لماذا صمد سوق النفط أمام حصار فنزويلا ويرتعد من مضيق هرمز؟ - صوت الضفتين

لماذا صمد سوق النفط أمام حصار فنزويلا ويرتعد من مضيق هرمز؟

بقلم: محمد أمين الجربي

 

في خضم التوترات الجيوسياسية التي عصفت بمنطقة الكاريبي، فرضت إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في أواخر عام 2025 حصاراً “كاملاً وشاملاً” على قطاع النفط الفنزويلي، في تصعيد وصفه الكثيرون بأنه محاولة لـ “خنق” نظام نيكولاس مادورو عبر تجفيف شريانه المالي الوحيد. لقد تضمن هذا الحصار إجراءات غير مسبوقة، وصلت إلى حد اعتراض والتحفظ على ناقلات النفط في المياه الدولية، مثل الناقلتين “سكيبر” (Skipper) و”سنتشريز” (Centuries)، في عمليات وصفتها كاراكاس بأنها “قرصنة دولية”.

ومع ذلك، وعلى عكس كل التكهنات المتشائمة التي تنبأت بـ “انفجار” أسعار الطاقة العالمية نظراً لامتلاك فنزويلا أكبر احتياطي مؤكد في العالم، ظل السوق العالمي هادئاً بشكل مثير للدهشة. بل إن أسعار خام برنت وتكساس شهدت استقراراً أو تراجعاً طفيفاً في أعقاب عمليات الاحتجاز. هذه المفارقة ليست مجرد صدفة اقتصادية، بل هي نتاج تحول هيكلي في موازين القوى الطاقية، حيث تحولت فنزويلا من “عملاق مخيف” إلى “نمر من ورق” في حسابات العرض والطلب العالمية.

أولاً: تشريح الصمود.. لماذا تجاهل العالم “البلطجة” الجيوسياسية؟

إن فشل الحصار في هز أركان السوق العالمي يعود إلى حقيقة تقنية مرة: الاحتياطيات الضخمة تحت الأرض لا تعني شيئاً إذا كانت القدرة على استخراجها “مشلولة” فوق الأرض.

تآكل الوزن الثقيل: قبل تشديد الحصار الأخير، كان إنتاج فنزويلا قد انهار بالفعل بفعل عقود من سوء الإدارة وتهالك البنية التحتية. فبينما كانت البلاد تنتج أكثر من 3 ملايين برميل يومياً في مطلع الألفية، استقر إنتاجها الفعلي في عام 2025 عند مستويات تتراوح بين 800 إلى 900 ألف برميل يومياً فقط. هذه الكمية تمثل أقل من 1% من الاستهلاك العالمي، وهي “قطرة في محيط” يمكن للسوق امتصاص غيابها دون عناء.

“دروع” المخزون والوفرة الأمريكية: دخل العالم عام 2025 بمخزونات نفطية وصلت إلى أعلى مستوياتها في أربع سنوات (حوالي 8 مليارات برميل). هذا “الدرع” اللوجستي، بالتوازي مع استمرار الولايات المتحدة في صدارة المنتجين بفضل النفط الصخري، عمل كصمام أمان. لقد وجد المستهلكون، وبخاصة المصافي الأمريكية التي كانت تعتمد على الخام الفنزويلي الثقيل، بدائل جاهزة في النفط الكندي والشرق أوسطي، مما أفقد كاراكاس قدرتها على الابتزاز السعري.

الملاذ الصيني: نجحت فنزويلا في تحويل بوصلة صادراتها نحو آسيا، حيث امتصت الصين ما بين 76% إلى 85% من خامها في عام 2025 عبر قنوات تجارية “رمادية” ومعقدة. هذا التكيف جعل الحصار الأمريكي يؤثر على “إيرادات” النظام وليس على “توازن” السوق العالمي، فخام فنزويلا لا يزال يجد طريقه للمستهلك النهائي، ولكن عبر وسطاء يقتطعون “علاوة مخاطرة” باهظة من جيب الشعب الفنزويلي.

ثانياً: من “الحديقة الخلفية” إلى “شريان الحياة”.. فخ المقارنة القاتل

لإدراك مدى ضآلة تأثير فنزويلا، يجب مقارنتها بالتهديد الوجودي الحقيقي: مضيق هرمز. إن الفرق بين الحصارين يمثل الفرق بين “خدش بسيط” و”قطع في الوريد الأبهر” للاقتصاد العالمي.

بينما أدت التوترات في فنزويلا إلى تقلبات طفيفة لا تتجاوز بضعة دولارات، فإن أي اضطراب حقيقي في مضيق هرمز يعني خروج أكثر من 21 مليون برميل يومياً من السوق (حوالي خُمس الاستهلاك العالمي). هنا، لا يتحدث المحللون عن زيادة طفيفة، بل عن قفزات سعرية قد تدفع البرميل إلى مستويات تتراوح بين 150 إلى 200 دولار في أيام معدودة.

