الكاتب و المحلل السياسي نزار الجليدي يكتب: باكستان، الورقة الصينية التي تعيد رسم الخليج العربي - صوت الضفتين

الكاتب و المحلل السياسي نزار الجليدي يكتب: باكستان، الورقة الصينية التي تعيد رسم الخليج العربي

الكاتب و المحلل السياسي نزار الجليدي
الكاتب و المحلل السياسي نزار الجليدي

منذ الضربة الإسرائيلية في 9 سبتمبر الماضي بقطر، تتابعت سلسلة من الاتفاقات والضمانات أعادت تشكيل المشهد الإقليمي. الولايات المتحدة شدّت المظلّة الأمنية فوق الدوحة، السعودية ارتبطت عسكرياً بباكستان، فيما عزّزت الصين حضورها عبر الوكالة. في هذه المعادلة الجديدة، لا تبدو إسلام آباد كفاعل مستقل بقدر ما تظهر كأداة منضبطة ضمن استراتيجية صينية تمتد اليوم من كشمير إلى الخليج العربي.

في 9 سبتمبر، الهجوم الإسرائيلي على الدوحة، الذي كان يفترض أن يرهب المقاومة الفلسطينية، أنتج العكس: كشف هشاشة حليف مركزي للولايات المتحدة، وهو مضيف القاعدة الجوية الامريكية العملاقة العديد. بالنسبة لواشنطن، لم يكن ممكناً ترك أي شك حول مصداقية مظلّتها الأمنية. وخلال أقل من ثلاثة أسابيع، أصدرت البيت الأبيض مرسوماً ينصّ على “ضمانة أمنية” لقطر: التزام سياسي قوي، لا يرقى إلى مستوى معاهدة دفاع تلقائي، لكنه يرسم خطاً أحمر — لا تمديد للحرب الإبادة التي يشنّها الكيان الصهيوني إلى الدول الحليفة للأمريكيين.
هذه الضربة عملت أيضاً كصدمة كهربائية في عواصم الخليج. الرياض، الدوحة وأبوظبي، التي تنافست طويلاً في الملفين الفلسطيني واليمني، ضيّقت الصفوف. وبعد أسابيع قليلة، دعت مصر إلى قمة في شرم الشيخ لربط البحث عن وقف إطلاق النار في غزة — وفق خطة ترامب — بتحالف دبلوماسي أوسع. الرسالة كانت واضحة: التصعيد الإسرائيلي يهدّد الاستقرار الجماعي، والردّ يجب أن يكون منسّقاً.
في مناخ التوتر العام، كانت السعودية قد قطعت خطوة إضافية. ففي 17 سبتمبر، وقّعت مع باكستان اتفاقاً عسكرياً يتجاوز المناورات الرمزية، وبدأت معالمه تتضح بدايات أكتوبر. قابلية التشغيل المشترك، التدريب، تبادل المعلومات الحساسة: كلها عناصر تعزّز العمق الاستراتيجي السعودي. لكن خلف الزيّ الباكستاني، رأى كثيرون توقيعاً آخر، أكثر خفوتاً: توقيع الصين، المهندس الحقيقي للممرات التي تربط شينجيانغ بموانئ بحر العرب.

