تقرؤون للكاتب والمحلل السياسي نزارالجليدي الصين – تايوان: بين نهاية الحرب الباردة وبداية المواجهة المفتوحة


من خلال إصدار مذكرات توقيف ضد عسكريين تايوانيين، أظهرت بكين أنها لم تعد تكتفي بعروض القوة الجوية والبحرية. في المقابل، ترد تايبيه بمشروع “قبة دفاع جوي” مستوحى من النموذج الإسرائيلي. وبين الجانبين، تمارس واشنطن لعبة مزدوجة من التهديد والاحتواء، كاشفةً أن الصراع بات يتجاوز بكثير مضيق تايوان.
خلال الأسابيع الأخيرة، تسارعت وتيرة التوتر في العلاقات الصينية–التايوانية. فقد قررت الصين وضع وجوهٍ وأسماءٍ على من تتهمهم بـ”الانفصالية”، معلنةً مكافآت لمن يساعد في اعتقال ثمانية عشر ضابطًا تايوانيًا. هذه الخطوة ليست رمزية فحسب، بل تعبّر عن تحوّلٍ نوعي في الاستراتيجية الصينية: من حرب استنزافٍ عسكرية إلى سياسة إكراهٍ مباشرة مغطاةٍ بالشرعية القانونية.
في الجهة المقابلة، استغلّ الرئيس وليام لاي خطابه في العيد الوطني ليعلن عن إنشاء درعٍ جويّ شامل سيغطي الجزيرة بحلول نهاية العقد، داعيًا بكين إلى “التخلّي عن خيار القوة”.
ولا تأتي هذه التطورات بمعزلٍ عن السياق الدولي. فالإدارة الأمريكية، المنشغلة بخلافاتها التجارية مع الصين وبالانقسام داخل الكونغرس، تبدو مترددة في تأكيد التزامها بدعم تايوان. فقد جمّد دونالد ترامب مساعداتٍ عسكرية بقيمة 400 مليون دولار كانت مخصصة لتايبيه، مقابل وعودٍ بفرض عقوباتٍ اقتصادية جديدة على بكين. والنتيجة: كل طرفٍ يختبر حدود خصمه، حتى ولو أدى ذلك إلى تجاوز الخطوط التي كانت تضبط، حتى الأمس القريب، إيقاع حربٍ باردةٍ صامتة تحوّلت اليوم إلى مواجهةٍ مكشوفة.
الصين تنتقل من الردع العسكري إلى “الإكراه القانوني”
لم تعد بكين تكتفي بالمناورات الرمزية. فبعد سنواتٍ من الدوريات، والاختراقات الجوية، والتحذيرات الدبلوماسية، اختارت الصين هذه المرة تخصيص العدو وتحديده بالاسم والصورة. القائمة التي نشرها مكتب الأمن العام في مدينة شيامن، والتي تضم أسماء وصور وأرقام تعريف ثمانية عشر ضابطًا تايوانيًا، تمثل أوضح دليل على هذا التحوّل. فالإعلان عن مكافآت لمن يُبلغ عنهم يعني عبور مرحلة جديدة في الحرب النفسية: لم يعد الأمر استعراضًا للقوة فحسب، بل محاولة لغرس فكرة أن هؤلاء العسكريين مجرمون في نظر الدولة الصينية.
هذا الأسلوب ليس جديدًا تمامًا. ففي جوان الماضي، كانت بكين قد نشرت قائمة تضم عشرين “هاكرًاعسكريًا” تايوانيًا على حد تعبيرها. الجديد اليوم هو توسيع نطاق الاستهداف ليشمل شخصيات معروفة داخل المنظومة الدفاعية للجزيرة، وليس فقط مختصين مجهولين. إنها حربٌ إدراكية، يُعرَّف فيها العدو ويُعرَض على العلن، ليُوضع في موضع ضعف أمام أبناء بلده.
