الكاتب و المحلل السياسي نزار الجليدي يكتب لكم: ساركوزي حرّ، ماكرون مطمئن: هل كشفت اليمين الفرنسية أوراقها مبكراً؟

جاء الإفراج عن نيكولا ساركوزي، في خضمّ السجال الدائر حول مشروع ميزانية 2026، بتوقيت لا يمكن تجاهله. فإيمانويل ماكرون يسعى اليوم إلى تأمين انضباط حزب الجمهوريين لإنقاذ آخر ميزانية في ولايته، بينما يتحرك كل طرف داخل مشهده الخاص: يمينٌ يرفع سقف خطابه ثم يصطفّ في اللحظة الحاسمة، وسلطة تنفيذية منشغلة بما بعد 2027، ورئيس سابق ما زال وزنه السياسي قائماً رغم القيود القضائية المفروضة عليه. كل ذلك يوحي بأن إعادة تشكّل المشهد قد بدأت بالفعل.
فرنسا، كما كثيراً ما تفعل، تقدّم لحظات يتطابق فيها السياسي مع القضائي بدقة لافتة. في 10 نوفمبر، خرج ساركوزي من السجن تحت رقابة قضائية صارمة في ملف لم يُغلق بعد؛ وبعد أربعة أيام فقط، وضعت حكومة سباستيان لوكورنو نفسها أمام تصويت حاسم على ميزانية 2026، وسط انتقادات يومية من اليمين… قبل أن يضمن دعم جزء منه في اللحظة الأخيرة.
الرواية الرسمية تقول إن لا علاقة بين الحدثين. لكن القراءة السياسية ترى مشهداً آخر: سلطة بلا أغلبية، يمينٌ متردد لكنه حريص على عدم إسقاط الحكومة، ومشروع مالي ضخم يحتاج إلى أصوات الجمهوريين، فيما يعمل ماكرون — بوضوح غير معلن — على تثبيت موقع مستقبلي له داخل المؤسسات الأوروبية.
في هذا السياق المليء بالحسابات المتشابكة، بدا الإفراج عن ساركوزي بمثابة إشارة موجّهة إلى عائلة سياسية تعيش انقساماً داخلياً: المرحلة تستدعي الانضباط لا المنازلة. الجميع استوعب الرسالة — السلطة، اليمين، ورجال ساركوزي أنفسهم — حتى وإن لم يُصرّح أحد بذلك علناً. والنتيجة أن تزامن التطورات القضائية مع معركة الميزانية لا يبدو عفوياً كما يُراد إظهاره.
يمينٌ تائه بين الغضب المعلن والطاعة الفعلية
هناك مَن يرفع صوته داخل الجمعية الوطنية، وهناك مَن يعدّ الأصوات في الكواليس. وفي حزب الجمهوريين، يتعايش هذان الوجهان دون أن يلتقيا على خط سياسي واحد. فمنذ أشهر، يهاجم نوّاب الحزب ما يسمّونه “الفوضى المالية” و“الضغط الضريبي” و“نفق الدَّين بلا مخرج”. صورة ليمينٍ هجوميّ، واثقٍ من نفسه، يستعيد بعضاً من حضوره المفقود.
لكن عند لحظة التصويت، تسقط الواجهة. معظم نوّاب الجمهوريين ينتهي بهم الأمر إلى تأييد ما كانوا يتوعّدون بإسقاطه. ميزانية 2024 ثم 2025 نجتا بفضل هؤلاء أنفسهم الذين كانوا يهدّدون، عشيّة كل جولة، بإسقاط الحكومة. ما يسمّونه “خطّاً سياسياً” ليس في الحقيقة سوى حركة تأرجح دائمة، تحدّدها اللحظة وليس رؤية حزبية مستقرة.
في الإليزيه، يعرف إيمانويل ماكرون هذه المعادلة جيداً. فاليمين الجمهوري الفرنسي، منذ انهيار 2017، لم يستعد عموده الفقري. حزب مشرذم، بلا قيادة حقيقية، يتنقّل بين صدامات إعلامية صاخبة وصفقات هادئة خلف الأبواب الموصدة. ولذلك حرص سباستيان لوكورنو — ابن المدرسة نفسـها التي خرج منها ماكرون، أي “الوسط اليميني التقنوقراطي” — على إبقاء الجمهوريين في منطقة رمادية: ضجيج كافٍ لإيهام بوجود تعددية، وانضباط كافٍ لضمان عدم انفجار المشهد في خضمّ معركة إعداد ميزانية 2026.
