نزار الجليدي يكتب: المقاتلات الروسية سوخوي سو-57 للجزائر… والطريق يمرّ عبر ليبيا - صوت الضفتين

نزار الجليدي يكتب: المقاتلات الروسية سوخوي سو-57 للجزائر… والطريق يمرّ عبر ليبيا

الكاتب و المحلل السياسي نزار الجليدي
الكاتب و المحلل السياسي نزار الجليدي

لم تكن عملية التسليم الهادئة لأوائل طائرات سوخوي سو-57 إلى الجزائر مجرد صفقة تجارية ناجحة، بل كشفت واقعًا استراتيجيًا أعمق: موسكو لم تعد قادرة على إيصال مقاتلاتها من الجيل الخامس دون الاعتماد على حضورها العسكري في ليبيا. فخلف هذا الممر الجوي غير المعلن تتشكّل هندسة نفوذ تمتد من نهر الدون إلى أم البواقي مرورًا بقاعدة الخادم.

روسيا لم تُعلن شيئًا رسميًا. الجزائر أيضًا التزمت الصمت. لكن ما جرى في معرض دبي للطيران 2025 كان كافيًا: موسكو أكدت أنها سلّمت سو-57 لأول زبون أجنبي، وكل المؤشرات تتجه نحو الجزائر. قد تبدو المعلومة عادية في سوق سلاح مزدحم… لولا أن خطّ سير الطائرة لا يمكن تجاهله.

فالمجال الجوي الأوروبي مغلق أمام الطائرات العسكرية الروسية منذ 2022. ومقاتلة سو-57، رغم صفتها الشبحية، تبقى محدودة المدى ولا يمكن نقلها عبر طائرات الشحن الروسية من طراز An-124 دون الإضرار بطلائها الخاص. وبالتالي، لا يبقى للوصول إلى الجزائر سوى خيار واحد: عبور الأجواء التركية ثم الاعتماد على شبكة القواعد التي تسيطر عليها روسيا — مباشرة أو عبر حلفائها — في شرق ليبيا.

هذا الممر، الممتد من مصانع كومسومولسك-على-آمور إلى مدارج أم البواقي، يروي قصة أوسع بكثير من مجرد صفقة تسليح.

 

الجزائر – موسكو: شراكة عسكرية واضحة المعالم

 

ليس سرًّا أنّ الجزائر تُعدّ منذ سنوات طويلة أحد أبرز زبائن الصناعات الدفاعية الروسية. لكن تسليم مقاتلة سوخوي سو-57 يمثّل انتقالًا نوعيًا حقيقيًا. فبالنسبة لروسيا، منح أكثر طائراتها تطورًا لشريك أجنبي يعني أن العلاقة لم تعد تجارية فقط، بل أصبحت تقوم على ثقة استراتيجية صريحة.

على مدى العقد الأخير، كثّفت الجزائر اقتناء المنظومات الروسية — من S-400 إلى Su-30MKA المطوّرة، ومن Mi-28NE إلى غواصات Kilo المحسّنة — لكن لم يحصل أن تجاوزت العاصمتان سقفًا ينطوي على نقل تكنولوجيا تضمّ عناصر الشبحية، وأجهزة الاستشعار الحديثة، ومتطلبات صيانة ثقيلة. فمقاتلة سو-57 لا تُمنح إلا لمن ترى موسكو أنه جزء من “عمقها الاستراتيجي” بشكلٍ أو بآخر.

مصلحة الجزائر واضحة. أولًا، تحديث سلاحها الجوي يعيد وضعها ضمن القوى الجوية الكبرى في الفضاء المتوسطي. ثانيًا، يضمن لها منفذًا مباشرًا إلى تكنولوجيا روسية من الجيل الجديد، في وقت يضع فيه الغرب أمامها جدارًا سياسيًا منذ سنوات.

لكن الخطوة تحمل وزنًا موازياً بالنسبة لروسيا. فالجزائر تمنحها سوقًا مستقرة وذات مصداقية، ومنسجمة سياسيًا مع رؤية تقوم على السيادة الاستراتيجية. وعلى خلاف شركاء آخرين يتقلّبون مع كل دورة انتخابية، لا تغيّر الجزائر اتجاه بوصلتها، وتبحث عن سلسلة توريد عسكرية تمتد لعقود، لعشرين أو ثلاثين عامًا. وهو تمامًا النوع من العلاقات الذي تحتاجه روسيا لترسيخ صادراتها الجوية بعد حرب أوكرانيا.

