الكاتب و المحلل السياسي نزار الجليدي يكتب: تونس–فرنسا: علاقة تتآكل بصمت..

رسميًا، لا شيء تغيّر في العلاقات بين تونس وفرنسا: البعض يتحدّث عن تعاون، وآخرون عن صداقة. لكن في الواقع، العلاقة جامدة. فرنسا تنتقد، تتردّد، تراقب؛ وتونس تمضي مع من يحترم سيادتها. بينما تعزّز إيطاليا حضورها الطاقي وتُحصّن الجزائر الجانب السياسي الإقليمي، تكتشف فرنسا حقيقة أثبتها الميدان منذ سنوات: تونس لم تعد تبعية دبلوماسية، ولا امتدادًا للجدل الفرنسي الداخلي.
يكفي الاستماع إلى البلاغات الرسمية للاعتقاد بأن العلاقة التونسية–الفرنسية تمرّ بـ”مرحلة حساسة”. لكن الحقيقة أعمق بكثير. من جهة، تُكثر باريس من إصدار الأحكام حول الوضع الداخلي التونسي، وتُفسح المجال لـ”معارضين” مقيمين في فرنسا، وتتصوّر نفسها ما زالت حكمًا لمرحلة انتقالية لم تعد تفهمها. ومن جهة أخرى، تبنّت تونس دبلوماسية سيادية، مركّزة على مصالحها الجوهرية: الاستقرار الداخلي، الأمن الإقليمي، الشراكات المفيدة، ورفض أي وصاية أخلاقية أو سياسية.
هذا التباعد ليس جديدًا. فقد تكرّس يوم توقّفت تونس عن انتظار الإذن الفرنسي لبناء تحالفاتها. الجزائر أصبحت شريكًا استراتيجيًا، وإيطاليا حليفًا عمليًا — في الهجرة والطاقة والاستثمارات — وأوروبا الجنوبية أعادت ترتيب أوراقها دون أن تجد باريس مفتاح العودة إلى اللعبة. حتى الاقتصاد يروي هذا التحوّل: فرنسا ما زالت المستثمر الأول، لكن المشاريع الإيطالية والصينية والجزائرية هي التي ترسم اللحظة الديبلوماسية والتجارية التونسية.
بعيدًا عن الروايات العاطفية — وربما المتخيّلة — حول “الصداقة التاريخية”، تفرض الجغرافيا السياسية معادلة جديدة. تونس لا تقطع مع فرنسا؛ إنها تتجاوزها. وطالما واصلت باريس البحث عن دور رمزي في بلد يريد احترامًا لا دروسًا، سيظلّ البرود الدبلوماسي هو القاعدة. ففي المغرب العربي اليوم، النفوذ لا يُورث… بل يُكتسب.
علاقة تترنّح: فرنسا تتكلّم… وتونس تتقدّم
منذ عامين، تُصرّ باريس على التعاطي مع الحياة السياسية التونسية كما لو أن شيئًا لم يتغيّر منذ 2011. وزراء، نواب، معلّقون ومنظمات فرنسية يتناوبون على إلقاء دروس في الحوكمة؛ والبرامج التلفزيونية تفتح أبوابها لمعارضين يجدون في فرنسا ملاذًا سياسيًا، حتى عندما يكون بعضهم متورّطًا في ملفات فساد داخل تونس. ومع تحويل النقاش التونسي إلى قضية باريسية، فقدت فرنسا ما كان يمنحها تفوّقها: العمل الهادئ، الفعالية، والمعرفة الدقيقة بالميدان.
على الجانب التونسي، كانت الرسالة واضحة: لا عودة إلى النص القديم. الرئيس قيس سعيّد — مهما اختلفت الآراء حول رؤيته — فرض خطًا ثابتًا: السيادة أولًا، الشراكة ثانيًا. وهكذا تغيّرت المعادلة. لم يعد بإمكان فرنسا الادعاء بحقّ “التوجيه الأخلاقي” في الشأن التونسي، وأصبحت الانتقادات المتكررة — حول “الديمقراطية” والحريات والإدارة الداخلية — بلا أثر سياسي في تونس.
وفي الإدارات التونسية، ترسّخ استنتاج أصبح شبه إجماع: فرنسا تتحدث كثيرًا… لكنها تفعل قليلًا. فالإعلانات من نوع “4 ملايين يورو لإدماج 1000 شاب تونسي” تخدم الصورة، لكنها تبدو هامشية أمام حجم التحديات الاقتصادية التونسية. خصوصًا عندما تضاعف إيطاليا مشاريعها الطاقية بمئات ملايين اليوروهات، أو عندما تستثمر الجزائر في الأمن الإقليمي والتبادل التجاري والادماج الاقتصادي الإقليمي.
الانطباع التونسي — المدعوم بالوقائع — بسيط: فرنسا تراقب وتنتقد، بينما يأتي الشركاء الآخرون بمبادرات ملموسة. وفي هذا الاختلال، تغيّرت طبيعة العلاقة: فرنسا لم تعد تضبط الإيقاع… بل تكتفي بالتعليق عليه.