الرياض – إسلام آباد: ميثاق يخدم ثلاث عواصم

تمّ توقيع الاتفاق العسكري بين السعودية وباكستان قبل أقل من شهر، ولا يمكن اختزاله في صورة رسمية أو وعد بمناورات مشتركة. هو يكرّس تحوّلاً صامتاً: الرياض لم تعد تكتفي بشراء السلاح الغربي لتأمين أراضيها، بل تسعى اليوم إلى عمق عسكري إقليمي. وبالتوجّه نحو إسلام آباد، تراهن المملكة على قوة مسلمة سنية تمتلك السلاح النووي، قادرة على نشر قوات متمرّسة وتوفير ردع ضمني أمام التهديدات الإيرانية كما أمام التهورات الإسرائيلية.
أما بالنسبة لباكستان، فالصفقة تمثل فرصة ذهبية. بقبولها لعب دور الحارس العسكري للرياض، تعزز إسلام آباد موقعها كقطب في الهلال السني. تحصل على تمويلات، وعلى منفذ مميز إلى تدفقات النفط من الخليج، والأهم اعتراف استراتيجي يتجاوز الإطار الثنائي. الاتفاق يفتح الباب أمام تعاون واسع: تدريب ضباط سعوديين في الأكاديميات الباكستانية، نقل تقنيات مزدوجة الاستخدام، تبادل معلومات استخبارية في مسارح حساسة مثل اليمن وبلاد الشام. آليات تجعل من باكستان ركيزة لا غنى عنها في أمن المنطقة.
لكن الرهان يتجاوز العاصمتين. خلف هذا التقارب، تلوح خطة صينية واضحة. منذ عقد من الزمن، نسجت بكين مع إسلام آباد علاقة عضوية عبر الممر الاقتصادي الصيني – الباكستاني (CPEC)، العمود الفقري الفعلي لمبادرة “الحزام والطريق”. ميناء غوادر، الذي جرى تحديثه بكلفة باهظة على أيدي شركات صينية، يربط شينجيانغ بالمياه الدافئة للمحيط الهندي. وبإسناد جيشها إلى الجيش الباكستاني، تدخل السعودية – بشكل غير مباشر – في هندسة أمنية مرسومة في بكين. وفوق ذلك، فقد تم اختبار مصداقية الصين تجاه باكستان في أزمات آسيا الوسطى. المشهد بعيد كل البعد عن وعود واشنطن التي تتغيّر مع كل إدارة جديدة.
هذا الدور كناقل استراتيجي تتولاه باكستان عن وعي. بالنسبة لبكين، لا حاجة لرفع العلم على قاعدة عسكرية في الخليج أو نشر قوات خارجية. يكفي أن تلعب إسلام آباد دور الامتداد الصامت لاستراتيجيتها. ضابط باكستاني يتدرّب في الرياض، وحدة تُرسَل لحماية محطة نفطية، كتيبة تُخصّص للدفاع الجوي السعودي: خلف كل حضور، تكسب بكين خانة إضافية على رقعة الشطرنج.
اللعبة على ثلاثة مستويات تكشف الكثير. بالنسبة للرياض، الهدف تنويع الداعمين العسكريين في وقت تتعرض فيه العلاقة مع واشنطن للاهتزاز بفعل تناقضات الإبادة الإسرائيليةللشعب الفلسطيني في غزة، التي تتسع رقعتها مع تصاعد جنون نتنياهو. بالنسبة لإسلام آباد، الهدف استثمار سلاحها النووي وجيشها الضخم للحصول على موارد مالية وسياسية. أما بكين، فالعملية تعكس منهجها: التقدّم عبر الحلفاء، تشبيع الساحة الدبلوماسية من دون انكشاف مباشر، وبناء هندسة أمنية تديرها الصين من وراء الستار.
الميثاق إذن ليس مجرد اتفاق ثنائي. إنه يجسّد إعادة تشكيل استراتيجية تسعى فيها كل عاصمة وراء مصالحها، بينما تمسك الصين بالخيوط. السعوديون يشترون عمقاً استراتيجياً، الباكستانيون يبيعون الردع النووي، والصينيون يوسّعون مجال حركتهم. وفي النهاية، يتغيّر توازن الخليج العربي مع بروز فاعل غير متوقع في الواجهة: باكستان، وقد غدت رأس الحربة لقوة تفضّل إدارة المشهد من الظل (الصين).