في هذا المشهد المضطرب، جاءت عودة نيكولا ساركوزي إلى الساحة — وإن كانت مشروطة برقابة قضائية صارمة — كتذكير بمكانته الرمزية داخل يمين فقد بوصلته. فالرجل، رغم ملفاته المفتوحة أمام القضاء، ما يزال مرجعاً نفسياً لجزء من القاعدة اليمينية، وصوته قادر على ترجيح كفّة أو تهدئة مزاج. حضوره وحده يذكّر كثيراً من النوّاب بأن التقارب التكتيكي مع السلطة التنفيذية قد يكون أكثر فائدة من بطولة خطابية بلا نتائج.
لا أحد سيصرّح بأن السياسة والقضاء يتقاطعان. لكن التقويم وحده يكشف ما لا يُقال علناً. فالنوّاب الجمهوريون، العالقون بين غياب بديل سياسي وبين ضيق هامش المناورة، يمارسون لعبة مزدوجة: يرفعون سقف النقد أمام الكاميرات، ثم يصوّتون بانضباط حين تُغلق الأبواب. ويظهر ساركوزي — مقيداً، مراقَباً، لكن حاضراً — في لحظة حسّاسة، ليقرأ البعض في الأمر رسالة صامتة: الوقت ليس للمواجهات… بل للتماهي.
ماكرون يراهن على مستقبل سياسي في أوروبا… وساركوزي يطمئن اليمين
بالنسبة لإيمانويل ماكرون، لم تعد نهاية العهدة فضاءً سياسياً مجهول المصير؛ إنها ممر ضيّق تُحسب فيه كل خطوة وفق ما بعدها. فمنذ أشهر، تدور في الكواليس الأوروبية أحاديث متزايدة حول مرحلة “ما بعد أورسولا فون دير لاين“، ولا يخفى على أحد أنّ الرئيس الفرنسي ينظر إلى نفسه كمرشّح محتمل لدور أوروبي وازن، بعيداً عن عبء أغلبية مفقودة في باريس. وللوصول إلى ذلك، يحتاج إلى أمر واحد: تفادي أي انفجار سياسي قبل صيف 2026.
من هنا تصبح الميزانــيّة الامتحان الحاسم. فإذا سقطت، سقطت معها هيبته. وإذا مرّت، استعاد ماكرون زخمه الأوروبي. والإليزيه يدرك أن مفتاح النجاح لا يكمن في أغلبيته المعلنة، بل في اليمين البرلماني. الجمهوريون وأقصى اليمين قادرون على بناء جبهة، أو افتعال ضوضاء، وقادرون على إسقاط لوكورنو أو إنقاذه. دورهم مركزي… لكنهم يفتقدون إلى أي استراتيجية متماسكة.
وفي هذا المناخ يعود نيكولا ساركوزي إلى الواجهة. الإفراج عنه تحت رقابة قضائية — في ملف لم يُقفل بعد — أعاد تنشيط حضوره السياسي لدى يمين ما زال يعتبره مرجعاً أو حتى آخر “صوت مسموع” داخل مشهد يعجّ بالتناقضات.
هذا الظهور الهادئ، لكنه ثقيل سياسياً، يأتي تماماً في اللحظة التي يحتاج فيها الإليزيه إلى يمين منضبط. لا يمكن لأحد الادعاء بوجود صلة مباشرة… لكن الأثر السياسي واضح: وجود ساركوزي يخفّف الاحتقان داخل الحزب، يحدّ من نزعات التمرّد، ويعيد عدداً من النوّاب إلى منطق “الانضباط” بدل المغامرة.
في المعسكر الماكروني، يرى بعض المستشارين في هذا المشهد إرهاصات إعادة تشكيل مبكرة: يمين مدمج، أغلبية موسّعة، ورئيس يختم ولايته بصورة “المدير العاقل” تمهيداً لطرح نفسه — بعد أشهر قليلة — مرشحاً طبيعياً لدور أوروبي كبير. أمّا إيقاع القضاء، إن صادف ما يناسب السلطة، فلن يجرؤ أحد على تسميته… لكن الجميع سيتوقف عند تزامنه.
