نزارالجليدي يكتب: جائزة نوبل للسلام أم للصهيونية؟ - صوت الضفتين

نزارالجليدي يكتب: جائزة نوبل للسلام أم للصهيونية؟

 

 

الكاتب الصحفي والمحلل السياسي نزار الجليديNizarjlidimariem@gmail.com
الكاتب الصحفي والمحلل السياسي نزار الجليدي Nizarjlidimariem@gmail.com

من خلال تتويج “تاتشر الفنزويليةماريا كورينا ماتشادو، لم تكرِّم لجنة أوسلو لجائزة نوبل مجرد معارضةٍ لنظامٍ استبدادي، بل وجّهت إشارةً سياسية واضحة. فالأمر لا يتعلق بإنشادٍ للديمقراطية بقدر ما هو تأكيد صارخ على تحوّل جائزة نوبل إلى أداةٍ من أدوات السياسة الخارجية الغربية الليبرالية. بين تهنئة بروكسل، ومباركة تل أبيب، وامتعاض البيت الأبيض الذي حُرم من المجد الرمزي، تُعبّر جائزة عام 2025 عن حقيقةٍ واحدة بسيطة: لا بدّ من أن تكون – ضمنيًا أو علنًا – منسجمًا مع المشروع الصهيوني كي تُكافأ بالجائزة.

الأسلوب نفسه يتكرر منذ عقود: اختيار شخصية تجمع بين التعاطف الأخلاقي والمصلحة الاستراتيجية. ماريا كورينا ماتشادو، التي اختارتها أوسلو لنيل الجائزة، تجسّد تمامًا هذه المعادلة. فهي عاشت “المنفى الداخلي” – في السرية، محرومة من حق الترشح – وتمثل الجناح المتشدد في مواجهة نيكولاس مادورو. لكنها تحمل في الوقت ذاته الوجه الآخر للصورة: علاقات معلنة مع حزب الليكود الإسرائيلي، وتصريحات متكررة عن “تضامنها مع إسرائيل” منذ 7 أكتوبر 2023، وبرنامجٌ سياسي يعد بعودة فنزويلا إلى حضن واشنطن (وبالضرورة، تل أبيب).
اللجنة لم تُخفِ نواياها، إذ برّرت قرارها بأنه تكريم لـ”النضال من أجل انتقالٍ عادل وسلمي نحو الديمقراطية”. المؤسسات الغربية صفّقت، والأمم المتحدة تحدثت عن “تحيةٍ لتطلعات الشعوب“، ومعهد أوسلو لأبحاث السلام وصفها بأنها “جائزة للديمقراطية“. غير أن الضجيج الدبلوماسي أخفى نغمةً أخرى أكثر وضوحًا: نغمة دبلوماسية انتقائية تعرف كيف تميّز حلفاءها، وتُكافئهم على ولائهم. وهنا يُطرح السؤال الجوهري: هل تحتفي أوسلو بالمقاومة المدنية… أم تُصادق على مسارٍ جيوسياسي مرسوم سلفًا؟