بكين تتقدّم بسلاسة: غوادر، أوبك وما بعدها

لفهم الأسلوب الصيني، يجب تجاوز الخطاب الرسمي وتتبع خريطة البنى التحتية. بكين لا تتحرّك عبر قواعد عسكرية صاخبة أو تحالفات استعراضية، بل تنسج، قطعة بعد أخرى، شبكة ممرات تضمن أمنها الطاقي وإسقاط قوتها الجيوسياسية. باكستان تقع في قلب هذا التصوّر.
ميناء غوادر، الذي جرى تحديثه بفضل الاستثمارات الضخمة للممر الاقتصادي الصيني – الباكستاني، يجسّد هذه المنهجية. يقع عند مصبّ خليج عُمان، ويمنح الصين منفذاً مباشراً إلى البحار الدافئة، بعيداً عن عنق زجاجة مضيق ملقا الذي يمرّ عبره نحو 60% من وارداتها النفطية. غوادر أكثر من مجرد ميناء: هو قاعدة خلفية اقتصادية وعسكرية محتملة. حوله نشأت مناطق صناعية مرتبطة عبر الطرق السريعة والسكك الحديدية بإقليم شينجيانغ، ما يسمح للصناعة الصينية بتقصير سلاسل التوريد وتجاوز نقاط الضعف التي قد تستغلها البحرية الأمريكية أو الهندية.
الاتفاق الدفاعي السعودي – الباكستاني جاء ليعزّز هذه الهندسة. فالتدفقات النفطية السعودية أو القطرية العابرة عبر باكستان باتت محمية ليس فقط بالتعاون الثنائي، بل أيضاً بظلّ بكين. والرياض لا تخسر في المعادلة: إذ بربط أمنها الطاقي بشريك يعتمد مباشرة على الصين، تضمن ضمناً رضاها. المناورة دقيقة: المملكة، التي تبقى مرتبطة بمورّدي السلاح الأمريكيين، تفتح في الوقت نفسه نافذة للصين، دون قطيعة فجائية بل في إطار تكاملي، مع إبقاء خيار الانضمام إلى مجموعة البريكس+ مطروحاً.
تجاوزاً لغوادر، يتعلّق الأمر بتوازن الطاقة العالمي. فبكين، من خلال تعزيز دور باكستان في أمن الخليج العربي، تكتسب ورقة ضغط إضافية على أوبك+. وبموازنة علاقاتها مع السعوديين والإيرانيين معاً، تستطيع التأثير في قرارات الإنتاج ودفع تنويع التسويات بعيداً عن الدولار. بالفعل، بعض العقود أُبرمت باليوان، أو بالذهب، أو بالموارد، أو بالعملات المحلية. الحركة ما تزال هامشية، لكن رمزيتها قوية: فهي ترسّخ الصين كفاعل لا غنى عنه في إدارة النظام الطاقي العالمي.
هذا التقدّم المتخفّي يلبّي طموحاً أوسع. بكين لا تستهدف فقط تأمين “طرق الحرير”، بل تسعى لنقل مركز الثقل الاستراتيجي نحو آسيا. خلال عقد واحد، الهدف معلن: بناء هيمنة مزدوجة، اقتصادية وعسكرية، تمتد من الأطلسي الإفريقي إلى المحيط الهادئ. باكستان هي الأداة المثالية لهذا المشروع. فبالاعتماد على إسلام آباد، تحصل بكين على ذراع عسكري في الشرق الأوسط، عمق استراتيجي في جنوب آسيا، وموطئ قدم خفي في الخليج.
هذا الأسلوب يختلف تماماً عن المنهج الأمريكي. واشنطن تستعرض تحالفاتها، تكثر من الانتشارات، وتؤسس قواعد دائمة. بكين تفضّل التخفي النسبي، التفويض، والسيطرة عبر الاقتصاد واللوجستيك. حيث يغلق الأمريكيون المشهد بالقوة، تثبّت الصين حضورها عبر التدفقات. وضمن هذه المنطق، كل اتفاق بين الرياض وإسلام آباد، كل تمديد للممر CPEC، وكل تسليم لمعدات مزدوجة الاستخدام، ليس مجرد تفصيل تقني بل لبنة في صرح أكبر.
هكذا تتشكل إعادة تركيب صامتة: فوق الخليج تواصل الطائرات الأمريكية التحليق، لكن في الكواليس ترسم الممرات الصينية، المؤمّنة بالجيش الباكستاني، ملامح المستقبل.