رسميًا، تبرر الصين هذه المذكرات بأنها جزء من “مكافحة الدعاية الانفصالية”. لكن في الواقع، الرسالة موجهة إلى ثلاثة أطراف. أولًا، إلى المجتمع التايواني نفسه، لبثّ الخوف والانقسام. ثانيًا، إلى الحلفاء الغربيين لتايوان، للتذكير بأن لبكين أدوات ضغط تتجاوز الميدان العسكري. وثالثًا، إلى الرأي العام الداخلي، لإظهار أن الحزب الشيوعي لا يتهاون في قضايا “الوحدة الوطنية”.
التوقيت ليس بريئًا. فإصدار أوامر التوقيف جاء بعد 24 ساعة فقط من خطاب الرئيس وليام لاي الذي أعلن فيه مشروع إنشاء نظام دفاع جويّ مماثل لـ”القبة الحديدية” الإسرائيلية. الرسالة واضحة: كل خطوة من تايبيه – أو من واشنطن – ستُقابل بردٍّ فوري.
لكن هذا الانزلاق نحو ما تسميه بكين “الإكراه القانوني” يكشف مفارقة لافتة: فوفقًا للرؤية الغربية، لا تمتلك الصين أي سلطة قضائية على تايوان، ومذكرات التوقيف هذه لا قيمة قانونية لها دوليًا. غير أن قوتها تكمن تحديدًا في هذا التناقض: إذ عبر الادعاء بامتلاك حق محاكمة مواطنين تايوانيين، تُعيد بكين رسم الحدود بين سيادةٍ متنازعٍ عليها وسيادةٍ مفروضة، مما يجعل رفض هذا الادعاء أكثر صعوبة مع مرور الوقت.
تايوان تردّ: استعراض “القبة الوطنية”
على الضفة الأخرى من المضيق، اختار الرئيس لاي تشينغ-ته إظهار صلابته. فإعلانه عن مشروع منظومة دفاع جوي أطلق عليها اسم “تي-دوم”، على غرار “القبة الحديدية” الإسرائيلية، لم يكن خطوةً عسكريةً فحسب، بل رسالة سياسية مدروسة هدفها طمأنة الشارع التايواني وتذكير بكين بأن الجزيرة ليست فريسةً تنتظر مصيرها.
المشروع يقضي برفع الإنفاق العسكري إلى أكثر من 3% من الناتج المحلي ابتداءً من عام 2026، وصولًا إلى 5% بحلول 2030، في ما يشبه انتقالًا نحو اقتصادٍ تعبويٍّ حربي جزئي. المقارنة مع إسرائيل مقصودة: مساحة محدودة، دعم أمريكي، واستثمار في التفوق التكنولوجي الدفاعي. لكن التشبيه لا يصمد طويلًا. فبينما يحظى الكيان الصهيوني بدعمٍ أمريكي غير محدود، تواجه تايوان برلمانًا منقسمًا تهيمن عليه المعارضة القومية “الكومينتانغ”، التي دأبت على تعطيل الموازنات الاستثنائية للدفاع. لذا فإنّ وعود لاي قد تصطدم بواقعٍ تشريعيٍّ صعب.
الرهان السياسي واضح: الحديث عن “قبة” تحمي الوطن في يوم العيد الوطني يُغذّي خيال الأمن المطلق، في بلدٍ أصبحت فيه الطلعات الجوية الصينية مشهدًا شبه يومي. غير أنّ المعارضة ترى في الخطوة استعراضًا مكلفًا، وتذكّر بأنّ الرأي العام منقسمٌ أصلًا حول الموقف من بكين: فبينما يدعو البعض إلى تعزيز القدرات العسكرية، يفضّل آخرون خيار الحوار والإبقاء على الوضع القائم.
لكن الرسالة الأعمق موجّهة إلى واشنطن. فحين تتعهد تايبيه بتقوية دفاعاتها، فإنها تُرسل إشارةً إلى حليفها الرئيسي مفادها أنها لم تعد تكتفي بانتظار المساعدة الأمريكية، بل تسعى لتقديم نفسها كـ”شريكٍ مسؤول” يتحمّل نصيبه من العبء. إنها إجابة مباشرة على الانتقادات المتكررة من دونالد ترامب الذي طالب حلفاء بلاده بتمويل أمنهم بأنفسهم.