قضاءٌ يهبط دائماً في اللحظة المناسبة: الروزنامة القضائية كأداة سياسية
في فرنسا، لا أحد يجرؤ على القول إن القضاء يعمل وفق حاجات السلطة. ومع ذلك، كلّما طفت قضية حسّاسة في لحظة سياسية مفصلية، تعود الانطباعات نفسها: القضاة لا يتحدثون، لكن قراراتهم تُحدث صدى سياسياً لا يمكن تجاهله.إفراج نيكولا ساركوزي، وسط مفاوضات الميزانية، يندرج ضمن هذه السلسلة من “الصدف المثالية” التي تبدو وكأنها تذكير مبطّن بثقل الجهاز القضائي داخل ماكينة الحكم.
ساركوزي ما زال رقماً صعباً، رغم القيود القضائية المفروضة عليه. صورته، قدرته على لمّ شتات القاعدة المحافظة المتقدّمة في العمر، وتأثير كلمته داخل جزء من اليمين… كلها عناصر تجعل منه رافعة سياسية لا يعوّضها أحد.عودته إلى الفضاء العام لا تغيّر المشهد ظاهرياً، لكنها تعيد ترتيب الغرائز داخل حزب الجمهوريين: حزب ممزّق بين البقاء،والحنين، والانتهازية، يجد في “ساركوزي الحاضر تحت الرقابة” نقطة ثقل افتقدها منذ سنوات.الأمر ليس تفويضاً مطلقاً، ولا دعماً معلناً. إنه مجرد حضور… وهذا الحضور وحده يكفي أحياناً لكبح اندفاع بعض النواب نحو مغامرة إسقاط ميزانية 2026.
في المعسكر الحكومي، الصمت هو القاعدة. لا تعليق ولا همس. لكن في مشهد مؤسساتي يمكن أن تتحول فيه أيّ جلسة تصويت إلى أزمة وطنية، يكتسب كل تفصيل قيمة استراتيجية. ماكرون بلا أغلبية فعلية، ولوكورنو يحكم على حافة السكين، وأي انشقاق صغير قد يشعل أزمة مالية.
سقوط الميزانية، في زمن تضخم مرتفع وعجز يتجاوز المعايير الأوروبية ونمو هش، سيكون كارثة سياسية واقتصادية. الحكومة تعرف ذلك. اليمين أيضاً. وفي خضم هذا المسرح، تتصدر قضية ساركوزي الشاشات كتنبيه غير معلَن: الخلافات الإيديولوجية تأتي بعد استقرار النظام.
لا دليل على أن القضاء الفرنسي يتحرك وفق الوتيرة السياسية. لكن المؤكد أنّ الوتيرة السياسية نفسها تُعاد هندستها لتتماشى مع وقع القضاء.وفي فرنسا، هذا غالباً ما يكون هو العامل الحاسم.
نحو “أغلبية موسَّعة”… ماكرون يتقدّم بخطوات محسوبة، واليمين يصطفّ رغم إرادته
منذ أسابيع، ينفّذ قصر الإليزيه سيناريو واضحاً: تفادي الانفجار السياسي، وإغلاق العهدة الرئاسية بصورة استقرار مُتحكَّم فيه. سِباستيان لوكورنو يؤدي دور رئيس الحكومة المنضبط، التكنوقراطي أكثر منه خطيباً، المكلّف بالإمساك بالمشهد فيما ينظر إيمانويل ماكرون إلى ما بعد 2026، نحو المؤسسات الأوروبية. ولإنجاح هذا المخطط، يحتاج الرئيس إلى ما لم يعد يملكه: قوة برلمانية رديفة، صامتة وموثوقة.
هنا يدخل حزب الجمهوريين إلى المسرح. وهم يعرفون ذلك جيداً. هشاشتهم المزمنة، انقساماتهم، وعجزهم عن تثبيت خط سياسي ثابت، تجعلهم معتمدين على السلطة التي يدّعون محاربتها. كلّ تصويت على الميزانية يفضح الأمر: بعد خطابات “نارية”، ينتهي معظم نوابهم بإنقاذ الحكومة—لأن سقوطها يهددهم أكثر بكثير مما يخدمهم.