الخليج في إعادة تشكّل تحت النفوذ الصيني – الباكستاني

قمة شرم الشيخ للسلام في غزة، المنعقدة يوم 13 أكتوبر، كرّست مساراً كان يتكشف منذ أسابيع: الخليج لم يعد مجرد ساحة تنافسات محلية، بل تحوّل إلى مسرح إعادة تركيب تتقاطع فيه اليوم الأجندات الأمريكية، الصينية، الإيرانية، السعودية والباكستانية. الاجتماع، الذي دعت إليه مصر بدفع من الولايات المتحدة وبحضور نحو عشرين وفداً، طرح أفق وقف إطلاق نار دائم في غزة وآلية للاستقرار. لكن خلف البيانات، كان الإشعار السياسي أوسع: تقارب إقليمي غير مسبوق، حيث اصطفّت الدوحة والرياض وحتى أبوظبي حول ضرورة كبح التصعيد الإسرائيلي.
هذا التوافق، الهش لكنه واقعي، يدين بالكثير لدخول باكستان على الخط. فمنذ اتفاق 17 سبتمبر العسكري، لم تعد إسلام آباد مجرد مزوّد لليد العاملة العسكرية كما كان في الثمانينات والتسعينات مع إرسال كتائب إلى السعودية. اليوم تقدّم نفسها كقوة ردع، قادرة على إسقاط قوة نووية ضمنية، وعلى توفير للسعوديين درعاً استراتيجياً لا واشنطن ولا أوروبا مستعدتان لتوليه مباشرة. هذه الوضعية تغيّر المعادلة: تمنح الخليج محاوراً عسكرياً جديداً وموثوقاً، لكنها في الوقت نفسه تُدخل المنطقة في مدار صيني بحكم الأمر الواقع، إذ إن بكين هي الراعي الصامت لهذا الدور الباكستاني.
بالنسبة لملوك الخليج، لإعادة التشكيل هذه مزايا عدة. فهي تتيح موازنة العلاقة مع واشنطن التي باتت غير متوقعة وأحياناً مُرهِقة في إملاءاتها. وتوفّر وزناً موازناً لإيران مع الإبقاء على الانفراج الذي بدأ عام 2023 بوساطة صينية. كما تُدخل لاعباً جديداً، هو باكستان، يمكن الاستعانة به في مهمات حساسة: حماية محطات النفط، تأطير قوات خاصة، أو مراقبة طرق الملاحة في بحر عُمان.
من زاوية شي جينبينغ، العملية بارعة. بإدخال إسلام آباد في معادلة أمن الخليج، تكسب الصين عدة أوراق بكلفة زهيدة. أولاً، تتجنب الظهور كقوة متدخلة، ما يسمح لها بالحفاظ على علاقات تجارية سلسة مع جميع قوى المنطقة، بما في ذلك الكيان الصهيوني، خاصة في مرحلة ما بعد نتنياهو. ثانياً، تعزّز استثماراتها الاستراتيجية بتأمين تدفقات الطاقة عبر وسيط موثوق. ثالثاً، تضع نفسها كوسيط ضمني: الرياض والدوحة تعلمان أن بكين تمسك بورقة ضغط على إسلام آباد، وأن هذه الورقة يمكن تفعيلها لضبط أي انزلاق.
هذه التركيبة تُضعف إسرائيل. فالضربة في الدوحة، التي أرادتها تل أبيب دليلاً على قدرتها على الضرب في أي مكان، أدت عكس ذلك: سرعت الاصطفاف الإقليمي ضد مغامرات عسكرية إسرائيلية جديدة. الآن، أي عملية خارج غزة تعرض نتنياهو ليس فقط للتنديد الدبلوماسي، بل لردّ منسّق قد تلعب فيه باكستان أدواراً أولى. حتى وإن ظلّ التهديد النووي الذي تداولته بعض وسائل الإعلام في خانة الادعاء، فإنه يكفي لإدخال عنصر ردع غير مسبوق على إسرائيل.
أما واشنطن، فوجدت نفسها متجاوزة. صحيح أنها ما زالت تملك قواعد وقوات جوية قادرة على الضرب، لكن دورها بات أقرب إلى إدارة الأزمات منه إلى رسم الاستراتيجيات. “الضمانة” التي منحتها لقطر سدّت ثغرة، لكنها كشفت أيضاً حجم الهشاشة. في العواصم الغربية، يلاحظ أن الدبلوماسية الأمريكية، التي كانت يومًا وصائية، باتت تقتصر على احتواء تداعيات إبادة همجية لا يبدو أن إسرائيل تطمحإلى كبحها، فيما تستثمر بكين الموقف بمنهجية.
باختصار، الخليج لم يعد وعاءً لصراعات متفرقة، بل صار منطقة تفرض فيها الصين، عبر باكستان، إيقاعها تدريجياً. الرياض تجد فيه عمقاً استراتيجياً، الدوحة ضمانة للبقاء، وبكين منصّة لتوسيع نفوذها. كل ذلك على حساب نتنياهو المعزول وترامب الذي يجد نفسه في دور رجل الإطفاء.