هكذا تصبح صفقة سوخوي سو-57 امتدادًا طبيعيًا لمسار قائم: تحديث الأسطول الجزائري، تعزيز التعاون الاستخباراتي، وتكثيف التنسيق بين القيادات العسكرية. بالنسبة لموسكو والجزائر معًا، ليست هذه الصفقة حدثًا عابرًا، بل لبنة جديدة في بناء استراتيجي يُشيّد بصبر منذ سنوات.

 

ليبيا… محطة تقنية تحوّلت إلى محور استراتيجي

 

على الورق، تبدو ليبيا مجرد نقطة عبور: محطة للتزوّد أو التفاف اضطراري فرضه غلق الأجواء الأوروبية أمام الطائرات العسكرية الروسية. لكن في الواقع، الأمر يتجاوز بكثير الجانب التقني. فليبيا تتحوّل تدريجيًا إلى واحد من أهم المفاصل اللوجستية في الوجود الروسي جنوب المتوسّط.

لأعوام طويلة، ركّز المراقبون على البعد الأمني: دعم قوات الشرق الليبي، وجود المستشارين، وتعزيز المحاور التي تربط فزّان بالساحل. غير أنّ تسليم سوخوي سو-57 للجزائر كشف عن حقيقة موازية: ليبيا لم تعد مجرّد ساحة نفوذ، بل أصبحت أداة استراتيجية تُمكّن موسكو من الالتفاف على القيود الأوروبية وضمان استمرارية عملياتها نحو شمال إفريقيا والمحيط الأطلسي.

القواعد الجوية في الشرق الليبي — الخادم، القرضابية، الجفرة، براك، ومطار مطّان السّارة — تمنح امتيازًا بسيطًا لكنه حاسم: عمق جغرافي يسمح بتقسيم رحلة طويلة بالنسبة لطائرة شبحية، وإخفاء التحركات تحت غطاء العمليات الجارية أصلًا في المنطقة، والحفاظ على نسق الدعم اللوجستي المطلوب للطائرات من الجيل الجديد التي تحتاج إلى صيانة منتظمة وبيئة مراقبة.

هذا الدور كـ”مفصل خفي” يفسّر لماذا واصلت موسكو تعزيز منشآتها الجوية في ليبيا حتى عندما كانت مواردها مستنزفة على جبهات أخرى. بالنسبة لروسيا، خسارة الوصول إلى الشرق الليبي تعني تقليص قدرتها على التمدّد نحو إفريقيا وتعقيد أي صادرات مستقبلية للطائرات المتقدمة. أمّا بالنسبة للجزائر، فهذا الوجود يُنظر إليه كعامل استقرار: يساهم في تحييد بعض شبكات التهريب عبر الساحل، ويؤمّن ممرًا جويًا مستمرًا يضمن تدفّق الإمدادات بسلاسة.

هكذا يتجاوز الأمر حدود “التوقّف التقني” ليكشف عن واقع استراتيجي كامل: ليبيا، المُنهكة والمجزأة منذ أكثر من عقد، أصبحت منصّة تمكّن موسكو من المحافظة على ما يحاول الأوروبيون منعه — استمرارية التشغيل العسكري. وفي العمق، تُسهم في خلق توازن جيوسياسي يحدّ من الاختراقات الأميركية والأوروبية في شمال إفريقيا.

 

خطوة تعيد رسم موازين القوى في المنطقة

 

وصول سوخوي سو-57 إلى الترسانة الجزائرية لا يقتصر على مجرّد قفزة تقنية. إنه تتويج لمسار تفاوضي طويل، وتأكيد لصلابة الشراكة الاستراتيجية بين الجزائر وموسكو، وخطوة تُغيّر — بشكل غير مباشر — قواعد اللعبة الأمنية في غرب المتوسّط. فامتلاك مقاتلات شبحية متقدّمة يفرض على الجيران — المغرب مثلًا — وعلى الأوروبيين وحلف الناتو، إعادة التفكير في ميزان القوى جنوب أوروبا.

بالنسبة للجزائر، المسألة ليست تصعيدًا عسكريًا بقدر ما هي تحصينٌ للفضاء السيادي والتحكم في بيئة إقليمية ازدادت هشاشة خلال العقد الأخير: فوضى الساحل الإفريقي المستمرة، التفكك البطيء للدولة الليبية، والطموحات المغربية المدعومة غربيًا. في هذا السياق، لم يعد لدى الجزائر خيار انتظار المبادرات الغربية. سو-57 ليست ترفًا ولا أداة بروتوكولية، بل امتداد طبيعي لتفوّق تقني سبق أن رسّخته عبر Su-30 و MiG-29M و Su-24 المطوّرة.

