الكاتب و المحلل السياسي نزار الجليدي يكتب : أردوغان، صديق الجميع وعدوّ الكلّ: أوروبا في مرمى الاستهداف

تقدّم تركيا نفسها بوصفها وريثة إمبراطورية زائلة، وتدّعي اليوم الدفاع عن الشعوب المسلمة وبناء تحالفات في كل اتجاه. لكن خلف الخطاب العثماني الجديد لأردوغان، يبرز استنتاج واحد: أوروبا، الضعيفة والمنقسمة، هي الأفق الاستراتيجي لطموحاته.
يحبّ رجب طيب أردوغان اللعب بالرموز. ففي قصره بأنقرة، كل تفصيل يذكّر بتركيا الإمبراطورية، فخورة بماضيها ومتطلّعة إلى مستقبل يدّعي أنّه بصدد انتزاعه. أما في الخارج، فيلبس خطابه إشارات إلى السلاطين وإلى مفهوم “الوطن الأزرق” الذي يُفترض أن يوسّع النفوذ التركي على المتوسّط. غير أنّ هذه الصور تخاطب أساساً الرأي العام التركي الداخلي.
وعلى الساحة الدولية، يعتمد الرئيس التركي نهجاً أكثر براغماتية: يشتري طائرات حربية أوروبية فيما يروّج لمقاتلة “وطنية”، يندّد بإسرائيل مع الحفاظ على تجارة نشطة معها، ويظهر إلى جانب بوتين وشي جين بينغ من دون أن يقطع العلاقات مع حلف الناتو. صديق لموسكو وواشنطن والممالك العربية والصين في آن واحد، يتقن أردوغان فنّ التناقض الدبلوماسي والخطاب المزدوج.
هذا التوازن الهش ليس ارتجالياً، بل يعكس طموحاً محدّداً: جعل تركيا طرفا لا يمكن تجاوزه في القارّة الأوروبية. فمهما تمدّد حضور أنقرة في المغرب العربي أو الشرق الأوسط أو آسيا الوسطى، تبقى أوروبا مجال النفوذ الأهم: الاتحاد الجمركي، التبعية في مجال الطاقة، ورقة الهجرة، وجوار البلقان حيث يتسع النفوذ التركي باستمرار.
ازدواجية الخطاب المدروسة: الشراء من الغرب والتبشير بالاستقلالية
تُظهر أنقرة استقلالها العسكري في العلن، لكن خياراتها تكشف في الواقع اعتماداً محسوباً. فشراء عشرين مقاتلة “يوروفايتر تايفون” من بريطانيا وألمانيا وإسبانيا وإيطاليا — في صفقة قاربت ثمانية مليارات جنيه إسترليني وُقّعت نهاية الأسبوع الماضي — يلخّص هذا التناقض. رسمياً، يُفترض أن تسدّ هذه الطائرات فجوة مرحلية في القدرات إلى حين دخول مقاتلة “قآن” (KAAN)التركية من الجيل الخامس حيّز الخدمة. لكن عملياً، تُبقي تركيا ضمن المظلّة التكنولوجية لحلف الناتو وتؤمّن لها تكاملاً كاملاً مع القوات الأوروبية.
الخطاب الرسمي يتغنّى بـ “الاستقلال الوطني” و”عصر قآن” الذي سيحرّر أنقرة من قيود الغرب. أردوغان يضاعف الإعلانات الاستعراضية حول هذا المشروع، المروَّج له كواجهة للصناعة العسكرية التركية. غير أنّ الواقع أقلّ بريقاً: محرّكات المقاتلة ما زالت مستوردة، وسلاسل الإمداد تعتمد بدرجة كبيرة على مزوّدين غربيين، والتأخيرات المتكرّرة تعكس هشاشة البرنامج.
هذا التناقض بين الخطاب والممارسة ليس صدفة. أردوغان يخاطب قاعدته القومية برواية “تركيا مكتفية بذاتها”، فيما يتفاوض بهدوء مع لندن وبرلين ليبقى مرتبطاً بالمنظومة الدفاعية الأوروبية. في مجال الطيران، تعزف أنقرة لحناً مزدوجاً: تتحدث عن السيادة في أنقرة، لكنها تثبّت نفوذها في أوروبا.
“الوطن الأزرق”: البحر كساحة توسّع
إذا كانت أنقرة تعوّض تأخرها في الجو عبر المشتريات الخارجية، فهي تراهن في البحر على إبراز تفردها. فالعقيدة المعروفة بـ “الوطن الأزرق” (Mavi Vatan) تعتبر شرق البحر الابيض المتوسط منطقة توسّع حيوية. تحت هذا المفهوم، تنشر تركيا طائرات مسيّرة بحرية، فرقاطات محدّثة وأسطول غواصات آخذ في التوسع. الهدف واضح: إحكام السيطرة على مياهها، منازعة اليونان وقبرص في مناطق النفوذ الاقتصادية الحصرية، وفرض نفسها كطرف لا غنى عنه في تقاسم موارد الغاز.