إسرائيل مُضعَفة وواشنطن مُربَكة

الإبادة التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي يتجاهلها معظم الدول العربية، نعم. لكن ضربة الدوحة في سبتمبر شكّلت نقطة تحوّل. للمرة الأولى يستهدف الكيان الصهيوني أرضاً مرتبطة مباشرة بأكبر وجود عسكري أمريكي في الشرق الأوسط. بضربه قرب قاعدة العديد، تجاوزت تل أبيب خطاً أحمر: التشكيك في مصداقية المظلّة الأمنية الأمريكية.
ردّ واشنطن كان فورياً لكنه كاشف. فبوعدها “بضمانة أمنية” لقطر، حاول البيت الأبيض استعادة الثقة من دون أن يقيّد نفسه بمعاهدة دفاع. بعبارة أخرى، أعلنت الولايات المتحدة تضامنها، لكنها تجنبت الدخول في مواجهة تلقائية مع إسرائيل. هذه الازدواجية أضعفت صورتها في المنطقة: في نظر ممالك الخليج، تبدو واشنطن أسيرة تحالفها مع تل أبيب، عاجزة عن التوفيق بين استقرار المنطقة وحماية مطلقة لننتنياهو.
بالنسبة لإسرائيل، الصدمة مزدوجة. عسكرياً، أظهرت عملية الدوحة قدرتها على الإيذاء، لكنها كشفت أيضاً حدودها: بفتح جبهة جديدة، عرّضت نفسها لردّ منسق. سياسياً، تعمّق العزل. الدعم العلني من باكستان لإيران خلال “حرب الأيام الإثني عشر” أدخل لاعباً جديداً في المعادلة: بلداً مسلماً يملك سلاحاً نووياً، مرتبطاً بالرياض ومرتبطاً ببكين. حتى وإن لم تؤكد إسلام آباد تهديدات الرد النووي التي روّجتها بعض وسائل الإعلام الإيرانية، فإن مجرد تداول الفكرة كان كافياً لإدخال عنصر ردع غير مسبوق.
النتيجة بادية في العواصم الغربية. في بروكسل، باريس أو برلين، يلاحظ الدبلوماسيون أن الكلفة السياسية للانحياز للكيان الصهيوني أصبحت ثقيلة. أما في واشنطن، فالإدارة تكثر من الضغوط الخفية على تل أبيب لقبول الهدنة في غزة، جرى تثبيتها رمزياً في شرم الشيخ. لكن هذه الضغوط تكشف أساساً عن مأزق: للمرة الأولى، يضطر البيت الأبيض إلى كبح جماح حليفه تفادياً لانفجار إقليمي قد يهدد قواعده ومصالحه الطاقية.
هذا التحوّل يخدم بكين. فكل خطأ إسرائيلي، وكل غموض أمريكي، يوسّع الهامش الذي تتحرك فيه الصين لتدفع بقطعها. عبر تنسيق خفي لاصطفاف الرياض، الدوحة، طهران وإسلام آباد، تعرض الصين بديلاً مقنعاً للنظام الأمني الذي تهيمن عليه واشنطن. وفي هذه المعادلة الجديدة، لم يعد يُنظر إلى إسرائيل كقوة مهيمنة بل كمصدر اضطراب يسعى حتى حلفاؤها إلى احتوائه.
هكذا، بينما كانت تل أبيب تظن أنها تُظهر قوتها، تكشف عن هشاشتها: عاجزة عن السيطرة على جبهات متعددة، معزولة دبلوماسياً، ومواجهة الآن باكستان، بينما الأخيرةمصطفة مع مصالح الصين. أما الولايات المتحدة، فوجدت نفسها في موقع دفاعي غير مسبوق، مضطرة لمنع حليفها من تخطي خطوط حمراء جديدة، فيما تراقب الصين وهي تملأ الفراغات التي تُركت شاغرة.

