هل قانون المالية لسنة 2026 يمثل حقا الإقلاع ؟ - صوت الضفتين

هل قانون المالية لسنة 2026 يمثل حقا الإقلاع ؟

بقلم محمد أمين الجربي

في كل عام، ومع إعلان قانون المالية والميزانية، تتجدد الأسئلة حول الرؤية الاقتصادية لتونس. للأسف، تُظهر قراءة معمّقة لميزانية 2026، كما سابقاتها، أننا ما زلنا ندور في حلقة مفرغة، نكرر فيها نفس الهيكلة المالية والمنوال التنموي الذي وُلد في سبعينات القرن الماضي.

هذا المنوال، الذي قام على التحكم المركزي للدولة والازدواجية الاقتصادية (قطاع مُوجه للتصدير وآخر محلي مُهمَل)، لم يعد قادراً على تحقيق النمو المستدام أو العدالة الاجتماعية. لقد كان المنوال التنموي الذي تبنته تونس بعد فشل التجربة التعاونية في الستينات، منوالاً مُوجَّهاً من الدولة، حيث لعبت الحكومة دوراً نشطاً في القطاعات الاستراتيجية وفرضت حواجز على المنافسة في قطاعات واسعة من الاقتصاد المحلي. ورغم نجاحه الأولي في تحقيق نمو سريع وتقليص الفقر، إلا أنه سرعان ما وصل إلى طريق مسدود، مخلفاً وراءه تفاوتات جهوية واجتماعية عميقة واقتصاداً ريعياً يخدم فئة محدودة.

إن الثابت المشترك في ميزانياتنا هو الهيكلة المالية التي تعكس هذا الإرث:

• 60% جباية مباشرة وغير مباشرة: عبء يقع بشكل أساسي على كاهل الأجراء والمستهلكين.

• 30% اقتراض داخلي وخارجي: اعتماد مُفرط على الدين لسد العجز التشغيلي.

• 10% موارد ذاتية: ضعف في توليد الثروة الحقيقية.

هذا التوزيع، الذي لم يتغير، يؤكد أن السياسات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية بقيت تقليدية، غير وطنية وغير شعبية، ونتيجتها الحتمية هي أزمة ثقة، وتراجع الخدمات الأساسية، وغلاء معيشة لا يطاق.

أولاً: الجباية والاقتراض.. أدوات لتكريس الأزمة

1. الجباية: عبء المواطن وغياب العدالة الضريبية

إن المداخيل الجبائية (47.77 مليار د) تأتي بنسبة 80% من جيب المواطن البسيط (أجرة، متقاعد، مستهلك)، بينما يساهم أصحاب رؤوس الأموال بـ20% فقط، رغم أنهم يمتلكون نحو 80% من الثروة. هذا التوزيع يمثل إجهاضاً لمبدأ العدالة الجبائية وتكريساً للفوارق الاجتماعية.

الأدهى من ذلك هو إدراج رسوم إضافية جديدة في قانون المالية (مثل الرسوم على شحن الرصيد أو الفواتير)، وهي إجراءات ابتزاز تُثقل كاهل الفئات الهشة ولا تستهدف تضييق الفجوة مع الأثرياء. إنها مقاربة مالية تهدف إلى جباية العجز بدلاً من جباية الثروة.

2. الاقتراض: تمويل العجز لا التنمية

حجم الاقتراض المخطط له (حوالي 27.06 مليار د) يمثل 32.4% من الميزانية، بينما بلغ الدين العام نحو 80% من الناتج المحلي الخام. الكارثة ليست في حجم الدين، بل في استخدامه. فبدلاً من توجيه هذه القروض لمشاريع استراتيجية كبرى تخلق الثروة، تُستخدم لسداد قروض سابقة والتغطية العاجلة للعجز التشغيلي.

• الاقتراض الداخلي (19.06 مليار د) يخنق السيولة المصرفية، ويحدّ من تمويل القطاع الخاص، ويجعل البنوك غير قادرة على منح قروض إنتاجية للمشاريع الصغيرة والمتوسطة.

• التمويل المباشر من البنك المركزي (11 مليار د) يرفع التضخم بضخّ سيولة دون مقابل تنموي، مما يفاقم الأزمة المعيشية.

إن هذا المسار المالي هو تكرار لأخطاء الماضي، حيث يتم التركيز على “التوازن المالي” الهش بدلاً من “النمو المستدام” القائم على الاستثمار المنتج.