فنزويلا، رغم احتياطياتها، تعاني من “فقر إنتاجي” واستنزاف مالي يتطلب أكثر من 100 مليار دولار واستثمارات تمتد لعشر سنوات للعودة إلى مستوياتها السابقة. في المقابل، يظل مضيق هرمز نقطة الضعف الاستراتيجية التي لا يمكن الالتفاف عليها، حيث أن البدائل البرية (الأنابيب) لا تستوعب سوى جزء ضئيل من التدفقات الهائلة للنفط والغاز المسال.

ثالثاً: الآثار الكارثية.. هل يصمد الاقتصاد العالمي أمام “حرب نفطية”؟

السؤال الذي يطرحه صانع القرار اليوم هو: هل بإمكان العالم الصمود إذا تحولت هذه “البلطجة” الجيوسياسية إلى حرب شاملة تغلق ممرات الطاقة؟ الإجابة المختصرة هي: سقوط حر نحو الركود.

إن أي مواجهة عسكرية تؤدي إلى إغلاق مضيق هرمز أو تدمير المنشآت الحيوية في الخليج ستؤدي إلى سيناريو “يوم القيامة الاقتصادي”:

تضخم جامح وفوري: ارتفاع أسعار الطاقة بنسبة 100% سيؤدي فوراً إلى انهيار القوة الشرائية، وارتفاع تكاليف النقل والإنتاج عالمياً، مما يضع البنوك المركزية في مأزق “التضخم الركودي”.

نزيف الميزانيات: الدول المستهلكة الكبرى، وخاصة الصين واليابان وكوريا الجنوبية، ستواجه أزمة أمن قومي حادة نظراً لاعتمادها المفرط على نفط الخليج. وحتى الولايات المتحدة، رغم إنتاجها الضخم، لن تسلم من الأثر التضخمي العالمي الذي سيصيب جميع السلع.

استنزاف الاحتياطيات: ستضطر الدول للجوء إلى احتياطياتها الاستراتيجية، وهي “رصاصات أخيرة” مصممة لمعالجة نقص مؤقت، وليست حلاً لانقطاع دائم لشريان حياة يمثل 20% من الإمدادات.

رابعاً: نقد لسياسات “القوة الغاشمة”.. مغامرة ترامب المحفوفة بالمخاطر

إن سياسة “الضغط الأقصى” التي اتبعها ترامب تجاه فنزويلا، والتي تجلت في عملية “السهم الجنوبي” (Southern Spear) العسكرية، لم تكن مجرد إجراءات اقتصادية، بل كانت “مقامرة كبيرة” تهدف لتغيير نظام سياسي عبر تجويعه.

هذه السياسة، التي وصلت حد التلويح بضربات عسكرية داخل الأراضي الفنزويلية بذريعة “مكافحة الإرهاب والمخدرات”، تسببت في أضرار جانبية هائلة:

كارثة إنسانية: حُرم الشعب الفنزويلي من عائدات النفط التي تمثل 90% من دخل البلاد من العملة الصعبة، مما فاقم أزمات الغذاء والدواء.

إحراج الحلفاء والخصوم: أدى الحصار إلى خسائر لشركات كبرى (مثل شيفرون التي حاولت الصمود في عمليات محدودة) وأضر بمصالح دول مثل الهند وإسبانيا التي كانت تستورد كميات ضئيلة بموجب إعفاءات سابقة.

تحدي القانون الدولي: إن اعتراض السفن في أعالي البحار يمثل سابقة خطيرة تهدد حرية الملاحة العالمية، وقد تُستخدم كذريعة من قبل قوى أخرى في نزاعات إقليمية مشابهة.

الخاتمة: دروس من حصار “الحديقة الخلفية”

لقد قدم حصار النفط الفنزويلي درساً بليغاً: العالم أصبح أكثر حصانة ضد انهيار “الدول النفطية “، ولكنه لا يزال هشاً أمام “الجغرافيا السياسية للممرات”. إن صمود السوق أمام حصار مادورو يثبت أن “الوفرة الأمريكية” و”المرونة اللوجستية” غيرت قواعد اللعبة.

ومع ذلك، فإن الاستمرار في استخدام “البلطجة” الاقتصادية والعسكرية كأداة وحيدة للدبلوماسية يهدد بدفع العالم نحو حافة الهاوية. إن الانتصار في “الحديقة الخلفية” عبر الحصار قد يبدو انتصاراً سهلاً، لكنه لن يقي الاقتصاد العالمي من الكارثة إذا ما اشتعلت النيران في “شرايين الحياة” الحقيقية. إن الحكمة تقتضي إدراك أن النفط الفنزويلي هو قضية “نفوذ إقليمي”، بينما نفط الممرات هو قضية “بقاء عالمي”.

شارك المقال

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

French