التأثير جنوب الآسيوي: كشمير، الممرات والبحار الدافئة

في جنوب آسيا، لا يُعدّ باكستان مجرد شريك مريح لبكين، بل هو مفصلها الاستراتيجي. كشمير، التي تبقى موضع نزاع دائم، تُبقي التوتر قائماً مع الهند. هذا الخط الحدودي، الذي لم يهدأ يوماً، يفرض على نيودلهي تجميد جزء مهم من قواتها. بالنسبة للصين، هو مكسب أساسي: ما دامت القوات الهندية مشغولة في الشمال الغربي، فإنها عاجزة عن الانتشار الكامل في المحيط الهندي أو على الجبهة الشرقية في مواجهة جيش التحرير الشعبي. شي جينبينغ لا يحتاج إلى دفع نحو حرب مفتوحة: مستوى ثابت من التوتر يكفي لتجميد التوازن.
هذا الضغط الترابي يترافق مع منظومة اقتصادية. فالممر الاقتصادي الصيني – الباكستاني (CPEC)، العمود الفقري لمبادرة “الحزام والطريق”، يربط شينجيانغ بميناء غوادر على بحر العرب. هذا الممر ليس مجرد طريق تجاري: بل يشكّل منفذاً للطاقة بعيداً عن مضيق ملقا، المعرّض لأي أزمة بحرية. فالنفط السعودي، الإماراتي أو القطري يمكنه، عبر هذه الطريق، الوصول مباشرة إلى الأراضي الصينية من دون المرور بالمسارات البحرية التي تتحكم بها البحرية الأمريكية والبريطانية.
غوادر ليس ميناءً معزولاً: ترافقه مناطق اقتصادية خاصة، بنى تحتية للسكك الحديدية، وحضور متزايد لسفن الدعم. وصول وحدات من خفر السواحل الباكستاني، مدعومة بتقنيات مراقبة صينية، حوّل المكان إلى نقطة ارتكاز هجينة، مدنية وعسكرية معاً. ومن دون رفع علمها، باتت الصين تمتلك رأس جسر في بحر العرب، مكملاً خفياً لقاعدتها في جيبوتي على البحر الأحمر.
هذه المنظومة اللوجستية تغذّي رؤية سياسية. فباكستان تتحول إلى وكيل استقرار توكله بكين للرياض والدوحة: جيش كبير، متمرّس في حروب غير متكافئة، قادر على حماية محطات أو مرافقة قوافل من دون أن تضطر الصين لنشر قواتها مباشرة. السعودية تجد فيه شريكاً عسكرياً جاهزاً؛ قطر ضامناً ضمنياً لأمنها؛ وطهران جاراً رادعاً في مواجهة إسرائيل. الكل يستفيد، لكن المفتاح يبقى في تبعية إسلام آباد لبكين التي تدير العملية من وراء الستار.
يبقى ملف الهند، قوة أكبر من أن تُهمّش. بكين تراهن على الوقت. حكومة مودي اختارت المواجهة، لكن علامات الإرهاق واضحة: موازنات عسكرية في ارتفاع دائم، عجز تجاري متفاقم، تبعية تكنولوجية لمكوّنات صينية في قطاعات حيوية مثل الصيدلة والإلكترونيات. على المدى المتوسط، تراهن الصين على إنهاك استراتيجي قد يدفع الهند، بعد مودي أو تحت ضغط طبقتها الاقتصادية، إلى تفضيل عدم الانحياز البراغماتي. لن يكون ذلك تحالفاً مع الصين، بل تسوية عملية: تهدئة تقنية في لاداخ، انسياب أكبر للتجارة، والحفاظ على استقلالية استراتيجية إزاء الولايات المتحدة.
في هذا المشهد، يلعب باكستان دوراً محورياً. فبإبقاء التوتر في كشمير، وبضمان الممرات الطاقية، وبمنحه الصين عمقاً بحرياً، يفرض على الهند ضغطاً مستمراً من دون مواجهة مباشرة. هنا تكتسب صورة “الحصان الرابح” الباكستاني معناها الكامل: منضبط، تحت سرج الصين، يرسم الطريق الذي يصل الخليج بجنوب آسيا، ويحدد مجال حركة جاره الهندي الكبير.