أما بالنسبة لروسيا، فالتحدّي مختلف. القدرة على تسليم مقاتلة من الجيل الخامس رغم العقوبات والحرب في أوكرانيا والضغط الغربي تحمل رسالة واضحة: موسكو ما زالت موردًا موثوقًا للسلاح المتقدم، قادرة على الإيفاء بالتزاماتها، وغير محصورة في مسرحها الأوروبي. وبهذا تتحوّل الجزائر — شاءت أم أبت — إلى واجهة دولية لبرنامج سو-57، موقع يمنحها وزنًا جديدًا في سوق كانت القوى الغربية تعتقد أنها احتكرته تقنيًا.

في أوروبا الجنوبية، لم تمرّ هذه التطورات مرور الكرام. فالدول المطلة على المتوسّط، المثقلة أصلًا بارتداداتالعدوانية الصهيونية في المشرق(حيث تستعمل إسرائيل الآليّات الأوروبية بكل عنجهية) ومحدودية قدراتها الجوية المتآكلة، تجد نفسها أمام لاعب إقليمي يمتلك مقاتلة شبحية تتفوّق — على الورق — على بعض الأساطيل الأوروبية. تدرك فرنسا وإيطاليا وإسبانيا أنّ ميزان القوى الجوي يتغيّر تدريجيًا. ليس لصالح طرف ضد آخر، بل باتجاه خريطة أكثر تعددية، لم تعد فيها الأفضلية مضمونة لأي قطب.

أمّا في المغرب الكبير، فالارتدادات مزدوجة. الجزائر تعزّز موقعها كقوة ضامنة لاستقرار الواجهة الغربية للمتوسّط، بينما يجد المغرب نفسه أكثر ارتباطًا — بل اعتمادًا — على الولايات المتحدة وإسرائيل للحفاظ على هامش من التوازن العسكري، ولو كان ذلك على حساب سباق تسلّح يزيد من هشاشة المنطقة. الرسالة الضمنية واضحة: المعادلات لم تعد تُصنع في باريس أو واشنطن أو بروكسل، بل في الجزائر وموسكو… وبقدر معيّن في أنقرة التي تضع أوراقها بين ليبيا والمتوسط والساحل الإفريقي.

بالنسبة للمتابعين، يمثّل هذا التسليم نقطة تحوّل صامتة لكن حقيقية: الجزائر لم تعد مجرّد قوة إقليمية ثقيلة. إنها اليوم فاعل عسكري قادر — عبر خياراته ومعدّاته وتحالفاته — على التأثير في البنية الأمنية لحوض متوسّطي يعيش واحدة من أسرع فترات إعادة التشكل في تاريخه المعاصر.

 

لوجستيات ترسم حروب الغد

 

المسار الذي سلكته سوخوي سو-57 للوصول إلى الجزائر يروي بحدّ ذاته ما لا يقوله التصريح الرسمي. فالحرب في أوكرانيا أغلقت أمام الطائرات الروسية كامل الأجواء الأوروبية، والعقوبات قطعت مسارات جوّية بأكملها. النتيجة: روسيا مضطرة إلى ابتكار ممرّات جديدة خارج الخرائط الموروثة من الحقبة السوفييتية، ومغرب عربي يتحوّل — تقريبًا بالصدفة — إلى محور لوجستي أساسي لمرور أكثر التقنيات العسكرية حساسية.

العبور عبر تركيا أصبح اليوم محطة إلزامية لأي طائرة روسية تغادر البحر الأسود، ما يجعل أنقرة في موقع “المصفاة” التي لا يمكن تجاهلها. لا عملية استراتيجية تعبر دون ضوء أخضر تركي. إنه نفوذ صامت لكنه فعّال، وتحرص تركيا دائمًا على عدم التضخيم فيه ولا على الصدام المباشر مع موسكو، طالما أنّ العملية تخدم بشكل غير مباشر طموحاتها العسكرية في ليبيا وشرق المتوسط.

أمّا المرحلة الثانية من الرحلة، فهي الأكثر دلالة: الاعتماد الروسي على القواعد الموجودة شرق ليبيا. فمنذ سنوات، أرسى الروس وجودًا ثابتًا في قواعد الخادم والقردابية والجفرة وبراك، إلى جانب مدارج أصغر تُستخدم عند الحاجة. كان يُعتقد أن هذه المواقع مخصّصة لعمليات الساحل والانتشار الأفريقي أو لتثبيت النفوذ. لكن استخدامها في نقل مقاتلة شبحية نحو الجزائر يكشف شيئًا آخر: هذه القواعد أصبحت جزءًا من شبكة عالمية، صُمّمت للتحايل على القيود الغربية وضمان قدرة موسكو على تنفيذ عقودها العسكرية.

