نزار الجليدي يكتب/تونس بوابة أوروبا إلى إفريقيا ..لماذا تظل موانئها متخلّفة؟
تونس صغيرة في مساحتها ثرية بموقعها الجغرافي الذي منحها فرصة أن تكون بوابة إفريقيا إلى أوروبا .وقد لعبت هذا الدور في التاريخ القديم حتى سمّيت “افريقية” عاصمة لإفريقيا.وكانت ممرا رئيسيا للتحارة البينية بين شمال المتوسط و جنوبه .لكن هذا الدور بدأ في الانحسار تدريجيا لأسباب سنعود لها لاحقا.
فتونس ب 1200كلم من الشواطئ كان يمكن أن لم تعرف كيف تحوّل بحرها إلى قوة تجارية و اقتصادية. وموقعنا في قلب المتوسط يمنحنا ما تحلم به دولٌ أخرى من قرب لاوروبا و اتصال طبيعي بإفريقيا، ومسار بحري يربط الشرق بالغرب. ومع ذلك، لم تصبح تونس قوة في النقل البحري، لا إقليميًا ولا دوليًا، رغم أن الجغرافيا كانت في صفّنا منذ البداية.
زيارة المجموعة الصينية الكبرى المختصة في الخدمات المينائية (Wuhan Yangluo) ليست حدثًا بروتوكوليًا عابرًا، بل إشارة واضحة إلى ما يراه الآخرون في تونس، وما لم ننجح نحن في استثماره بعد. الصينيون لا يزورون الموانئ بدافع الفضول، بل بدافع الجدوى. هم يبحثون عن عقد لوجستي متكامل: موانئ، خدمات، سلاسل إمداد، وربط فعلي بالأسواق.
والسؤال الحقيقي ليس لماذا يهتم الصينيون بما نهمله نحن ، بل لماذا لم نكن نحن في موقع الريادة منذ سنوات.
الخلل ليس في طول السواحل، بل في العقل الذي يديرها. الموانئ التونسية ظلت لسنوات أدوات إدارية تخدم الاستيراد والتصدير المحلي فقط، بدل أن تكون منصات عبور إقليمي “HUB” قادرة على جذب الخطوط البحرية الكبرى.
من المعلوم أنه في عالم النقل البحري، لا يكفي أن يكون لديك ميناء، بل يجب أن يكون سريعًا، موثوقًا، قليل الكلفة، ومتصلًا بعمقه الاقتصادي. هذه هي القاعدة، وتونس لم تطبقها بعد ليس لقلة الإمكانيات بل لبيروقراطية استعمارية لميناء رادس أكبر الموانئ التجارية في البلاد و غيره من الموانئ الصغيرة .
فما يميّز موانئنا مع الأسف هو الاختناق اللوجستي و بطء الإجراءات و ضعف الرقمنة و تعقيد المسالك الديوانية وغياب الربط الحقيقي بالسكك الحديدية والمنصات الصناعية…
كلها عوامل جعلت الموانئ عبئًا على الاقتصاد بدل أن تكون رافعة له. كل ساعة تأخير في ميناء هي ضريبة خفية على المستثمر، وكل يوم انتظار هو سبب إضافي ليختار بلدًا آخر.
ثم هناك مشكلة الحوكمة. فالنقل البحري ليس خطابًا سياديًا ولا ملفًا سياسويًا، بل صناعة تنافسية شرسة. والموانئ التي نجحت في المتوسط لم تنجح بالشعارات، بل بنموذج إدارة صارم و مؤشرات أداء عالية و شراكات واضحة واستثمارات متواصلة.
وحين تتأخر القرارات، يهرب المستثمرون حتى من أبناء جلدتنا. وحين تغيب الرؤية، تسبقك الموانئ المنافسة. والكلّ يعرف الزخم المتوسّطي لهذا القطاع الحسّاس.
المفارقة أن تونس تملك كل مقومات التحول و النجاح التي ذكرنا لكم ما ينقصها هو تسخير الموارد.
والأسئلة التي تطرح من الخبراء و من المستمرين ومن عموم التونسيين وجب إيجاد إجابات لها في شكل إنجازات .وهي هل نريد موانئ تسيّر الاقتصاد، أم موانئ يسيّرها الاقتصاد؟ هل نريد أن نكون عقدة عبور إقليمية، أم مجرد نقطة تحميل وتفريغ محدودة؟
التعاون مع شركاء دوليين، سواء كانوا صينيين أو غيرهم، يمكن أن يكون فرصة حقيقية، لكن بشرط أساسي: أن يكون جزءًا من استراتيجية وطنية، لا تعويضًا عن غيابها. فالشريك يأتي ليكمل رؤية واضحة، لا ليصنعها مكاننا وان صنعها فسيكون أول المستفيدين منها و لنا في مطار النفيضة المستغل من الأتراك أفضل مثال.
إذا أرادت تونس أن تصبح قوة بحرية، فالبداية ليست في توسيع الأرصفة، بل في إصلاح العقل الذي يدير البحر. وهنا، لا بد من فتح الملفات المتعلّقة بالشركة التونسية للملاحة (CTN). ويجب كذلك الضغط على مدة تنفيذ المشاريع عبر التعامل مع شركات تونسية صغيرة الحجم عوض الشركاء الأجانب التقليديين (و الكلّ يعلم عدد المشاريع المعطّلة في البنية التحتية). عندها فقط، تتحول الجغرافيا من نعمة معطلة إلى قوة سيادية واقتصادية حقيقية.
ميناء للمياه العميقة حتمي
لايمكن الحديث عن تطوير التجارة البحرية و جعل تونس تلعب الدور الذي ذكرنا دون احداث ميناء للمياه العميقة يمكن استقبال السفن العملاقة .
فهذا الميناء أصبح ضرورة ملحة بعد وقد تمّ ادراجه مرار في المخططات الحكومية (مشروع ميناء النفيضة) لكن التجاذبات السياسية و المصالح الجهوية عطّلته .
هذا الميناء لابدّ أن يكون بقرار سياسي واضح نظرا لما له من أهمية في دعم القطاع الصناعي وتطوير صناعة السيارات في تونس التي بدأت في التطوّر بشكل واضح . فهذا الميناء سيمثل نقطة حيوية لتسهيل عمليات التصدير والاستيراد، ما يعزّز قدرة المؤسسات الصناعية على استقطاب الاستثمارات الأجنبية وتحقيق النمو الاقتصادي.ويقلّص من فترة انتظار السفن للتفريغ.
وانشاء هذا الميناء العميق ليس مجرد مسألة لوجستية، بل وجب أن يكون جزء من خطة شاملة لتطوير البنية التحتية الصناعية وربطها بالإجراءات الإدارية لتبسيط العمليات، بما يضمن سرعة وكفاءة حركة البضائع والمكونات الصناعية.