من اثني عشر إلى أربع وعشرين شهراً: المسار الذي ترسمه بكين على المدى المتوسط

على المدى القصير، يُنتظر أن تتجسّد آثار هذا إعادة التموضع في دوائر متداخلة. في الخليج أولاً، حيث بدأ يتشكّل محور الرياض – الدوحة – إسلام آباد. الحديث جارٍ عن آليات مشتركة للدوريات وإزالة الألغام في بحر عُمان، إضافة إلى تبادل صور الأقمار الصناعية وبيانات الطائرات المسيّرة. مثل هذا التعاون، حتى لو كان جزئياً، سيقلّص اعتماد العرب على الوسائل الأمريكية والغربية عموماً، ويُكرّس باكستان كأول ضامن عسكري إقليمي.
على الجبهة الطاقية، قد يظهر الأثر أسرع مما يُتوقّع. بعض العقود التجريبية بين الصين ومنتجي الخليج العربي سُدّدت بالفعل باليوان أو بعملات محلية مثل الدرهم والريال. إذا انتشرت الممارسة، ولو بشكل هامشي، فإنها ستقوّض مركزية البترودولار في معاملات النفط. مقترنةً بصعود التحالف السعودي – الباكستاني في حماية المحطات وطرق الملاحة، يمكن أن تمنح الصين ورقة ضغط غير مسبوقة على أوبك+: ليس عبر الإنتاج بل عبر الاستقرار اللوجستي والنقدي.
في جنوب آسيا، ستزداد الضغوط على الهند. نيودلهي ستواصل على الأرجح خطاب الصلابة العلني، لكن الحقائق المالية ستفرض خيارات. عبء كشمير المزدوج مع الوجود البحري الصيني في المحيط الهندي يثقل كاهل ميزانيتها العسكرية. خلف الخطاب، ستُفتح قنوات تقنية: إدارة الحدود، تعاون صيدلاني، تبادلات في قطاع الإلكترونيات، وملف “الغاز الروسي”. هذا الحوار الهادئ سيُقدَّم كبراغماتي، لكنه يعكس انزياحاً نحو عدم انحياز نفعي، حيث تحدد الصين خطوط التهدئة.
أما بالنسبة لإسرائيل وواشنطن، فالأفق ضيّق. الولايات المتحدة ستواصل حماية قواعدها وإظهار التضامن مع تل أبيب، لكن دورها سيبقى أقرب إلى إدارة الأزمات منه إلى التخطيط الاستراتيجي. “الضمانة” المقدمة لقطر قد لا تكون أكثر من وعد سياسي بالحد الأدنى لطمأنة الشركاء العرب. إسرائيل، من جهتها، ستضطر للتكيف مع واقع جديد: عملياتها الخارجية تصطدم اليوم بتحالف غير رسمي يضم قوى نووية ويتحرك تحت المظلّة الصينية.
باختصار، العامان المقبلان لن يشهدا انقلاباً دراماتيكياً بل ترسيخاً هادئاً: ممرات طاقية يحميها الباكستانيون، تسويات جزئية خارج الدولار، مثلث بكين – الرياض – طهران، وتأطير عسكري إقليمي تقوده إسلام آباد كذراع مسلّحة للصين. صورة “الحصان الرابح” تأخذ هنا بعداً بنيوياً: الصين تحدد الوتيرة، باكستان ترسم الطريق، والخليج العربي يصبح مضماراً يُختبر فيه إعادة توزيع موازين القوى العالمية.

شارك المقال

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

French