هذا النزوع البحري مدعوم بجهد صناعي متواصل. فالمسيّرات “بيرقدار”، التي اكتسبت سمعة عالمية اثر استعمالها في ليبيا وأوكرانيا، جرى تكييفها اليوم للاستخدام البحري. وهي تراقب بحر إيجه وتعرض صورة تركيا كقوة تكنولوجية صاعدة. لكن الاستقلال هنا أيضاً نسبي: كثير من المكوّنات الأساسية يأتي من أوروبا أو كندا، فيما تلجأ أنقرة إلى الالتفاف على الحظر عبر اتفاقات تجارية موازية مع قطر أو أذربيجان.
وتتجاوز الاستراتيجية البحرية لأردوغان حدود المتوسط. ففي ليبيا، ترسخت الوجودات العسكرية التركية حول مصراتة كنقطة ارتكاز لوجستي نحو شمال إفريقيا. وفي البحر الأحمر، تعزز أنقرة شراكتها مع السودان، الذي كان قد منحها لفترة امتيازاً لإدارة جزيرة سواكن قبل أن يتراجع جزئياً عنه. هذه المحطات البحرية لا ترقى بعد إلى شبكة مماثلة لتلك التي نسجتها الصين، لكنها تعكس إرادة واضحة: تقديم تركيا كقوة بحرية منافسة لفرنسا وإيطاليا في معاقلها الاستعمارية السابقة.
إفريقيا والخليج: واجهات قوة وتناقضات
في إفريقيا، فرض أردوغان نفسه زائراً دائماً. سفارات تُفتتح تباعاً، منتديات اقتصادية، وتوسيع للخطوط الجوية: خلال عقد واحد نسجت تركيا شبكة دبلوماسية كثيفة. لكن الواجهة الاقتصادية تخفي أجندة أكثر صلابة. ففي مقديشو، تحتضن قاعدتها العسكرية كتائب كاملة وتوفر منفذاً على المحيط الهندي. وفي الساحل، تجد طائراتها المسيّرة زبائن بين أنظمة قطعت مع أوروبا، خاصة في بلدان غرب إفريقيا التي تحكمها اليوم مجالس عسكرية. أما في ليبيا، فيدافع مستشاروها العسكريون وشركات الأمن التركية عن طرابلس، محوّلين البلد إلى حقل تجارب لصناعة الدفاع التركية.
أما الشرق الأوسط فيقدّم مسرحاً آخر للتناقضات. أردوغان يتصدّر خطابياً الدفاع عن القضية الفلسطينية ويهاجم تل أبيب، لكن التجارة الثنائية مع الكيان الصهيوني بلغت مستويات قياسية. مع قطر، تبقى الشراكة الأيديولوجية حول جماعة الإخوان المسلمين حيّة؛ ومع الرياض وأبوظبي، نجح في طيّ الخلافات لاستعادة العقود، خصوصاً في مجالات المالية والبنية التحتية. الدبلوماسية التركية تتغذى من هذه الانعطافات السريعة: عدو الأمس يصبح حليف الغد متى اقتضت المصالح المالية أو العسكرية ذلك.
هذه المرونة تمكّن أنقرة من ملء الفراغات التي يتركها الأوروبيون. لكنها تكشف أيضاً حدود استراتيجية تُبنى على الفرص أكثر مما تقوم على الانسجام. فخلف الخطاب الأخوي، هناك سياسة تمركز محسوبة، هدفها توسيع مجال النفوذ التركي في مناطق يتراجع فيها الغرب.
أوروبا: ساحة الطموح القصوى والهشاشة
ما وراء المتوسط أو المغرب العربي، تتجه طموحات أردوغان أساساً نحو أوروبا. فهناك يملك أدوات ضغط قوية: تدفقات الهجرة، التجارة، الطاقة، وجالية نشطة. اتفاق 2016 مع بروكسل أضفى الطابع الرسمي على ميزان القوى هذا: كل تهديد بـ”فتح الأبواب” وترك اللاجئين يعبرون نحو اليونان أو البلقان يُترجم بتنازلات مالية أو دبلوماسية. وفي ألمانيا وفرنسا وهولندا، تتحول الجاليات التركية إلى قنوات سياسية يعرف نظام أنقرة كيف يوظفها.
البعد الاقتصادي يعزز هذا الارتباط المتبادل. نحو نصف الصادرات التركية تتجه إلى الاتحاد الأوروبي. وفي الوقت نفسه، تطرح أنقرة نفسها ممراً للطاقة لا يمكن تجاوزه بفضل أنابيب الغاز التي تربط بحر قزوين وروسيا بعمق القارة. هكذا يلعب أردوغان على حبلين: يقدم نفسه كضامن لأمن الطاقة، وفي الوقت ذاته يصعّد التوتر في شرق المتوسط، دافعاً اليونان وقبرص إلى ردود عسكرية.