ثانياً: المنوال التنموي الجديد.. القطع مع الازدواجية والمركزية

إن الخروج من هذه الدائرة المفرغة يتطلب جرأة سياسية واقتصادية للقطع مع المنوال القديم وتبني منوال تنموي وطني جديد، يضع المواطن والجهوية في صلب اهتمامه. يجب أن يقوم هذا المنوال على ثلاثة محاور رئيسية: العدالة الجبائية، الاستثمار المنتج، واللامركزية الاقتصادية.

1. العدالة الجبائية والاجتماعية: تحويل العبء إلى الثروة

يجب أن يكون إصلاح النظام الضريبي هو المدخل الأول للعدالة:

• تطبيق ضريبة تصاعدية على الثروات والأرباح العالية، وإعادة النظر في الامتيازات الجبائية الممنوحة للوبيات الاقتصادية.

• توسيع قاعدة الضريبة لتشمل الاقتصاد الرقمي والخدمات المالية غير الخاضعة للرقابة الكافية.

• إعفاء المتقاعدين والشرائح الهشة من الضريبة المباشرة على الدخل لرفع قدرتهم الشرائية.

هذا التحول يضمن أن تكون الجباية أداة لإعادة التوزيع وليس أداة لجباية الفقر.

2. الاستثمار المنتج: من 6% إلى 40%

لا يمكن الاكتفاء بـ 5 مليار د (6.3% من الميزانية) للاستثمار، الجزء الأكبر منها مخصص لمشاريع جارية. إن هذا الرقم يعكس غياب الأولويات الحيوية في قطاعات الصحة والتعليم والنقل.

يجب ترشيد الاقتراض بوضع سقف لا يتجاوز 50% من الناتج المحلي، وتوجيه القروض المتبقية حصراً لقطاعات استراتيجية ذات قيمة مضافة عالية:

• الطاقة المتجددة: لضمان السيادة الطاقية وخلق فرص عمل خضراء.

• البنية التحتية الرقمية: لتمكين الاقتصاد الرقمي والشركات الناشئة.

الأهم هو إعادة ضبط أولويات الاستثمار بتخصيص نسبة لا تقل عن 40% من ميزانية الاستثمار للصحة والتعليم خلال ثلاث سنوات، لضمان جودة الخدمات العامة التي هي أساس التنمية البشرية.

3. اللامركزية الاقتصادية والتنويع الجهوي

إن المنوال القديم كرس المركزية المفرطة، المنوال الجديد يجب أن يقطع مع هذا الإرث عبر:

• التنويع الاقتصادي الجهوي: التركيز على الميزات التنافسية لكل جهة بدلاً من نموذج موحد.

• فلاحة متطورة: ترشيد استهلاك المياه، الزراعة العضوية، وتصدير منتجات عالية القيمة في المناطق الداخلية.

• صناعة خفيفة ومتوسطة: دعم حواضن المشاريع الناشئة وتكنولوجيا المعلومات في المدن الجامعية.

• سياحة بديلة ومستدامة: تطوير السياحة البيئية والثقافية في المناطق غير الساحلية.

• تعزيز الشفافية والمساءلة: إنشاء مجلس رقابة مالي مدني مستقل يرصد تنفيذ المشاريع الجهوية، ونشر سنوي لتقرير أداء الميزانية بالمؤشرات الحقيقية (نمو، تضخم، بطالة).

 لا مقايضة على مستقبل المواطن

إن ميزانية 2026، برؤيتها الضيقة وأرقامها المكررة، لا تفتح أفقاً لتونس القادرة على الانتعاش. المطلوب هو القطع الجذري مع منوال السبعينات الذي أثبت فشله في تحقيق التنمية الشاملة.

يجب أن نعلن بوضوح: إلى هنا كان “التكرار”، ونبدأ فصلاً جديداً من الإصلاح الحقيقي. المواطن التونسي لا يتحمل مزيدًا من السياسات المعكوسة؛ بل يحتاج إلى منوال تنموي يضعه في صلب الاهتمام، يصون كرامته، ويؤمن له مستوى لائقاً من العيش، منوال لا يكتفي بـ “التوازن المالي” على حساب العدالة الاجتماعية والنمو المنتج. هذا هو ثمن السيادة الحقيقية.

شارك المقال

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

French