أما في نظر بكين، فالخطوة استفزازٌ جديد، ومحاولة لتحويل التبعية العسكرية إلى استراتيجية بقاء. لذلك جاء الرد الصيني قاسيًا: الحزب الشيوعي الصيني وصف الرئيس التايواني لاي بأنه “مشعل حرب”، في محاولةٍ لتقويض شرعيته وإقناع الرأي العام – داخل الجزيرة وخارجها – بأنّ مشروعه انتخابيٌّ أكثر منه ضرورةً استراتيجية.
بين واشنطن وبكين: فخّ الحرب بالوكالة
خلف المواجهة المباشرة بين بكين وتايبيه، يلوح ظلّ واشنطن كفاعلٍ حاسم في المشهد. فالرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الغارق في أزمة الإغلاق الحكومي الطويلة والمُنتقد بسبب تردده في تقديم المساعدات العسكرية، يتأرجح بين التهديدات التجارية ضد الصين وإشاراتٍ متناقضة تجاه تايوان. ففي سبتمبر، جمّد دفعةً بقيمة 400 مليون دولار من صفقات السلاح المخصصة للجزيرة، ما أثار الشكوك حول استعداد الولايات المتحدة لخوض صراعٍ قد يتطور إلى مواجهةٍ مباشرة مع بكين.
ومع ذلك، لا تُخفي الإدارة الأمريكية تمسّكها بدورها كحليفٍ أساسي. فدعوات الرئيس لاي المتكررة لترامب بـ”ردع شي جين بينغ” تعكس استراتيجية واضحة: دفع واشنطن إلى تبنّي دور الحامي الأخير، مع تقديم تايوان كخط الدفاع الأول عن “العالم الحرّ”. أما حديث لاي عن “جائزة نوبل للسلام” لترامب، فلم يكن مجرّد مجاملة دبلوماسية، بل محاولة ذكية لمداعبة غرور رئيسٍ متقلّب المزاج وحبسه داخل منطق الالتزام العلني.
في المقابل، ترى بكين في هذا السلوك خضوعًا تامًا للنفوذ الأجنبي. فبحسب الرواية الصينية، تايوان ليست سوى أداةٍ في يد الغرب تُستخدم لاحتواء الصين وإرباك صعودها. الاتهامات بـ”العمالة والتبعية” التي يصدرها مكتب شؤون تايوان في الحزب الشيوعي لا تستهدف الداخل الصيني فقط، بل الرأي العام العالمي أيضًا، خصوصًا في أوروبا والجنوب العالمي، لإقناعه بأنّ الخلل الحقيقي مصدره الغرب الذي يُغامر بأمن المنطقة من أجل إبقاء الصين تحت الضغط.
هذا التوازن الثلاثي هشّ للغاية. فترامب، المقيّد داخليًا بضعفٍ سياسي وانقسامات داخلية، قد يجد في التصعيد الخارجي وسيلةً لتعويض صورته، لكنه في الوقت نفسه قد يُضحي بتايوان كورقة تفاوضٍ في صفقاته التجارية مع بكين. أمّا الأخيرة، فتعرف هذا التردد الأمريكي وتستغله عبر تصعيدٍ نفسي وقانوني محسوب لتذكير الجميع بأن الحرب قد لا تبدأ بغزوٍ مفاجئ، بل بانزلاقٍ دبلوماسي تدريجي تُجبر فيه الأطراف على الردّ.
وهكذا، بدلاً من تخفيف التوتر، يتحول مضيق تايوان إلى مختبرٍ لحربٍ باردة جديدة، حيث لم تعد معادلة السلام تُقاس فقط بتوازن السلاح، بل بقدرة القادة على مقاومة إغراء التصعيد والانجرار إلى مواجهةٍ قد تُعيد رسم ملامح النظام الدولي بأسره.
نحو حربٍ باردة جديدة: تايوان كالجبهة الأولى لتحوّلٍ عالمي
ما يجري اليوم حول مضيق تايوان يتجاوز بكثير خلافًا إقليميًا بين بكين وتايبيه. فعمليات الاعتقال التعسفي لمواطنين تايوانيين داخل الصين، وإصدار مذكرات توقيف بحقّ عسكريين، وتزايد اختراقات الطائرات والسفن الحربية، كلها مؤشرات على تحوّلٍ من التهديد إلى العداء المعلن. الصين لا تُخفي نيتها خنق “المجال الديمقراطي” التايواني عبر مزيجٍ من الضغط العسكري والنفسي والقانوني.