ماتشادو، النموذج المثالي: “شجاعة مدنية” أم علامة جيوسياسية؟

الرواية التي اختارتها أوسلو تبدو بسيطة لكنها ذات وقعٍ قوي. ماريا كورينا ماتشادو، البالغة من العمر 58 عامًا، مهندسةٌ بالأساس، ظهرت كزعيمةٍ لمعارضةٍ ممزقة ومشتتة، جمعت بين خصومها، وحشدت الشارع، وتجسّد، بحسب لجنة الجائزة، “المقاومة السلمية” في بلدٍ كمّم فيه القمع أصوات معظم القادة. حياتها في السرية قدّمت المشهد الأمثل: الفائزة ليست منفيةً ولا باحثةً عن الأضواء، بل بقيت داخل فنزويلا “مضطرة للعيش في الظل“، كما ورد في البيان الرسمي. إنها الصورة الكلاسيكية لـ”بطل نوبل“.
لكن وراء هذا البورتريه المثالي، تكمن تفاصيل سياسية لا تقل أهمية. فماتشادو لم تكتفِ بخطابٍ انتخابي، بل تبنّت مواقف واضحة تُحدّد موقعها داخل الجغرافيا السياسية لعصرنا. لقد عبّرت علنًا عن تأييدها لإسرائيل بعد 7 أكتوبر 2023، وأبرمت اتفاقات تعاون مع حزب الليكود، ووعدت – إذا وصلت إلى الحكم – بنقل السفارة الفنزويلية في فلسطين إلى القدس. هذه المواقف ليست عرضية، بل تجعل منها محاورة مريحة لكلٍّ من واشنطن وتل أبيب. وعندما تختارها أوسلو، فإن التكريم لا يطال “الديمقراطية الفنزويلية” فحسب، بل يشمل أيضًا ولاءً استراتيجيًا للغرب الليبرالي الخانع للصهيونية.
ردود الفعل الرسمية كانت صريحة. أورسولا فون دير لاين وصفت الجائزة بأنها “رسالة قوية للديمقراطية“، فيما تحدّث معهد أوسلو لأبحاث السلام عن “جائزة من أجل انتخاباتٍ نزيهة“. في المقابل، اعتبر الجهاز الدبلوماسي الإسرائيلي والدوائر الأطلسية أن الاختيار يؤكد أن الجائزة تُستخدم لترسيخ التحالفات القديمة، إذ تجسّد ماتشادو – عن قصدٍ أو بدونه – أحد أكثر السرديات الغربية راحةً: معارضة “معتدلة”، ليبرالية السوق، موالية للغرب، يمكن تسويقها كبديل “شرعي” في مواجهة سلطة توصَفَ اختزالًا بـ”المافيا“.
هذا الاختيار ليس بريئًا ولا ثقافيًا، بل يخضع لمنطق سياسي واقعي. فبالنسبة إلى الحكومات الساعية إلى إضعاف مادورو دون خسارة شريكٍ ودود، تُعدّ ماتشادو المرشحة المثالية: شجاعة ميدانيًا، ومنسجمة سياسيًا مع المصالح الامبريالية. أما بالنسبة لأوسلو، فالمكسب فوري: إشادةٌ دولية، وضجةٌ إعلامية، وصورة لجنةٍ مخلصةٍ لـ”الدفاع عن القيم الليبرالية” – حتى وإن كانت هذه القيم تُترجَم، عمليًا، إلى اصطفافاتٍ جيوسياسية صريحة.

جائزة نوبل كمنبرٍ للرواية الغربية

ما إن أُعلِن عن الفائزة حتى سارعت العواصم الغربية إلى التصفيق. أورسولا فون دير لاين نصّبت نفسها راعيةً رسمية للحدث قائلةً: “عطش الحرية لا يُكمَم أبدًا”. برلين أشادت بـ”التزام ماتشادو الطويل“، وأوسلو، على لسان رئيس اللجنة فريدنِس، تحدثت عن “إلهامٍ لملايين الناس“. هذا التناغم ليس صدفة، بل يعكس منطق الاصطفاف داخل معسكرٍ واحد.
منذ عقدين، باتت جائزة نوبل للسلام تميل إلى أداء دور أداةٍ للتماهي السياسي: تُكرَّم شخصيات تُعزّز الرواية الغربية، حتى لو كان مسارها الفعلي أكثر التباسًا. بعد نرجس محمدي (إيران) عام 2023، جاء الدور على فنزويلا، التي تُقدَّم اليوم كأنها ساحة صراعٍ مبسّط بين “دكتاتورية” و”ديمقراطية“. الاختيار يحمل رمزية فورية: إنه يمنح المعارضة الفنزويلية صوتًا عالميًا ودعمًا غير مباشر لحلفاء كاراكاس في المنفى.
لكن هذا التكريم يسير في اتجاهٍ واحد: الأمم المتحدة تهنئ ماتشادو لكنها تصمت تمامًا أمام عشرات آلاف القتلى في غزة. المؤسسات نفسها التي تُمجّد “شجاعة” المعارضة الفنزويلية، تعجز عن تسمية الجرائم الإسرائيلية بما هي عليه: جرائم حرب وإبادة لشعبٍ محاصر على الساحل الفلسطيني. وهنا يتصاعد النقد: جائزة نوبل تتحول إلى مسرحٍ يمنح الغرب صورةً أخلاقيةً مجانية، بينما يتجاهل المآسي التي تُحرجه.

