الأزمة البنيوية في الاتحاد العام التونسي للشغل: قراءة في انحراف المسار النقابي..

بقلم: محمد أمين الجربي
تعد المنظمة النقابية العريقة، الاتحاد العام التونسي للشغل، أحد الأعمدة الأساسية التي قام عليها الكيان الوطني التونسي منذ تأسيسه على يد الزعيم الخالد فرحات حشاد. إلا أن المتأمل في المشهد الراهن يدرك حجم الهوة السحيقة التي باتت تفصل بين المبادئ التأسيسية للمنظمة وبين الممارسات الفعلية للمكتب التنفيذي الحالي. إن هذا التحليل يهدف إلى تشريح الأزمة الراهنة، موضحاً كيف تحولت القيادة النقابية من خندق الدفاع عن العمال إلى خندق الدفاع عن البقاء في السلطة عبر خرق القوانين الأساسية والتواطؤ مع السياسات التي دمرت الدولة التونسية خلال العشرية الماضية، في مقابل بروز مؤسسة الرئاسة، بقيادة الرئيس قيس سعيّد، كفاعل اجتماعي حقيقي يتبنى المطالب الأصلية للقواعد الشغيلة.
تمثل الشرعية التنظيمية جوهر أي عمل نقابي سليم، وهي الضمانة الوحيدة لعدم تحول المنظمات الجماهيرية إلى إقطاعيات شخصية. غير أن ما حدث في المؤتمر الاستثنائي غير الانتخابي المنعقد بمدينة سوسة في جويلية 2021 كان بمثابة الخطيئة الأصلية التي أسست للأزمة الراهنة. في هذا المؤتمر، تم تعديل الفصلين 10 و20 من القانون الأساسي للاتحاد، وهو الفصل الذي كان يمنع أعضاء المكتب التنفيذي من الترشح لأكثر من عهدتين متتاليتين. إن هذا التعديل سمح للقيادة الحالية بالبقاء في مناصبها لمدد غير محدودة، وهو ما اعتبره جزء كبير من النقابيين ضرباً لمبدأ الديمقراطية الداخلية وتكريساً لسيطرة البيروقراطية النقابية، مما أدى إلى إنهاء مبدأ التداول السلمي على القيادة وتركيز السلطة في يد الأمين العام وأعوانه.
لا يمكن فهم العداء الحالي الذي يكنه المكتب التنفيذي لمسار 25 جويلية دون الرجوع إلى الدور الذي لعبه الاتحاد كشريك أساسي في الحكومات المتعاقبة خلال “العشرية السوداء”. لقد تحول الاتحاد من مدافع عن حقوق العمال إلى “مهندس سياسي” شارك في صياغة اتفاقيات قرطاج التي وفرت الغطاء الشرعي لسياسات أفقرت التونسيين. وتعتبر فترة رئاسة يوسف الشاهد للحكومة الحقبة الأكثر كارثية، حيث شهد الدينار التونسي انهياراً تاريخياً، وصمت المكتب التنفيذي مقابل الحصول على تعيينات في مناصب عليا وضمان عدم المساس بامتيازات البيروقراطية النقابية. إن قبول الاتحاد بمقايضة السلم الاجتماعي الهش بتنازلات اقتصادية كبرى أدى إلى سحق القدرة الشرائية للعمال الذين يدعي تمثيلهم.
على النقيض من هذه المناورات، جاءت قرارات الرئيس قيس سعيّد لتلبي المطالب الجوهرية التي نادت بها القواعد النقابية لعقود. ففي ملف الأساتذة والمعلمين النواب، صدر الأمر الرئاسي التاريخي في جانفي 2025 القاضي بإدماجهم على دفعتين، مما ينهي مظلمة استمرت لأكثر من 17 عاماً. كما اتخذ الرئيس قراراً ثورياً بمنع المناولة في القطاع العمومي وتجريمها، مستنداً إلى الدستور لضمان حق كل مواطن في عمل لائق وبأجر عادل. هذه القرارات أثبتت أن الدولة الوطنية هي الضامن الوحيد للحقوق الاجتماعية، متجاوزة دور الوسيط النقابي الذي أصبح يبحث عن مكاسب سياسية.
لكي يحافظ المكتب التنفيذي الحالي على سطوته، انتهج سياسة “التطهير” والإقصاء ضد كل صوت نقابي حر يعارض التمديد غير الشرعي. لقد تحول الاتحاد تحت قيادة الطبوبي إلى منظمة إقصائية بامتياز، حيث تم تهميش وإقصاء قيادات بارزة مثل محمد علي البغديري والأسعد اليعقوبي بسبب معارضتهم لمخرجات مؤتمر سوسة ورفضهم الانقلاب على الفصل 20. إن استراتيجية الإقصاء هذه تهدف إلى دعم سيطرة شق الطبوبي وإسكات أي معارضة داخلية قد تفضح انحراف المسار النقابي.
بعد أن فقد المكتب التنفيذي دوره كصانع ملوك، انتقل إلى مربع الإرباك المتعمد للدولة للتغطية على انقسامه الداخلي. إن افتعال الأزمات القطاعية والتهديد بالإضرابات لا يهدف لتحسين شروط العمل، بل يسعى لتصدير الأزمة الداخلية للاتحاد إلى الفضاء العام. يريد هذا الشق العودة بتونس إلى نظام التوافقات الهشة حيث يكون الاتحاد هو الطرف الذي يمنح صكوك الغفران للحكومات مقابل الحصانة والامتيازات. إن إرث فرحات حشاد لا يجسده من يتمسك بالكرسي عبر خرق القوانين، بل يجسده من يعيد للعمل قيمته وللعامل كرامته، ويبدو أن بوصلة النضال الاجتماعي قد انتقلت اليوم إلى قرارات السيادة الوطنية التي تضع مصلحة تونس فوق كل اعتبار.