فرنسا تُحدث ضجيجًا… لكن تونس غيّرت مركز ثقلها
بينما تواصل باريس إصدار التقارير والانتقادات، تمضي تونس في اتجاه لم يعد مرتبطًا بالمنطق السياسي الفرنسي. فالمحور الحقيقي — ذاك الذي يعيد رسم خريطة التحالفات — يوجد في مكان آخر: الجزائر وروما.
كان صيف 2023 لحظة فاصلة. ففي الوقت الذي كانت فيه فرنسا تُكثر من التصريحات المهوِّلة حول الهجرة، كانت إيطاليا هي التي وصفت تونس بـ”الحليف الاستراتيجي” — توصيف لم تتجرأ باريس على استخدامه، أو لم ترَ جدوى في قوله أصلًا. والنتائج جاءت ملموسة: انخفاض كبير في وتيرة الهجرة غير النظامية نحو إيطاليا حتى جعلت ميلوني هذا التراجع عنوانًا لنجاح دبلوماسيتها؛ تسريع المشاريع الطاقية العابرة للحدود بين تونس وليبيا والجزائر بقيادة شركة ENI، إلى جانب بناء محور أمني هادئ لكنه متين يمتد من تونس إلى الجزائر ويصعد نحو روما.
في المقابل، لم تعد فرنسا تقدّم أي رؤية، ولا مشروعًا كبيرًا، ولا حضورًا اقتصاديًا يمكن مقارنته بإيطاليا. حتى الشركات الفرنسية باتت تقرّ بأن التعامل مع الشركاء الإيطاليين أسهل وأكثر وضوحًا من التعامل مع الحكومة الفرنسية. الملفات تتباطأ، التمويلات تتأخر، والرسائل السياسية تصل مشوشة.
لا توجد قطيعة رسمية بين تونس وفرنسا. هناك فقط حقيقة دبلوماسية بسيطة: تونس تتجه نحو من يساعدها فعليًا، لا نحو من يوبّخها. ومع ذلك، يبدو أن باريس ما زالت تتصرف كما لو أن تونس “ساحة مضمونة”. وهذا خطأ استراتيجي. فاليوم، تونس ليست في موقع من ينتظر الإملاءات. تستطيع أن تختار… بل أصبحت مضطرة إلى الاختيار. فتنويع الشركاء أصبح ضرورة وجودية، خصوصًا في ظل الوضع الاقتصادي الراهن.
إيني… الظلّ الإيطالي الذي يخيّم على الجنوب التونسي
إذا كان هناك طرف يجسّد هذا التحوّل الدبلوماسي، فهو بلا شك شركة إيني. فمنذ عامين، هذه الشركة الإيطالية العملاقة تنسج حضورًا لا يكاد يجد نظيرًا في تاريخ البلاد الحديث. تقدّمها يتم بخطوات مدروسة: رُخَص جديدة، توسّع في الأنشطة الغازية، شراكات في مشاريع الربط الطاقي، واستثمارات موجّهة نحو أكثر المناطق الحدودية حساسية. ومع انشغال فرنسا بتعليقات سياسية لا تنتهي حول تونس، تتقدّم إيطاليا على الأرض، خاصة في قطاع الطاقة، حيث لم يعد لباريس سوى تأثير محدود وشكلي.
هذا التمدّد ليس اقتصاديًا فحسب. إنه يعكس خيارًا استراتيجيًا واضحًا من جانب روما: تأمين جوارها المباشر، حماية إمداداتها، وتعزيز التنسيق في ملف الهجرة. ميلوني تكرّر ذلك بلا توقف، والأرقام تؤكّد: انخفاض كبير في عدد الوافدين من تونس، ملفات تُنجز بسرعة قياسية، واتفاقات تتقدّم بينما تكتفي فرنسا بخطابات عامة لا أثر لها.
بالنسبة إلى تونس، يأتي هذا التموضع الإيطالي في الوقت المناسب. فإيطاليا لا تفرض قاموسها السياسي، ولا تملي السلوكيات الحزبية، ولا تُغرق العلاقة بإملاءات حقوقية — وهي العوامل التي أثقلت العلاقات التونسية الفرنسية لسنوات. إيطاليا تتفاوض، تقترح، تضخّ الاستثمارات، وتتماهى بهدوء مع الموقف الجزائري، وهو ما يُعدّ وزنًا حقيقيًا في ميزان المنطقة، لا مجرد وعود مالية ضخمة.
والمفارقة؟ أن فرنسا تراقب كل ذلك من خارج الملعب. فكلما عزّزت تونس علاقتها مع روما والجزائر، كلما اكتشفت باريس — متأخرة — أنها أصبحت لاعبًا ثانويًا في فضاء كانت تعتقد أنها ما تزال تمسك بمفاتيحه.