ترامب… بين الهوسٌ والضمأ

المفارقة مع دونالد ترامب صارخة. فالرجل، الذي تحول من مطوّرٍ عقاري إلى “قائدٍ دبلوماسي“، يكرر منذ شهور أنه “يستحق جائزة نوبل“. عدّد ثمانية نزاعاتٍ قال إنه أنهاها — من غزة إلى إثيوبيا مرورًا بالقوقاز — وأعلن نفسه “صانع سلام تاريخي“. ظلّ ظلّ الجائزة المرفوضة يلاحق كل تصريحٍ له.
البيت الأبيض عبّر عن مرارة واضحة: “اللجنة اختارت السياسة على حساب السلام”، قال المتحدث ستيفن تشيونغ. بالنسبة لترامب، إنها إهانة رمزية قاسية: فقد دعم إسرائيل بلا قيدٍ ولا شرط، ورعى هدنةً مؤقتة في غزة، ومارس دبلوماسيةً صاخبةً بدت له كافية لتستحق تتويجًا. لكن أوسلو حسمت موقفها: حروبه المتوقفة لم تُعتبر “ذات مصداقية” ولا “مستدامة“، وأساليبه صادمة لصورة نوبل التقليدية رغم نتائجها الملموسة.
المفارقة مزدوجة: من جهة، تُكرَّم معارِضةٌ لم تحكم يومًا وبرنامجها مطابقٌ للأجندة الغربية؛ ومن جهة أخرى، يُتجاهَل رئيسٌ – مهما كانت خطاياه – تدخل فعليًا في ملفات الحرب والسلام في الشرق الأوسط، إفريقيا والقوقاز. بالنسبة لأنصاره، إنها فضيحة واضحة. أما خصومه، فيرون في اختيار اللجنة تأكيدًا جديدًا على أن نوبل لم تعد جائزة “محايدة”، بل وسامًا يُمنَح وفق شيفرةٍ أيديولوجية دقيقة.

جائزة تحولت إلى أداة سياسية

قضية ماتشادو تُجسّد اتجاهًا قديمًا متجددًا: جائزة نوبل للسلام لم تعد تُمنَح لصنّاع المصالحة الحقيقيين، بل لشخصيات رمزية تخدم سرديةً معينة. غاندي لم يحصل عليها يومًا، بينما نالها كيسنجر – مهندس مجازر فيتنام وكمبوديا – عام 1973. أما باراك أوباما، فحصل عليها عام 2009 قبل أن يُكثّف حرب الطائرات المسيّرة. واليوم، تُرفَع ماريا كورينا ماتشادو – الداعمة العلنية لإسرائيل ونتنياهو ولـ”نقل السفارة إلى القدس” – إلى مصافّ “رمزٍ عالمي“.
هذا التسييس صار فاضحًا: كتاباتها التي دعت فيها إلى تدخلٍ أجنبي في فنزويلا، واتفاقاتها مع حزب الليكود، ودعمها العلني للإبادة في غزة، كلها عناصر كان يُفترض أن تُسقِط ترشحها باسم مبادئ ألفرد نوبل نفسه. لكن المفارقة أن هذه القرب الأيديولوجي هو ما رجّح كفتها. لم تُتَوَّج ناشطة فنزويلية مستقلة، بل حليفة لواشنطن وتل أبيب.
بالنسبة للمنتقدين، هذا الاختيار يقوّض مصداقية المؤسسة. فعندما مجلس العلاقات الأمريكية الإسلامية يصف القرار بأنه “غير معقول“، فهو يعبّر عن غضبٍ أوسع: نوبل تُرى اليوم كأداةٍ تُكرّس الرواية الغربية، تبرّر جرائم معينة وتتجاهل مقاوماتٍ أخرى.

تعيين ماتشادو، بما يتجاوز الجدل، يُكرّس تحولًا أعمق: نوبل لم تعد فضاءً للاعتراف الإنساني الشامل، بل ساحة صراعٍ رمزي تُوزَّع فيها الأوسمة لطمأنة العواصم الغربية وتلميع وجوه حلفائها وتهميش الأصوات المعارضة.
قد يشعر ترامب بأنه خُدِع، لكنه ليس سوى ضحية جانبية لنظامٍ لم يعد يكافئ السلام بل الولاء الأيديولوجي. الحروب مستمرة، غزة تحترق، أوكرانيا تغرق في الاستنزاف، وتايوان تحت التهديد. لكن أوسلو، المخلصة لعاداتها القديمة، تفضّل أن تُقدّس ناشطة مؤيدة لإسرائيل وتُقدَّم كـ”مستقبل الديمقراطية”.
وراء الخُطَب عن “الشجاعة والأمل”، تتبدّى حقيقة بسيطة: نوبل للسلام لم تعد تُكرّم السلام، بل تُكرّس السلطة.

شارك المقال

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

French