وهذه ليست تفصيلة عابرة. في عالم المقاتلات الشبحية، المسافة عدوّ قاتل. فطلاء الامتصاص يتلف سريعًا، والطائرة تحتاج إلى صيانة دقيقة، وأي خطأ في مسار العبور قد يكلّف ملايين الدولارات. لذلك، استخدام ليبيا كمحطة ليس خيارًا مريحًا، بل بنية تحتية استراتيجية تتيح لروسيا البقاء طرفا فاعلا في سوق الطائرات من الجيل الخامس. وهكذا تتحوّل الجزائر من “زبون” إلى شريك جغرافي يسمح لجسرٍ يمتد بين أوراسيا وأفريقيا أن يبقى مفتوحًا.

هذا “الممر الجوي” الجديد يفضح أيضًا محدودية عالم تحرّكت فيه التكنولوجيا بسرعة أكبر من السياسة. الغرب فرض العقوبات، لكنه لم يتوقّع أثرها الارتدادي على المسارات الجوية البعيدة. الولايات المتحدة تتحكّم بالأجواء الأطلسية، لكنها لا تتحكم بمسالك الجنوب المتوسطي. أما الأوروبيون، المنشغلون بالبلطيق وبحر الشمال، فيكتفون بمشاهدة مشهد استراتيجي يجري فوق بنغازي وسرت والجفرة… بعيدًا عن رادارات الناتو.

وفي الخلفية، يتكرّس استنتاج واضح: اللوجستيات تعود لتصبح مكوّنًا محدِّدًا للقوة. من يملك الطرق — برًا وبحرًا وجوًا — يملك موازين القوى. روسيا تعرف ذلك، الجزائر تستفيد منه، وليبيا — رغم فوضاها السياسية — تتحوّل إلى محور جيواستراتيجي لم يكن في حساب أحد.

 

طائرة واحدة… ممر واحد… وانعطافة صامتة

 

تسليم سوخوي سو-57 إلى الجزائر لم يكن مجرّد صفقة طيران عسكري. كان استعراضًا هادئًا لكن حاسمًا لكيف تُصنع الجغرافيا السياسية الحقيقية بعيدًا عن البيانات الغربية. يكشف عالمًا لم تعد فيه العقوبات والتحذيرات والإنذارات الدبلوماسية كافية للتحكّم في المشهد. فبينما تكرّر واشنطن وبعض العواصم الأوروبية الخطاب نفسه، تتقدّم قوى أخرى بثبات: تعيد رسم الممرّات الجوية، تعيد هيكلة تحالفاتها، وتشيّد طرق قوّتها بعيدًا عن الضوضاء.

تكشف العملية أيضًا إعادة توزيع صامتة للأدوار. ليبيا الممزّقة قادرة — بفعل تغيّر اللوحة الاستراتيجية — على أن تصبح حلقة مركزية في لوجستيات التكنولوجيا العالية. والجزائر، الهادئة لكن الواثقة، ترسّخ صعودًا عسكريًا لم يعد بإمكان أحد — حتى خصومها التقليديين — تجاهله. أمّا روسيا، فرغم ثقل الحرب والضغط الغربي، تواصل تصدير ما يدّعي الغرب أنّه قادر على منعه: القدرة على نقل تكنولوجيا متطورة، وصون شراكات طويلة الأمد، وتجاوز العوائق المفروضة عليها.

في هذا المشهد، لا أحد يرفع صوته… لكن الجميع يتحرّك. روسيا تختبر مدى نفوذها؛ الجزائر تؤكّد خياراتها الاستراتيجية؛ تركيا تضمن أن تبقى لاعبًا لا يمكن الالتفاف عليه؛ والأوروبيون يكتشفون — غالبًا بعد فوات الأوان — أنّ طرق القوة لم تعد تمرّ فقط عبر عواصمهم ولا عبر معاييرهم.

في النهاية، هذه الـ سو-57 لم تعبر ألفي ميل بحري فحسب. لقد عبرت مرحلة كاملة. وأثبتت أن الخريطة الاستراتيجية للقرن الواحد والعشرين تُرسم بقدر ما تُرسم في مدارج الشرق الليبي كما في صالات القمم الدولية. وأنّ أولئك الذين يعتقدون أنهم قادرون على فرض خطوطهم الحمراء على العالم، يجدون الآن إجابة مختلفة: الوقائع، ومسارات الطيران، وخيارات الدول التي ترفض أن تُدفع إلى الهامش.

شارك المقال

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

French