كما تمتد تأثيراته إلى الجانب الثقافي والديني. عبر مؤسسة “ديانت”، تموّل تركيا وتشرف على مئات المساجد في أوروبا الغربية. كل جدل حول العلمانية أو الإسلاموفوبيا يتحول إلى ساحة مواجهة يسعى فيها أردوغان للظهور كحامٍ لمسلمي أوروبا. هذه الاستراتيجية تضعف المجتمعات الأوروبية بنقل الانقسامات السياسية التركية إلى أراضيها.
أردوغان لا يحلم بغزو عسكري، بل بدور المتطفل الدائم داخل آليات أوروبا. فهو عضو في الناتو، شريك تجاري رئيسي، وفاعل ديموغرافي بفضل جاليته، أي أن تركيا موجودة أصلاً في “البيت” الأوروبي. الخطاب العثماني الجديد يغازل الرأي الداخلي؛ أما المعركة الحقيقية فتجري في بروكسل وبرلين وباريس، حيث يسعى أردوغان إلى تحويل كل ضعف أوروبي إلى ورقة سياسية بيده.
نحو أوروبا تحت ضغط تركي
خلال السنوات الخمس إلى العشر المقبلة، من المتوقع أن يزداد توتر ميزان القوى بين أنقرة وبروكسل. فتركيا ليست بحاجة إلى مواجهة مفتوحة – حتى على المستوى الدبلوماسي – كي تفرض نفسها؛ لقد اختارت نهج التآكل التدريجي للدفاعات السياسية الأوروبية. كل أزمة تتحول بالنسبة لأردوغان إلى فرصة: أزمة الهجرة، ارتفاع أسعار الطاقة، التوترات في شرق المتوسط، والانقسامات داخل الناتو. في كل مرة، تضع أنقرة نفسها كوسيط لا غنى عنه، بينما تغذي في الوقت ذاته بؤر التوتر التي تمنحها هذا الدور.
رؤية تراجع الاتحاد الأوروبي المستمر تغذي هذه الاستراتيجية. التوسّع نحو الشرق يثير الانقسامات بين العواصم، الاعتماد على الطاقة يبقى عالياً، والرأي العام يشكك في فعالية الاتحاد الأوروبي تحت قيادته الحالية. أردوغان يوظف هذه الهشاشات: يدعم التيارات السياسية الأوروبية التي تطمح إلى الإنفصال عن الاتحاد الاوروبي، يشجع الانقسامات الداخلية، ويسعى إلى جعل تركيا شريكاً لا يمكن تجاوزه. سلاح الهجرة يظل أداته المفضلة، لكن الطاقة والتجارة توفران أوراقاً إضافية لإبقاء أوروبا في حالة تبعية نسبية.
هذا الأسلوب لا يستهدف غزواً عسكرياً، بل تحكماً سياسياً موزعاً. فتركيا لا تحلم برفع علمها فوق أثينا أو باريس؛ إنما تطمح إلى فرض أولوياتها الاستراتيجية داخل المنظومة الأوروبية نفسها. التأثير على السياسة المتعلقة بالهجرة، فرض رؤيتها في المتوسط، انتزاع تنازلات صناعية وأمنية: كلها أهداف واقعية لقوة تركية تعرف جيداً إنقسامات جارتها الغربية.
بكلمات أخرى، الخطاب العثماني الجديد يخاطب الرأي العام الداخلي، لكن الساحة الحاسمة هي أوروبا. أردوغان لا يسعى لإحياء إمبراطورية اندثرت، بل إلى تحويل الاتحاد الأوروبي إلى فضاء يعيش تحت ضغط دائم، مضطر إلى التعامل مع أنقرة في كل الملفات الكبرى. هنا يكمن طموحه الحقيقي على المدى الطويل: ليس الحكم على أنقاض بيزنطة، بل الجلوس، على طريقته، إلى طاولة القوى التي ترسم مستقبل القارة العجوز.
أردوغان لا يبني إمبراطورية بخطوط مرسومة على الخرائط، بل يشيّد نفوذاً بالتسلل، مستفيداً من ثغرات جيرانه وجمود المؤسسات الأوروبية. لفتاته الاستعراضية في المتوسط أو إفريقيا تثير إعجاب قاعدته الشعبية، لكن المعركة الجوهرية تدور في العواصم الأوروبية حيث تُحسم قضايا الهجرة والطاقة والأمن وتوازن الاتحاد الداخلي.
رهانه واضح: ليس استعادة الماضي، بل التأثير في مستقبل القارة الأكثر هشاشة سياسياً. أوروبا لا تواجه تهديداً قادماً من أطرافها الشرقية أو من الضفة الأخرى للأطلسي؛ بل تتعامل بالفعل مع شريك مزعج يصف نفسه بالحليف فيما يهز ثوابتها. أردوغان ليس فقط صديق الجميع وعدو الكلّ؛ بل هو الضيف الدائم على أوروبا التي، في غياب استراتيجية واضحة أو قوة عسكرية حقيقية أو اقتصاد متماسك، تترك له حرية اختيار المكان الذي يشغله على طاولة القرار فيها.



