الأستاذ في القانون الدولي والعلاقات الدبلوماسية. يوسف بن عثمان الصغيريكتب: تونس بين نعمة الموقع و تحديات الواقع ..... - صوت الضفتين

الأستاذ في القانون الدولي والعلاقات الدبلوماسية. يوسف بن عثمان الصغيريكتب: تونس بين نعمة الموقع و تحديات الواقع …..

 

تُوصَف تونس منذ عقود بـ“زهرة المتوسط”، وهو توصيف يستند إلى معطيات واقعية: موقع جغرافي فريد في قلب البحر الأبيض المتوسط، قرب مباشر من أوروبا، عمق إفريقي واعد، تاريخ حضاري متنوع، ورصيد بشري متعلم ومنفتح. ومع ذلك، لم تنجح تونس في ترجمة هذه المزايا إلى تنمية اقتصادية مستدامة أو إلى مكانة إقليمية تليق بإمكاناتها. والسؤال الجوهري ليس لماذا تملك تونس هذه النعم، بل لماذا لم تُحسن استغلالها.

الإشكال الأساسي لا يكمن في نقص الموارد، وإنما في سوء إدارة الفرص. فالموقع الاستراتيجي لا يتحول تلقائيًا إلى قوة اقتصادية ما لم تدعمه رؤية واضحة، ومؤسسات فعالة، وسياسات مستقرة. في هذا الجانب، عانت تونس من غياب مشروع وطني تنموي طويل المدى. تعاقبت الحكومات وتبدلت الخيارات، بينما ظل الاقتصاد يتحرك دون بوصلة واضحة، ما أضعف الثقة وعمّق التردد لدى المستثمرين.

إلى جانب ذلك، شكّلت البيروقراطية والفساد عائقًا حقيقيًا أمام المبادرة والاستثمار. فتعقّد الإجراءات، وتضارب القوانين، وضعف الشفافية، كلها عوامل تجعل من إنجاز المشاريع مسارًا شاقًا. وفي عالم يتسم بسرعة القرار والمنافسة الشرسة، تخسر الدول التي لا توفر مناخًا واضحًا وآمنًا فرصًا ثمينة لصالح غيرها.

ورغم أن تونس تمتلك مؤهلات لتكون منصة لوجستية وتجارية بين أوروبا وإفريقيا، فإنها لم تنجح في استغلال هذا الدور الاستراتيجي كما ينبغي. فالموانئ لم تُطوَّر بالنسق الكافي، والمناطق الحرة ظلت محدودة التأثير، كما بقي الارتباط الاقتصادي بالعمق الإفريقي دون الإمكانات المتاحة، في وقت تتجه فيه الأنظار العالمية نحو القارة الإفريقية كسوق مستقبلية واعدة.

كما يعاني الاقتصاد التونسي من ضعف التنويع، إذ ظل معتمدًا على قطاعات تقليدية وهشّة مثل السياحة الكلاسيكية والفلاحة وبعض الصناعات المحدودة. في المقابل، لم يحظَ الاقتصاد الرقمي، والصناعات التحويلية، والطاقات المتجددة، والخدمات ذات القيمة المضافة العالية، بالاهتمام الكافي، رغم توفر الكفاءات البشرية اللازمة لتطويرها.

وتبرز هنا معضلة هجرة الكفاءات كأحد أخطر التحديات. فالدولة تستثمر في تعليم أبنائها، لكنها تعجز عن توفير بيئة مهنية واقتصادية تستوعبهم، فيغادرون بحثًا عن فرص أفضل. وهكذا تخسر تونس أهم رأسمال استراتيجي لديها: الإنسان.

مع ذلك، لا يعني هذا الواقع أن تونس فقدت فرصتها. فالنهوض ما يزال ممكنًا عبر حزمة إصلاحات واضحة: إرساء حوكمة رشيدة، تبسيط الإدارة، مكافحة الفساد بجدية، وضع رؤية اقتصادية مستقرة، والاستثمار في الإنسان والبنية التحتية والابتكار. فالدول لا تُقاس بحجم ما تملكه من نعم، بل بقدرتها على إدارتها. وعندما تتوفر الإرادة والرؤية، يمكن لتونس أن تتحول من وعد مؤجل إلى حقيقة تنموية، وتستعيد مكانتها كزهرة حقيقية للمتوسط، لا مجرد وصف جميل .

شارك المقال

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

French