم تعبّر عن أية نيّة في هذا الصدّد (وأن لا تنتظر السلطة أيا كانت أن تفتح لها المجال لتتحول إلى منافس حقيقي لها).
يمكن القول أن الفضاء الجزائري أصابه العقم منذ فترة طويلة، حيث لم ينتج طوال سنوات الاستقلال الكفاءات التي تشكل ما يعرف في الأدبيات السياسية والفكرية بالشخصيات الوطنية والنخب المفكرة والمسيرة للدولة.
في هذا الخصوص ينبغي فهم قراءة الوضع الراهن على أساس أن النظام الجزائري الحاكم منذ حكم الرئيس الراحل أحمد بن بلة حتى اليوم لم يفعل دور المؤسسات التي تنتج وتنظم النخب(الجامعات، الحركات، الأحزاب…)، بالعكس فإن الحكم الفردي المرتكز على هيمنة العسكر والأجهزة الأمنية كان السبب الجوهري في عدم توفير المناخ الذي تنشأ فيه النخب التي تفكر وتسيّر شؤون الدولة جماعيا، وذلك في إطار مجتمع مدني حر وأحزابوطنية ديمقراطية.
تمثّلت المشكلة الكبرى التي ما فتئت تواجه الجزائر منذ الاستقلال في غياب مشروع وطني طوال مرحلة الاستقلال يمكَن من تكوين النخب بشكل يسمح لها بقيادة الشعب وبناء أسس الدولة العصرية، فالنظام الجزائري حارب كل المبادرات والجهود الرامية إلى تأسيس وتفعيل مجتمع مدني حقيقي ومستقل؛ فضلا عن ممارسة هذا النظام لعمليات شراء ذمم الرموز الوطنية التي تبرز هنا وهناك.
الأمر الذي ساهم في إجهاض ولادة القيادات المدنية المتشبعة بالفكر الحديث وبنظريات العصر الحالي في مختلف الميادين وعلى مستوى كامل التراب الوطني. كما أدى ذلك – ولا يزال يؤدي- إلى تضييع فرص تشكيل الهياكل التنظيمية وإنتاج الرؤية السياسية المتطورة ورسم البرامج الاقتصادية والثقافية والفكرية التي توفر المناخ لنهضة الدولة.
- الديمقراطية كمخرج للجزائر من كل الأزمات
لم تكن هناك معارضة قوية في الجزائر.. لا عن طريق البرلمان المفرغ من المعارضة والذي كان مذبحًا للديمقراطية تمارس فيه الكتل السياسية أكاذيبها وأفكارها البائسة وتحقق من خلال مصالحها الضيقة، ولا عن طريق مجلس”الأيادي المرتعشة”، وبالتالي فالديمقراطية التي نعيشها اليوم هي نسخة قديمة يجب أن نطورها بالأفكار والبرامج والتصورات والإنجازات والتشكيلات الجديدة لإحياء العمل السياسي وخاصة بالتنظير، هذا في حالة ما إذا أردنا أن نتكلم عن الجزائر كاستثناء عربي_ إفريقي، فعلى مر التاريخ لم تكن هناك ثورة بدون نظرية ثورية ولا عمل سياسي بدون نظرية سياسية التي يتبناها الحزب السياسي، وهذا الأخير (العمل السياسي) يقاس بالنتائج لا بالأقوال.
مشكلة الأحزاب السياسية في الجزائر أنها تفتقد لرؤية سياسية وإستشرافية ناضجة (خيالها ميت)، وغير قادرة على صياغة نظريات جديدة تتماشى مع الواقع الحالي وتحولها لمادة حيوية بحركتها.
لا نستطيع أن نبني ديمقراطية بنظام فاسد ونخب شاركت وساهمت في انتشار الفساد، نخب أكل عليها الدهر وشرب، نخب مازالت تعتقد أن الديمقراطية هي آلية انتخابية في صناديق الاقتراع، نخب سياسية وإعلامية وأخرى فاعلة في المجتمع المدني من خلال الجمعيات والنوادي لا تزال تنتج الرداءة وتمارس التطبيل والتهليل والتهييج ولا تملك البديل ولا تقدر على صناعة الرأي والتأثير في الأحداث لدرجة فقدان مكانتها ومصداقيتها وأضحت عبئًا على المجتمع.
لقد إعتبر الكاتب الصحفي التونسي، الصافي سعيد، في كتابه “عودة الزمن الإمبراطوري” الديمقراطية ابنة السوق الليبرالية، واضعًا لها عدة زوجات حيث قال: ” إن الديمقراطية لديها زوجات متعددة، تتزوج زواج الخدعة بعد المال، وزواج المنفعة مع الإقطاع الحزبي، وزواج المتعة مع النخب”، يبدو من خلال الكاتب أن الديمقراطية لم تتجه لا للإقطاع أو حتى للبرجوازية ولا للبروليتارية ولا الحكم الشيوعي أو الاشتراكي.. فقط هي ثمرة من ثمرات السوق الليبرالية، والمعروف أن هذه السوق تتعامل بالمال، وبالتالي المال جزء لا يتجزأ منها، إذن لا يمكننا أن نتخيل سوق بدون مال أو بورصة مال، كما لا يمكننا أن نتخيل أو نقول على أنفسنا بأننا ديمقراطيين ونحن لسنا أحرارا في الفكر والمبادرة والتنظيم والملكية والاختلاف وفي كل شيء.
إن المال يقوم بدور كبير في بناء الديمقراطية وهو مقوم أساسي لها. فالديمقراطية لا يمكنها أن تعيش في البلدان الفقيرة فهي بحاجة للمال لكي تتقدم وتتطور وتنمو أو بالأحرى بحاجة لشعب غني يمتلك مالا، أي جزء من الرفاهية، فلو نقيس الديمقراطية مثلا حسب معطيات الأمم المتحدة فالبلد الذي لا يتعدى دخل الفرد فيه 7000 – 8000 دولار سنويا لا تنمو فيه الديمقراطية،
وهكذا نرى أن الديمقراطية لا يمكن إلا أن تتجه نحو الانحراف وعندما تنحرف تتزوج من “الإقطاع” الحزبي ومن النخب القديمة والبائسة وهذا ما حصل في الجزائر، وعليه فالديمقراطية لا تعيش إلا بالمال وفي أرض الرفاهية وبعناية خاصة وباستحداث الأفكار والتصورات وكاريزما الشعبية والحزبية والمؤسسات القوية ومستقلة وبالإعلام الحر (سلطة رابعة وخامسة وسلطة السلط).
إن مستقبل الديمقراطية في الجزائر لا يزال بعيدًا إذا كنا نعتقد أننا نصنعه بأيدينا فقط فإننا واهمون..أما إذا كان من صناعة الغرف المظلمة والأيادي المرتعشة محتكري السلطة فإنه لن يكون حامـــلاً لأي إغراء كما لن يكون أكثر بهاءً من الماضي القريب.
إن الديمقراطية هي المرحلة الفارقة في تاريخ البشرية حتى هذه اللحظة، ومن خلال ما تمر به الجزائر من ثورة حضارية وسلمية فإن لم تكن قوة – الديمقراطية- من أجل تحرير طاقات المجتمع وتحرير العقول وإعادة توزيع الثروات والسلطة والفرص وإعادة صياغة الحياة السياسية ونظام الحكم ككل بطريقة عادلة، فإنها لن تكون إلا نظامًا كابحًا لأي تقدم وتنمية حقيقية.
الكاتب الصفحي الجزائري: الطاهــــر سهايلية