هذه الطاعة القسرية فتحت مجالاً جديداً. فإذا كان ماكرون يريد أن يزن بثقل داخل الهندسة الأوروبية المقبلة، فعليه تقديم صورة بلد منضبط، قادر على تثبيت ماليته وتجنّب أزمة مؤسساتية جديدة. وهنا، يشكّل الجمهوريون القطعة الناقصة: شريكاً طبيعياً، من الخلفية الإيديولوجية نفسها، ما زال يحتفظ بحدّ أدنى من المصداقية الخارجية رغم انهياره الداخلي.
من جانب السلطة، اليد ممدودة… دون أن تظهر. الحديث يدور عن “الاستقرار“، “المسؤولية“، “المصلحة العامة“. ويُتجنَّب بعناية كل ما قد يثير حساسية اليمين. لكن الرسالة تصل بوضوح إلى كل الكتل: البديل عن التفاهم مع الحكومة هو الفوضى المالية—ولا حزب يميني يستطيع النجاة من هذه الفوضى.
وهكذا يتقدّم الجميع بهدوء: ماكرون نحو بروكسل،لوكورنو نحو الميزانية وما قد يترتب عنها،واليمين نحو “أغلبية شبه رسمية” فيما يقف ساركوزي في الخلفية—تذكيراً دائماً بأن “الانضباط الجمهوري” يعود بقوة حين تصبح البقاء السياسي هو المعيار الوحيد.
اليمين التقليدي واليمين المتطرّف: نفس الإسهاب… ونفس الطاعة
على الشاشات، يبدو اليمين واليمين المتطرّف كأنهما معسكران متناقضان تماماً. الجمهوريون يتزيّنون بوقارٍ مصطنع، والـتجمع الوطني (Rassemblement national) يقدّم نفسه كغضبٍ نقيّ ضد “النظام“. لكن حين يحتاج الحكم إلى الأصوات للبقاء، تختفي الفوارق. اللغة تتشدّد، الإيماءات تصبح مسرحية، ثم ينتهي كل شيء بـ“امتناع مفيد” أو دعمٍ غير معلَن. صخبٌ للواجهة… وصفقات في الكواليس… ثم عودة هادئة إلى الصف.
مارين لوبان، ومعها الوجوه الصاعدة في معسكرها، تعرف جيداً أن إسقاط الحكومة الآن، في قلب معركة مالية خانقة، يعني الدخول في فوضى لا تسيطر هي على أيٍّ من نتائجها. أمّا اليمين التقليدي، فهو أكثر خوفاً من هذا السيناريو: كلّ انقساماته ستنفجر في وجهه فوراً، ولا شخصية واحدة — حتى لو اعتقد دومينيك دو فيلبان أنه “الرئيس القادم” — تستطيع تحويل ذلك إلى مكسب سياسي دائم.
في هذا المناخ، تعود تأثيرات ساركوزي — رغم قيود الرقابة القضائية — لفرض حقيقة بسيطة: المواجهة المباشرة مع السلطة لا تفيد أحداً. بل قد تُسرّع فقط سقوط عائلةٍ سياسية تهتزّ منذ سنوات. وإطلاق سراح ساركوزي تماماً في اللحظة التي يحاول فيها ماكرون تأمين آخر ميزانية مهمة في ولايته… ليس صدفة.
أمّا اليمين المتطرّف، فيراقب. يعرف أن إسقاط الحكومة سيُدخل فرنسا في أزمة مؤسسية قد تنتهي بوصوله إلى الحكم في ظروف فوضوية ومالية خطيرة. وهو غير جاهز. ولا يريد أن يكون جاهزاً الآن. لذلك يزمجر… ثم يتراجع عند لحظة الحسم.
في هذا التشابك من الحسابات، والحذر، والخوف، يواصل ماكرون ترتيب خطواته. السلطة لم تعد تقنع أحداً، لكنها ما زالت قادرة على شلّ خصومها. اليمين لم يعد يقترح شيئاً، لكنه يصطفّ. اليمين المتطرّف يصرخ، لكنه يتراجع أمام المسؤولية.
وفي قلب هذه الآلة السياسية — بقصد أو من دون قصد — يقف إيقاع قضائي ذكّر الجميع بأن السياسة الفرنسية لا تتحرك فقط عبر البيانات والخطب… بل عبر إشارات تأتي فجأة، وتفرض نفسها دون أن تُعلن.