الجزائر وروما وتونس: محور يتماسك بينما باريس ما تزال في طور البحث عن موقعها
سيكون اختزالًا ناقصًا أن نُرجِع التدهور في العلاقات التونسية الفرنسية إلى مجرد سوء فهم سياسي. فالمسألة تتجاوز البلاغة، والمقالات الصحفية لوسائل الإعلام الباريسية، والجدل الدبلوماسي. الواقع أن تونس وجدت في محور الجزائر–إيطاليا مساحةً للاستقرار والاحترام المتبادل والتعاون الملموس، وهي عناصر لم تعد العلاقة مع فرنسا تضمنها منذ سنوات طويلة. فالجزائر توفر إطارًا استراتيجيًا مشتركًا: أمنًا إقليميًا، مكافحةً للشبكات العابرة للحدود، رؤيةً متقاربة بشأن ليبيا، وصلابةً واضحة في مسألة السيادة. أما إيطاليا، فتوفر الاستثمارات والطاقة والربط الكهربائي والدبلوماسية البراغماتية التي تُقاس بنتائجها، لا بخطابها. ورغم بعض الاختلالات المقلقة، تبقى العلاقة الإيطالية التونسية أكثر احترامًا بكثير من نظيرتها الفرنسية.
هذا التقارب لا يستهدف أحدًا، لكنه يعيد تلقائيًا تشكيل موازين المنطقة. ففي باريس، يصعب استيعاب حقيقة أن تونس لم تعد “تلميذة النموذج الفرنسي”، وأنها تختار شركاءها وفق مصالحها، لا وفق ولاءات تاريخية أحادية الاتجاه. والأهم أن الدولة التونسية لم تعد تقبل بأن ينتقد شريكٌ مؤسساتِها علنًا بينما يطالبها في الوقت نفسه بتعاون أمني أو اقتصادي أو هجرة. الزمن الذي لعبت فيه فرنسا دور “الوصي الأخلاقي” و”الشرطي الإقليمي” انتهى.
وفي المقابل، تتعامل الجزائر وروما مع تونس بوصفها شريكًا ناضجًا. فلا تتدخلان في شؤونها الداخلية، ولا تفرضان إيقاعها السياسي، ولا تحاولان التأثير في مشهدها الحزبي. والمعادلة ذاتها تنطبق في الاتجاه الآخر: تونس تحترم خطوطهما الحمراء وأولوياتهما وهواجسهما. هذه الندية، المفتقدة بشدة في العلاقة مع فرنسا، خصوصا فترة حكم ماكرون، تفسّر الجزء الأكبر من التحول الدبلوماسي الراهن.
ربما ما يزعج باريس ليس الخطاب التونسي، بل اكتشافها أن تونس وجدت بديلًا… بديلًا سياديًا، منظمًا، وفعّالًا. بعض العواصم الأوروبية فهمت ذلك؛ أما فرنسا فما تزال تتفاجأ، كما لو أن تونس مضطرة للانتظار إلى أن تحل باريس تناقضاتها الداخلية.
في نهاية المطاف، البرود التونسي الفرنسي نتيجة مسافة اتسعت إلى درجة لم تعد تنفع معها العبارات الدبلوماسية المهذبة. وبينما تتمسّك باريس بخطاب أخلاقي لم يعد يقنع أحدًا، تعود تونس إلى الحقائق. والحقائق عنيدة: فرنسا لم تعد “بلد حقوق الإنسان” كما كانت تقدّم نفسها لعقود.
فاعتقال بافل دوروف في قلب الصيف، والصمت عن التجاوزات الأمنية ضد المسلمين داخل فرنسا، واللجوء المتكرر إلى المادة 49.3 لتجاوز برلمان فرنسي مشلول، والتحول الخطابي نحو العنصريّة… كلها شقّت الصورة التي لم يعد يعتني بها سوى بعض معلّقي باريس.
بالنسبة للتونسيين، صار هذا التناقض صارخًا. فالدولة التونسية لم تعد مستعدة لتلقّي دروس ديمقراطية من شريك يدعم دون تردد أكثر العمليات دموية التي ينفذها الكيان الصهيوني في غزة، بينما يقدّم تونس كأنها نموذج للانحراف السلطوي. للثبات مبادئه: لا يمكن لمن يتجاهل أبسط القيم عندما يتعلق الأمر بحلفائه أن يوزّع شهادات الأخلاق على الآخرين.
تونس لم تطلب يومًا من فرنسا أن تصادق على خياراتها السياسية، لكنها تطلب — وبشكل مشروع — أن تُعامل كشريك سيادي لا كطرف قاصر. وبما أن هذه المعادلة لم تعد مضمونة، تتقدم تونس مع من يحترمون إيقاعها: الجزائر، إيطاليا، الصين، هولندا، اليابان بدرجة أقل… ومع شركاء يقدّمون النتائج لا المواعظ. أما فرنسا، فما تزال تتوقع أن تعود تونس إليها من تلقاء نفسها، وكأن شيئًا لم يتغير.
وما تغيّر بسيط في جوهره: تونس لم تعد امتدادًا للخيال السياسي الفرنسي. لقد اختارت طريقها. وهذه المرة… دون استئذان