لكن المعركة أوسع من ذلك. إنها اختبار لقدرة الديمقراطيات الغربية على الدفاع عن حلفائها أمام الأنظمة السلطوية. من وارسو إلى واشنطن، يدرك القادة أن مصير تايوان سيحدد توازن القوى في القرن الحادي والعشرين. وقد تجلّى هذا الوعي في مشاركة وفد تايواني بمنتدى الأمن في وارسو، حيث تراهن تايبيه على توثيق علاقاتها مع أوروبا الوسطى والشرقية، معتبرةً أن تجربة دول البلطيق في مواجهة روسيا قد تشكّل نموذجًا لها لمقاومة الصين.
في المقابل، تُحكم بكين تنسيقها مع موسكو، في ما يشبه قيام محورٍ سياسيٍّ وعسكريٍّ متماسك يُقلق العواصم الغربية. فكرة “الجبهة المشتركة” المعادية للغرب لم تعد مجرّد فرضية، بل واقعٌ يتبلور على الأرض، يجمع بين الإكراه العسكري والهيمنة التكنولوجية. ولهذا يسارع الغرب إلى بناء سلاسل توريدٍ مستقلة في قطاعات حساسة كالمسيرات، والرقائق الإلكترونية، وتقنيات المراقبة.
السؤال المطروح اليوم: هل نحن أمام نهاية الحرب الباردة القديمة أم أمام بداية فصلٍ جديدٍ منها، أكثر خطورةً واتساعًا؟ فالحرب الباردة السابقة استندت إلى توازنٍ نووي عالمي، أما الصراع الذي يتشكل حول تايوان فيجمع بين المواجهة العسكرية، وحرب المعلومات، والابتزاز الاقتصادي. إنها حربٌ في عالمٍ مفكك، تتبدّل فيه التحالفات بسرعة، وتبدو فيه الديمقراطيات نفسها مرتبكة وعاجزة عن تحديد خطٍّ موحّد.
تايوان باتت نقطة التحوّل. فمصيرها سيحسم مدى صدقية التزامات الغرب، وصلابة النظام الدولي، وقدرة العالم على تجنّب الانزلاق نحو مواجهةٍ شاملة.
إنّ ما نشهده ليس حادثًا دبلوماسيًا عابرًا، بل إعادة تشكّل سريعة للنظام العالمي. فبكين تتبنّى علنًا سياسة الردع والترهيب ضد الجزيرة، واثقةً بأن عامل الزمن يعمل لصالحها. أما تايبيه، فتصعّد لهجتها وتُدوّل قضيتها لتضمن بقاءها، ولو على حساب استفزاز الصين. وبينهما، تلعب واشنطن لعبة مزدوجة: تدعم الجزيرة عسكريًا لكنها تترك دائمًا غموضًا حول مدى التزامها الفعلي بالدفاع عنها.
في هذا المثلث الهش، يظهر دونالد ترامب كوسيطٍ محتمل لكنه في الواقع أقرب إلى مشعل النار. فبعد أن فقد بريقه الداخلي وحلم “نوبل السلام”، قد يجد في تايوان وسيلةً للضغط على الصين، حتى لو قاد ذلك إلى اشتعالٍ واسع في شرق آسيا.
الخلاصة أنّ القضية التايوانية لم تعد شأناً محليًا بل مرآةً لأزمة الديمقراطيات الغربية نفسها. فإذا اكتفى الغرب بردٍّ مترددٍ أو منقسم، ستخرج بكين أكثر جرأةً وثقةً، ومعها احتمالُ اللجوء إلى القوة. أما إذا دفعت واشنطن المواجهة إلى أقصاها، فقد يدخل العالم في مرحلةٍ جديدة تتجاوز الحرب الباردة نحو صدامٍ مباشرٍ، أشدّ خطورةً وأقلّ قابليةً للتنبؤ.